الأمن القومي العربي: أين الحقيقة بين الشّعار والتّحديات؟
لن يصبح الأمن القومي العربي حقيقة ملموسة ما لم يتمّ التحرّر من وهم الشعار، والتعامل بجدّية مع التحدّيات الجسيمة التي تهدّده.
-
القضية الفلسطينية: صمام أمان الأمن العربي
لطالما كان الأمن القومي العربي شعاراً رنّاناً ترفعه الأنظمة كغاية وهدف أسمى، لكنه للأسف تحوّل إلى ذريعة تبرّر الابتعاد عن جوهر القضايا المصيرية للأمة. فبينما تتغنّى الأنظمة بتوحيد الصفوف وحماية الأوطان، تتكشّف ممارسات تشير إلى تواطؤ خفيّ مع محاولات تصفية القضية الفلسطينية. هكذا، يتحوّل المفهوم النبيل إلى ستار يخفي مصالح ضيّقة ويهدّد مستقبل الأمة بأسرها. لن يكون هناك أفق حقيقي للأمن القومي العربي ما لم تُفكّك العقدة الفلسطينية.
القضية الفلسطينية: صمام أمان الأمن العربي
إنّ حلّ القضية الفلسطينية ليس مجرّد خيار، بل هو ضرورة حتمية لإنقاذ ما تبقّى من استقرار المنطقة وبناء مستقبل يمكن للعرب أن يطمحوا فيه للأمن والازدهار. سيظل الأمن القومي العربي في خطر وشيك، عرضة للتقلّبات والتحدّيات، ما لم يتمّ إيجاد حلّ جذري وعادل للقضية الفلسطينية والصراع القائم، خاصة في ظلّ الوضع المأساوي في غزة. الأمن الحقيقي لا يمكن أن يتحقّق إلا بالعدل والاستقرار للشعوب كافة.
"ممر داود": خطر يهدّد السّيادة والوحدة
في خضمّ التحدّيات التي تواجه الأمن القومي العربي، تبرز مشاريع ومخططات تهدّد بتقويض ما تبقّى من سيادة واستقرار في المنطقة والتي تشي إلى إحداث تغييرات جيوسياسية كبيرة تعيد ترتيب المنطقة من جديد نحو ما يسمّى "الشرق الأوسط الجديد". والذي ارتبط طرحه مع أحد أبرز الشخصيات السياسية الإسرائيلية، شمعون بيريز، ففي كتابه "الشرق الأوسط الجديد" الذي صدر عام 1993، طرح رؤية لتعاون اقتصادي في المنطقة تكون "إسرائيل" مركزه.
كما يُشار إلى عوديد ينون، الصحافي والمستشار السابق لأرييل شارون، الذي نشر مقالاً في عام 1982 يُعرف بـ "خطة ينون"، والذي تحدّث عن تقسيم الشرق الأوسط على أسس عرقية ودينية وطائفية، واعتبره البعض أساساً لمثل هذه المشاريع.
الغاية من "ممر داود" (أو ممر إسرائيل إلى الفرات) متعدّدة الأبعاد وتتمحور حول المصالح الإسرائيلية الاستراتيجية في المنطقة، وأبرزها إعادة تشكيل سوريا بما يخدم المصالح الإسرائيلية حيث يسعى المشروع إلى تفتيت سوريا وإضعاف السلطة المركزية في دمشق. يتضمّن ذلك إمكانية إنشاء كيانات ضعيفة وطائفية (مثل دويلة درزية في جنوب سوريا وكيانات كردية في الشرق والشمال) تكون حاجزاً بين "إسرائيل" والوطن العربي، وتسهّل الهيمنة الإسرائيلية على الموارد الطبيعية في تلك المناطق.
يهدف الممر إلى ربط مرتفعات الجولان المحتلة بمعبر التنف الاستراتيجي على الحدود السورية العراقية الأردنية، وصولاً إلى نهر الفرات. هذا يخدم أهدافاً استراتيجية واقتصادية، وقد تكون له صلة بالرؤى الإسرائيلية التوسّعية التاريخية التي تتحدّث عن "إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل". يُنظر إلى الممر كوسيلة لتعزيز الهيمنة العسكرية الإسرائيلية في المنطقة، خاصة في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها سوريا. كما يُطرح كـ "ممر اقتصادي" يخدم المصالح التجارية لـ "إسرائيل". يُعتبر الممر أيضاً وسيلة لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، وخاصة تعطيل أيّ محاولات إيرانية لإنشاء ممرات برية تربط إيران بسوريا ولبنان عبر العراق.
"ممر داود" هو مشروع استراتيجي إسرائيلي يهدف إلى إعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، وتوسيع النفوذ الإسرائيلي، وتأمين مصالحها الأمنية والاقتصادية، وذلك من خلال إنشاء ممر بري يربط "إسرائيل" بنهر الفرات عبر الأراضي السورية.
على الرغم من أنّ فكرة "ممر داود" لم تُعلن صراحة بهذا المسمّى، إلا أنها تتجلّى في سعي "إسرائيل" لإنشاء ممرات أو طرقات استراتيجية، اقتصادية أو عسكرية، تربطها بدول عربية أخرى، أو تمكّنها من الوصول إلى موارد أو موانئ حيوية عبر الأراضي العربية.
يمثّل هذا الممر، الذي قد يتخذ أشكالاً متعددة كخطوط سكك حديدية، أو طرق برية، أو حتى مسارات لوجستية، تهديداً جسيماً للأمن القومي العربي. يسعى "ممر داود" إلى إحداث شقوق في النسيج الجغرافي العربي، وربط أجزاء من المنطقة بمحور استراتيجي تقوده "إسرائيل"، مما يضعف التماسك العربي ويزيد من تبعيّة بعض الدول. بالإضافة إلى أنّ هذا المخطّط يهدف إلى منح "إسرائيل" نفوذاً اقتصادياً غير مسبوق في المنطقة، عبر السيطرة على طرق التجارة ومسارات الموارد، مما يمكّنها من التحكّم في اقتصادات الدول المجاورة.
قد يُستخدم "ممر داود" كقناة للتغلغل الأمني والعسكري الإسرائيلي في عمق الأراضي العربية، مما يهدّد السيادة الوطنية ويعرّض الأمن القومي للخطر المباشر، خصوصاً في أوقات الأزمات. بالتالي يُعدّ هذا الممر جزءاً من محاولات "إسرائيل" لفرض واقع جديد في المنطقة، يتجاهل القضية الفلسطينية ويقلل من أهميتها كقضية مركزية للأمة العربية، عبر دمج "إسرائيل" في المنطقة كقوة مهيمنة.
إن السكوت عن مخططات كهذه أو التعاطي معها بإيجابية يُعتبر تفريطاً جسيماً في الأمن القومي العربي ومساهمة مباشرة في تصفية القضية الفلسطينية.
الأمن القومي العربي في خطر: مصر درع الأمة
إنّ معادلة الأمن القومي العربي اليوم تقف على حافة الخطر، وتتعرّض لضغوط غير مسبوقة تهدّد استقرار المنطقة بأسرها. هذه المعادلة المعقّدة، التي ترتكز على توازن القوى والمصالح المشتركة، تشهد تصدّعات خطيرة نتيجة لتزايد التدخّلات الخارجية، وتفاقم النزاعات الداخلية، وتصاعد التحدّيات الاقتصادية والاجتماعية.
في قلب هذه المعادلة، تكمن مصر كركيزة أساسية وصمام أمان حيوي. إنّ أيّ مساس بسيادة مصر أو استقرارها يمثّل ضربة قاصمة للأمن القومي العربي بأسره، وذلك لعدة أسباب جوهرية، فمصر تحتل موقعاً جغرافياً فريداً يربط بين قارات ثلاث، وتتحكّم في ممرات ملاحية حيوية كقناة السويس. زعزعة استقرارها تعني إرباك حركة التجارة العالمية وتهديد خطوط الإمداد الاستراتيجية.
تمتلك مصر جيشاً قوياً ومجهّزاً، يعدّ من أكبر الجيوش في المنطقة والعالم، ويؤدّي دوراً محورياً في حفظ الأمن ومكافحة الإرهاب وحماية الحدود العربية. إضعاف هذه القوة يترك فراغاً أمنياً خطيراً يمكن أن تستغلّه قوى معادية. مصر ليست مجرّد دولة، بل هي حضارة ممتدة عبر آلاف السنين، ومهد للكثير من الثقافات والحضارات التي أثّرت في العالم. أيّ خطر يتهدّدها يمسّ الهوية والتاريخ العربي المشترك.
لطالما كانت مصر لاعباً أساسياً في حلّ النزاعات الإقليمية والدولية، وتتبنّى مواقف متوازنة تسعى للحفاظ على السلم والأمن. تراجع دورها يفسح المجال أمام الفوضى وتفاقم الصراعات. سواء تعلّق الأمر بالإرهاب، أو الجريمة المنظّمة، أو الهجرة غير الشرعية، فإنّ مصر تعدّ خط الدفاع الأول عن المنطقة ضدّ هذه التهديدات التي لا تعترف بالحدود.
إنّ المساس بسيادة مصر أو محاولة إضعافها ليس مجرّد شأن داخلي، بل هو تهديد مباشر لمستقبل المنطقة العربية برمّتها. فاستقرار مصر هو استقرار للمنطقة، وقوتها هي قوة للأمة. لذا، فإنّ حماية سيادة مصر ودعم استقرارها هو واجب عربي قومي لا يمكن التهاون فيه.
"تعزيزات" عربية: بلا استراتيجية موحّدة؟
في ظلّ هذا الزحف الإسرائيلي المتزايد، والذي لا يقتصر على التوسّع الجغرافي بل يمتد إلى الهيمنة الاقتصادية والسياسية، يبرز التساؤل حول ماهية التعزيزات العربية لمواجهة هذه التحدّيات. للأسف، تبدو هذه التعزيزات في كثير من الأحيان مبعثرة، تفتقر إلى استراتيجية موحّدة ورؤية جماعية.
يمكن رصد بعض جوانب "التعزيزات" التي وإن كانت تساهم في رفع مستوى التنسيق العسكري، إلا أنها غالباً ما تكون ذات طابع رمزي ولا ترقى إلى مستوى الردع الحقيقي ومنها التصريحات السياسية التي تدين الممارسات الإسرائيلية، لكنها لا تتبع بخطوات عملية أو ضغوط دولية فاعلة تجبر "إسرائيل" على التراجع.
وكذلك المساعدات الإنسانية المقدّمة للشعب الفلسطيني، والتي تُعدّ واجباً أخلاقياً، لكنها لا تعالج جوهر المشكلة السياسية والأمنية، وقد تكون على شاكلة جهود التطبيع الفردية التي يراها البعض "تعزيزاً" للأمن من خلال بناء علاقات مع "إسرائيل"، لكنها في واقع الأمر تفكّك الصف العربي وتضعف الموقف الموحّد تجاه القضية الفلسطينية، وتسهّل لمخططات مثل "ممر داود".
نحو أمن قومي حقيقي: استراتيجية لا شعار
إنّ التعزيزات الحقيقية للأمن القومي العربي في مواجهة الزحف الإسرائيلي لا يمكن أن تتحقّق إلّا من خلال العودة إلى التوافق على القضية الفلسطينية كقضية مركزية وموحّدة لجميع الدول العربية وعلى امتداد الوطن العربي. تحدّد أهدافاً واضحة للتعامل مع التهديدات الإسرائيلية، وتفعّل أدوات الضغط السياسي والاقتصادي والدبلوماسي على المستوى الدولي. وتعمل على تعزيز قدرته على المقاومة والبقاء في أرضه، وتوفير كلّ أشكال الدعم السياسي والاقتصادي له. وبناء قوة قادرة على الردع وحماية المصالح العربية العليا، بعيداً عن الارتهان للقوى الخارجية.
لن يصبح الأمن القومي العربي حقيقة ملموسة ما لم يتمّ التحرّر من وهم الشعار، والتعامل بجدّية مع التحدّيات الجسيمة التي تهدّده، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية ومخطّطات التصفية التي تستهدفها. فهل تعي الأنظمة العربية حجم الخطر وتُعيد بوصلتها نحو المصالح الحقيقية للأمة؟