غزة... الجوع في حضن القيم الساقطة

لا حياد في المجاعة. الصامت شريك. المتفرج على موت الأطفال جوعًا، لا يملك أن يحدثنا عن الأخلاق أو النصرة أو الدين أو الحرية.

  • المجاعة في غزة (أرشيف).
    المجاعة في غزة (أرشيف).

في غزة، لا تجوع الأرض، بل الأرواح. لا يتألم الحجر من القصف فقط، بل يصرخ الإنسان من الجوع، من العطش، من الخذلان. في القرن الحادي والعشرين، بينما تتسابق الأمم نحو الفضاء والذكاء الاصطناعي، هناك من يموت لأنه لم يجد لقمة لطفله أو دواء لرضيعه.

أكثر من 37,700 شهيد، وقرابة 87,000 جريح، بحسب وزارة الصحة في غزة، معظمهم من الأطفال والنساء. حرب بلا رحمة، لا خطوط حمر، ولا مناطق آمنة. المدارس تُقصف، المستشفيات تُدمَّر، ومراكز الإيواء تتحول إلى مقابر جماعية.

لكنّ المجزرة لا تقف عند حدود القصف. الجوع بات الوجه الأفظع للعدوان. برنامج الأغذية العالمي أعلن رسميًا في تموز 2024 أن غزة دخلت مرحلة المجاعة، حيث 500 ألف إنسان مهددون بالموت جوعًا، وأكثر من 90% يفتقرون إلى الحد الأدنى من الغذاء. وثّقت الأمم المتحدة وفاة أطفال بسبب الجوع، مثل الطفلة سلمى الطناني (عام واحد)، والرضيع محمد أبو جراد (8 أشهر)، وبقيت التقارير حبراً على ورق دون أي نتيجة.

ما يحدث في غزة ليس كارثة طبيعية، بل هو جريمة ناتجة من احتلال عسكري مباشر وغير شرعي، وحصار ممنهج منذ أكثر من 17 عامًا. قرارات أممية مثل القرار 242 والقرار 338 تطالب بانسحاب "إسرائيل" من الأراضي المحتلة، لكنها تواصل القصف والحصار، وتمنع الغذاء والدواء، وتستخدم المجاعة كسلاح حرب. هذه ليست مجرد خروقات لاتفاقيات جنيف، بل جريمة إبادة جماعية بطيئة، وفق وصف منظمة "هيومن رايتس ووتش" و"كارثة تفوق التصور"، بحسب الأمم المتحدة.

هذه المجاعة لا تكشف فقط وجه الاحتلال، بل تُسقط أقنعة كثيرة: قناع الحضارة الغربية التي لطالما تغنّت بحقوق الإنسان، فإذا بها تبرّر الإبادة تحت شعار "الدفاع عن النفس". قناع الأنظمة العربية التي اكتفت بالشجب أو شاركت في الحصار وأغلقت المعابر. قناع المؤسسات الدينية التي تجاهلت نداءات غزة، رغم أنها مهد الرباط وأهل السنة وحماة الأقصى.

صرخات الغزيين تعبر الحدود وتعود خائبة، تصطدم بجدران الصمت، أو تنتظر على المعابر المقفلة. أين ذهبت عبارات "واإسلاماه" و"واغوثاه" ونصرة أهل السنة والجماعة؟ لماذا لم تحرّك الجيوش أو حتى الضمائر؟ المسؤولية جماعية: "إسرائيل" التي تستخدم الجوع سلاحًا ضد المدنيين، الولايات المتحدة وأوروبا اللتان توفران الغطاء السياسي والعسكري، الأنظمة العربية التي تحوّلت إلى حراس حدود تمنع الإغاثة، والإعلام العالمي الذي غطّى الجرائم بكلمات باردة أو تجاهلها.

غزة لا تطلب سلاحًا، بل تطلب رغيف خبز، شاحنة طحين، علبة حليب، أو حتى موقفًا صادقًا في المحافل الدولية. ما تطلبه غزة هو إنسانية لعلّها لم تفقد معناها بعد.

لا حياد في المجاعة. الصامت شريك. المتفرج على موت الأطفال جوعًا، لا يملك أن يحدثنا عن الأخلاق أو النصرة أو الدين أو الحرية.

التاريخ لا ينسى... والشعوب لا تغفر.