تطور أشكال وأساليب المقاومة الفلسطينية على مدى العقود الأربعة الأخيرة
خلال العقود الأربعة الأخيرة، المقاومة الفلسطينية شهدت تطورات عدة، منها التطور في أساليب وأشكال مقاومتها للاحتلال الإسرائيلي داخل وخارج أراضي فلسطين المحتلة.
في أعقاب الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 الذي أدى إلى تشتّت قوات منظمة التحرير الفلسطينية في العواصم العربية (اليمن، الجزائر) وانتقال قيادة المنظمة إلى تونس البعيدة جغرافياً عن الوطن، حصلت حال عامة من الخمول في العمل الفدائي والمقاوم الفلسطيني، سواء داخل الوطن أو خارجه. استمرت فترة الصدمة بضع سنين، شهدت فيها المنطقة محاولات أميركية–إسرائيلية لاستثمار الإنجاز العسكري وتحويله إلى نصر سياسي، تمثل ذلك في "مبادرة الأمير فهد للسلام" التي تبناها مؤتمر القمة العربي، والتقارب بين قيادة منظمة التحرير والنظام المصري، وظهور حركة "أبو الزعيم" في الأردن، وزيادة نشاط "روابط القرى" العميلة في الداخل الفلسطيني.
انتهت فترة الضياع تلك عام 1987. العملية الفدائية النوعية التي نفذتها الجبهة الشعبية–القيادة العامة انطلاقاً من جنوبي لبنان بواسطة الطائرات الشراعية رفعت المعنويات كثيراً في الوطن وأعادت الروح إلى خيار المقاومة والثورة والكفاح، وساعدت في اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر 1987. أهم ما ميز الانتفاضة كان جماهيريتها العريضة التي تجاوزت إطار الفصائل الفلسطينية واعتمادها أسلوب الكفاح الشعبي من تظاهرات وإضرابات وإغلاق طرق، وأبرز رموزها الحجر الذي كان يستعمله الشبان الشجعان في تصديهم لجيش الاحتلال المدجج بالسلاح، حتى صار ذلك يعرف بـ"ثورة الحجارة". في الواقع لم يكن الحجر خياراً فلسطينياً بقدر ما كان إبداعاً شعبياً في ظل غياب مقومات العمل العسكري في الداخل الفسطيني وانعدام الدعم بعد أن ضعفت منظمة التحرير وانقسمت وتشتّتت.
الغزو العراقي للكويت عام 1990 والحرب التي تلته أديا فعلياً الى نهاية الانتفاضة الفلسطينية في طورها الأول . دخلت منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات في سلسلة من المفاوضات المكثفة العلنية والسرية، وصلت أخيراً إلى "اتفاقية أوسلو" 1993 التي أسفرت عن تشكيل "السلطة الفلسطينية" في غزة وأريحا أولاً، ثم في بقية المدن في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين. عقد التسعينيات كله كان من أسوأ الفترات التي مرت في تاريخ المقاومة الفلسطينية الحديث. موجة، بل هوجة، من حديث "السلام" سادت المنطقة. لم نكن نسمع سوى كلام عن انفتاح، وعلاقات، وتبادل تجاري، وصفقات، و"بزنس" مع الكيان الإسرائيلي.
بدا الأمر وكأنه حسم وانتهى الكلام عن الثورة والمقاومة والكفاح المسلح. أخذ "الليبيراليون العرب" عزهم، وهم يصفون خصومهم المتمسكين بحال العداء للكيان الصهيوني بالـ"الخشبيين" الذين لا يفهمون العالم! وبعد "اتفاقية أوسلو"، و"معاهدة وادي عربة" مع الأردن، وفي ظل وجود نظام "كامب ديفيد" في مصر، صارت المنطقة "ترزح" تحت وطأة "السلام" المزعوم، خصوصاً بوجود عراق مهزوم ومعزول، وبدء فرض العقوبات على ليبيا ومحاصرتها، وانهماك الجزائر في الصراع الداخلي والعشرية السوداء.
لم يعد في العالم دولة تعلن رفضها للكيان الإسرائيلي أو تستخدم مصطلح "الكيان الصهيوني" سوى إيران، ولكن إيران كانت خارجة من حرب السنوات الثماني الطاحنة مع العراق وانهمكت في عملية إعادة بناء كبرى في الداخل، وتركّر عملها في الشأن الفلسطيني على دعم المقاومة اللبنانية المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب وتحويلها إلى قوة عسكرية متطوّرة وفاعلة.
أما سورية، فصحيح أنها لم تقدم تنازلات فعلية في مواقفها السياسية من القضية الفلسطينية، إلا أنها اضطرت إلى مسايرة التطورات في المنطقة وبفعل ضغوط النظام الرسمي العربي دخلت في عملية المفاوضات التي كانت ترعاها إدارة بيل كلينتون.
في الداخل الفلسطيني انضمت "السلطة الفلسطينية" الجديدة إلى العدو في حملة شعواء لا تبقي ولا تذر تستهدف كل من يرفع السلاح أو حتى يفكر في مقاومة العدو، تمادت سلطة عرفات واندفعت في عمليات "تنسيق أمني" مع العدو كي تثبت جدارتها من خلاله بوضعية "الشريك" في "العملية السلمية". صارت الأوضاع أصعب على المقاومين والفدائيين في الضفة الغربية وقطاع غزة مما كانت أيام مواجهة "إسرائيل" وحدها ، فقد صار لها "شريك" من داخل البيت! في ظل تلك الظروف لم يعد العمل الشعبي والجماهيري ممكناً، فاتجهت المقاومة الفلسطينية إلى أسلوب التفجيرات والهجمات الانفرادية والعمليات الاستشهادية، التي تقوم بها مجموعات صغيرة العدد ويدبرها أفراد معدودون، أبرزهم المهندس يحيى عياش، وعماد عقل، وعادل عوض الله. ولكن، ومع نهاية التسعينيات كانت "إسرائيل"، وبمعاونة كبيرة من "السلطة الفلسطينية"، قد تمكنت من القضاء على ذلك الجيل الرائد والمؤسس للعمل المسلح ضد الاحتلال.
في عام 2000 حصل تطوّر مهم، بعد انهيار مفاوضات السلام في"كامب ديفيد-2"، وترافق ذلك ومشاهد الانسحاب المذل للجيش الإسرائيلي من لبنان بفعل ضربات المقاومة. أخفق ياسر عرفات في الحصول على تنازلات ذات معنى من "إسرائيل" كان يتوقعها نظير تعاونه وخدماته. وبحكم طبيعته البراغماتية قرر عرفات استعمال "الكفاح المسلح" كورقة ضغط على "إسرائيل"، وهو طالما فعل ذلك في لبنان. أومأ عرفات لمساعديه والمحيطين به أن غضّوا الطرف عن فعاليات المقاومة ضد "إسرائيل"، ومن ضمنها المسلحة، والتف في الوقت نفسه على وضعية التنسيق الأمني.
سرعان ما اندلعت الانتفاضة الثانية التي تحوّلت بسرعة إلى موجة كبيرة من العمليات الاستشهادية القوية والمؤثّرة أكبرها عملية نتانيا التي قتل فيها ثلاثون إسرائيلياً في 27 آذار 2002. وعلى الرغم من الاجتياح الإسرائيلي لمناطق السلطة الفلسطينية، ومجزرة مخيم جنين، ومحاصرة ياسر عرفات، إلا أن الروح كانت قد انبعثت في تنظيمات الكفاح المسلح التي تراكمت لديهم خبرة معتبرة بمجال العمل السري والعسكري في أصعب الظروف، وخصوصاً في قطاع غزة.
أدت وفاة ياسر عرفات عام 2004 إلى ضعف "السلطة الفلسطينية"، خصوصاً أن خليفته، أبو مازن، لا يملك كاريزما عرفات، ولا قدراته على السيطرة والتلاعب بالخصوم والأصدقاء. وبعد انسحاب "إسرائيل" أحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005 زادت قوة فصائل المقاومة إزاء "السلطة الفلسطينية"، وخصوصاً حركة حماس التي بات جناحها العسكري يعمل في العلن تقريباً.
وكان عام 2007 مفصلياً إذ سيطرت حركة حماس على قطاع غزة وطردت الأجهزة الامنية التابعة للسلطة الفلسطينية. ومنذ ذلك الوقت بدأ العصر الذهبي للمقاومة الفلسطينة وفصائلها المسلحة. وبات الكفاح المسلح الفلسطيني يأخذ منحى احترافياً مهنياً، ويستلهم نمط المقاومة الإسلامية وأسلوبها في جنوبي لبنان.
وليس هذا وحسب فقد اتّجهت حماس، وحركة الجهاد الاسلامي كذلك إلى تأسيس ما يشبه الجيش بما يتضمّنه من ألوية وأقسام وتراتبيّة عسكرية، وذلك بدلاً من مجموعات لامركزية صغيرة العدد. وبرعايةٍ من إيران، وتحديداً من الحاج قاسم سليماني، بدأت خطوط التواصل والدعم تفتح أولاً مع حزب الله في لبنان، ثم مع الحرس الثوري مباشرة.
في زمن حسني مبارك تمكنت "إسرائيل" من إحباط بضع عمليات لتهريب الأسلحة من إيران إلى غزة عن طريق خطوط إمداد من البحر الأحمر والسودان وصحراء سيناء، واغتالت محمود المبحوح، مسؤول الحناح العسكري لحماس في الخارج. كذلك اعتقلت السلطات المصرية القائد المكلف من حزب الله إيصال الدعم إلى قطاع غزة، سامي شهاب، عام 2009.
وعلى الرغم من الصعوبة اللوجستية البالغة، إلا أن كلّ المؤشرات تشير إلى أن دعماً كبيراً، تكنولوجياً ومالياً، وصل فعلاً إلى داخل غزة ومكّن فصائل المقاومة من البدء بإنشاء "صناعة محلية" -إن جاز التعبير- للوسائل القتالية والحربية، وإن كان على نحو محدود.
مع توالي الاجتياحات الإسرائيلية لقطاع غزة، والمواجهات المتكرّرة مع فصائل المقاومة، ازدادت الخبرة القتالية لدى الأجنحة العسكرية فيها، وتحديداً كتائب القسام وسرايا القدس، وصارت أكثر فاعلية.
كان عام 2014 علامة فارقة إذ نجحت المقاومة في إطلاق صواريخ من داخل غزة أصابت أهدافها في الكيان الإسرائيلي، على الرغم من محدودية مداها ودقتها. "إسرائيل" من جانبها كانت تشعر بالقلق الشديد مما يجري في غزة وبرنامج التصنيع العسكري فيها وتطوّر قدرات فصائل المقاومة. بذلت"إسرائيل" كل جهد للقضاء على القدرات العلمية واللوجستية والكفاءات القيادية التي تتمتع بها المقاومة في غزة، وفعلاً نجحت في استهداف عدد من أهم قيادات العمل المسلح والمسؤولين عن القدرات الصاروخية تحديداً، وأهمهم بهاء أبو العطا، القائد العسكري في سرايا القدس، وقبله أحمد الجعبري نائب قائد كتائب القسام.
استمر الزخم الذي اكتسبته فصائل المقاومة في غزة بفضل نجاحاتها وزاد على كان عليه قبل استشهاد القيادات، وبات العمل الآن مؤسسياً، غير مرتبط بأشخاص محدودين. وعندما اغتال الأميركيون الحاج قاسم سليماني في مطلع عام 2020 ظهر إلى العلن الدور الكبير الذي كان يؤديه في بناء القدرات الصاروخية والعسكرية للمقاومة في غزة، وذلك من خلال كلمات الرثاء التي صدرت عن جميع قيادات حماس، والقسام، والجهاد، وسرايا القدس، والجبهة الشعبية الذين عبّروا عن امتنانهم لما قدمه الراحل الكبير لقضية المقاومة، وشكرهم وعرفانهم لدوره وقيادته واهتمامه بأمر واحدٍ لا ثاني له: توجيه البوصلة نحو القدس وزرع الإيمان في النفوس، بالقول والعمل، بحتمية زوال الكيان الصهيوني.
وفي المواجهة الأخيرة التي حصلت في غزة العام الماضي، معركة "سيف القدس"، ظهرت القدرات الكبيرة والمبهرة للمقاومة الفلسطينية التي تمكنت في غضون أيام معدودات من زعزعة الكيان الإسرائيلي عن طريق آلاف الصواريخ التي أصابت أهدافها حتى في عمق الكيان الإسرائيلي والمدن البعيدة من غزة جغرافياً. كذلك ظهرت حال من الوحدة الكفاحية بين الفصائل تمثّلت في غرفة عمليات مشتركة لإدارة المعركة.
أحفق الجيش الإسرائيلي وقبته الحديدية في التصدي لصواريخ المقاومة كان ظاهراً للعيان ، والنتيجة النهائية حال من الردع المتبادل بين الطرفين، وكأنها بين جيشين. وهذا إنجاز عظيم للمقاومة. لم يعد العدو يجرؤ على تنفيذ اقتحامات واجتياحات برية لغزة، ولم يعد يتحمل الاستمرار في المعركة طويلاً. ولّت وانتهت الأيام التي كان العدو يصول ويجول ويدخل ويخرج كما يشاء. دخلنا في عصر المقاومة بالصاروخ ، بعد كانت بالحجر والسكين.
المقاومة الآن في حال تصاعدية من حيث القدرات والإمكانات، ومع كل يوم يمر تزداد قوتها، وهي تتوعد العدو بمزيد من المفاجآت النوعية في حال اندلاع أي مواجهة جديدة. بل إن العدو اليوم بات يتخوف ويتحسب من انتقال المقاومة المسلحة إلى الضفة الغربية أيضاً. وليس ذلك ببعيد.