الهند والعرب وفلسطين.. قبل السادات ومودي

 في السنوات العشرين التي تلت ولغاية العام 2014، سنة وصول مودي إلى الحكم، ترك العربُ الهندَ سياسياً بشكل يكاد يكون شبه كامل.

  • في السياسة الخارجية، جعل مودي الهند أقرب إلى أميركا مما كانت في السابق
    في السياسة الخارجية، جعل مودي الهند أقرب إلى أميركا مما كانت في السابق

سقطت الهند تحت حكم رئيس الوزراء الحالي نارندرا مودي منذ العام 2014. بعد فترات طويلة من الحكم الليبرالي الذي يميل إلى اليسار من طرف خصومه الرئيسيين في حزب المؤتمر الوطني الذي تصدر السياسة الهندية أغلب الوقت منذ الاستقلال على يد آل نهرو - غاندي، جاء القومي الهندوسي مودي ليقلب توجّهات بلده الكبيرة وسياساتها الداخلية والخارجية رأساً على عقب، ويشكل حكومة يمينية التوجه، بل حكومة أقصى اليمين لو شئنا الدقة. 

وقد وصل إلى الحكم استناداً إلى خطاب شعبويّ غوغائي إلى حد كبير، معادٍ للأجانب والمنظمات الدولية، ومستفز للروح القومية بصبغتها البدائية التي هي أقرب ما تكون إلى العنصرية الصارخة. 

مذ كان شاباً يافعاً، انضم مودي إلى الجماعات الفاشية الهندوسية المعادية للمسلمين. وعندما صار حاكماً لولاية غوجارات في العام 2002، سمح لمجموعات من المتعصبين الهندوس بارتكاب جرائم جماعية فظيعة (وصلت إلى حد إحراق الأحياء وقتل الأطفال واستخدام السكاكين)، ذهب ضحيتها آلاف الهنود المسلمين، من دون أن تحرك سلطات الولاية ساكناً. 

يومها، نال مودي لقب "إمبراطور قلوب الهندوس" في أوساط مؤيديه الذين رأوا فيه مخلّص الأمة الهندوسية. وعندما وصل إلى رئاسة الحكومة الاتحادية في نيودلهي، واصل سياسته العنصرية الفظة والفجة ضد أبناء بلده المسلمين. 

وفي العام 2019، سنّت حكومة مودي "قانون المواطنة" الجديد الذي يجعل الجنسية الهندية على أساس الدين، في تمييز صريح ضد المسلمين الهنود الذين صار بضعة ملايين منهم مهددين بفقدان جنسياتهم.

 وفي السنتين الأخيرتين، لاحظ المراقبون أنَّ مودي زاد من مظاهر هيئته الهندوسية الملتزمة، فأطلق العنان للحيته، وصار يظهر بعمامات هندوسية مميزة في مهرجاناته الانتخابية، كما حصل في ولاية غرب البنغال السنة الماضية.

علاقات مودي الوثيقة مع ترامب ونتنياهو

في السياسة الخارجية، جعل مودي الهند أقرب إلى أميركا مما كانت في السابق، وخصوصاً في فترات حكم الحزب الجمهوري فيها. وقد ظهرت الحميمية في العلاقة بين مودي وترامب في الزيارات المتبادلة بينهما، إلى درجة دفعت كلاً منهما إلى ترتيب مهرجان ترحيب جماهيري للآخر، الأول بعنوان "Howdy Modi"، نظمه ترامب في العام 2017 في ولاية تكساس الأميركية، والآخر بعنوان "Namaste Trump" في العام 2020 في أحمد أباد الهندية، واستُخدمت الألفاظ الشعبية المحلية في التحية.

"وافق شنّ طبقة" هو المثل العربي الذي ينطبق على الرجلين اللذين يجمعهما طيفٌ من الأفكار، بدءاً من فكرة "إنقاذ البلد من الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة التي تحكمه"، وليس انتهاء بطريقة التعامل مع وباء كورونا!

اندفع مودي في علاقة مستجدة ومكثفة مع "إسرائيل" التي يحكمها أقصى اليمين الصهيوني. استقبل بنيامين نتنياهو بحرارة شديدة في نيودلهي، وقام بدوره بزيارة إلى "إسرائيل"، خلع خلالها نعليه على شاطئ البحر في وقفة مشتركة مع نظيره الإسرائيلي المبتهج بأول زيارة يقوم بها رئيس حكومة هنديّ في التاريخ.

الهند وقضية فلسطين: منذ العام 1947

في توجهاته الجديدة هذه، انقلب رئيس الوزراء الهندي على خط سياسي عريق اتخذته الهند تجاه القضايا العربية عموماً، والقضية الفلسطينية خصوصاً. منذ اليوم الأول لظهور الهند في الساحة الدولية بعد استقلالها في العام 1947، انحازت الهند إلى الأمة العربية في كفاحها للتحرر من الاستعمار، وإلى القضية الفلسطينية العادلة.

لم تكد تمضي 3 أشهر على استقلال الهند حتى طُرح مشروع "قرار تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية" في الأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 1947. يومها، صوتت الهند مع الدول العربية وضد المشروع. وبناءً على توجيهات من غاندي ونهرو، قال مندوب الهند إن بلاده "تعارض إنشاء دولة على أسس دينية"، في إشارة إلى مشروع تأسيس "دولة إسرائيل اليهودية" المطروح للتصويت. 

وكانت الهند طرحت فكرة حل مشكلة "فلسطين على أساس دولة واحدة لكلِّ مواطنيها بمختلف أديانهم". وشرح رئيس الوزراء جواهر لال نهرو موقف بلاده أمام الجمعية التأسيسية في نيودلهي، فقال: "بعد تفكير عميق، توصلنا إلى أن هذا هو الحل العادل والوحيد للمشكلة". وتابعت الهند مواقفها تلك بتصويتها ضد انضمام "إسرائيل" إلى الأمم المتحدة في العام 1949.

في عهد جمال عبد الناصر

تلك كانت البدايات لعلاقات هندية – عربية نمت وازدهرت، وخصوصاً مع صعود جمال عبد الناصر في مصر وظهوره كأحد رموز مكافحة الاستعمار على مستوى العالم. توثقت العلاقات بين الهند ومصر، البلدين الخارجين حديثاً من النفوذ والاستعمار البريطاني، في الخمسينيات والستينيات. 

وفي إطار التجمع الأفرو-آسيوي في باندونغ في نيسان/أبريل 1955، أدى التعاون والتفاهم بين الطرفين إلى بلورة سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وهي السياسة التي عبرت عن رغبة الدول حديثة الاستقلال في الحفاظ على استقلالها وحريتها، وحقها في صياغة مستقبلها بعيداً عن التبعية والهيمنة، وحرصها على العمل من أجل السلام الدولي، ورفض سياسة التحالفات والتكتلات في ذروة الحرب الباردة آنذاك. وعندما تأسَّست منظمة دول عدم الانحياز في العام 1961، كان جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو من أهم أعمدتها ورموزها. 

كان هناك نوع من الشعور بوحدة الحال بين الطرفين، باعتبارهما شعوباً شرقية أصيلة تم استعمارها واستغلالها من طرف قوى غربية استعلائية متغطرسة. في العام 1956، وصف نهرو الهجوم البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي على مصر بــ"الفعل الشرير"، وتحدث عن "الأخوة الروحية" التي تربطه بجمال عبد الناصر.

 لم يكن الموضوع الديني مطروحاً في العلاقة بينهما، وكان التضامن على أسس إنسانية تقدمية، فلم ينظر عبد الناصر إلى الهند باعتبارها بلداً هندوسياً، كما أن الهند بدورها أظهرت تسامحاً تجاه الإسلام، واعتبرته أحد مكونات الأمة الهندية إلى جانب الهندوسية ضمن دولة عصرية يحكمها مبدأ المواطنة والعلمانية الذي أقرته في دستورها. 

وكانت الهند حريصة على دحض الدعاية الباكستانية المعادية لها، وقوامها التأجيج الديني ومحاولة حشد المسلمين في العالم إلى جانبها، من خلال إظهار الخلافات بين البلدين وكأنها حرب بين الإسلام والهندوسية. 

رأت الهند في مصر، البلد المسلم الكبير، مدخلاً لها إلى العالم العربي والاسلامي الأكبر، فأولت أهمية كبيرة للعلاقة معها، وخصوصاً أن نظام عبد الناصر كان بعيداً جداً عن التعصب الديني والطائفي.

وقد كان موقف مصر - عبد الناصر من الأزمة بين الهند والباكستان أقرب إلى الجانب الهندي، ونظر بسلبيّة إلى ارتماء الباكستان في أحضان الولايات المتحدة وبريطانيا وانخراطها في أحلاف سياسية وعسكرية برعايتهما، مثل حلف جنوب وشرق آسيا (ومقره الفلبين) في العام 1954، وحلف بغداد في العام 1955. قامت مصر بتوقيع "معاهدة صداقة" مع الهند في العام 1955. وكان نهرو زار مصر لأول مرة في العام 1954، حين كان اللواء محمد نجيب يشغل منصب رئيس الجمهورية.

في العام 1960، قام نهرو بزيارة أخرى إلى القاهرة استقبله فيها الرئيس عبد الناصر بترحاب شديد. ورد عبد الناصر الزيارة في العام نفسه، استُقبل خلالها استقبالاً رسمياً وشعبياً قلَّ نظيره، وعاد مرة أخرى ليزور الهند في العام 1966 بصحبة الرئيس اليوغوسلافي تيتو، ليعقد اجتماعاً مع رئيسة الوزراء الجديدة أنديرا غاندي؛ ابنة نهرو.

 وفي تلك الزيارة، بكت غاندي عند لقائها عبد الناصر، إذ ذكرها بوالدها وزيارته لمصر في العام 1960. وفي شهر تشرين الأول/أكتوبر 1967، قامت أنديرا غاندي بزيارة مهمة لمصر. كانت تلك خطوة دعم قوية لمصر، وخصوصاً أنها جاءت في الفترة الصعبة التي مرت على مصر في أعقاب خسارة الحرب مع "إسرائيل". وفي تشرين الأول/أكتوبر 1970، عادت أنديرا غاندي إلى مصر لتزور ضريح جمال عبد الناصر، ولدعم خليفته أنور السادات. 

وفي فترة ما بعد عبد الناصر، استمرت الهند بدعم القضايا العربية والتصويت دائماً لمصلحة القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة. وعندما ظهرت منظمة التحرير الفلسطينية في الساحة السياسية في بداية السبعينيات، كانت الهند من أوائل الدول غير العربية في العالم التي اعترفت بها كممثل للشعب الفلسطيني وتعاطفت معها. وقد صوتت الهند في العام 1975 لمصلحة قرار الأمم المتحدة، باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية. 

بداية التباعُد: دور السادات

بداية التباعد كانت من الجانب العربي؛ فالانقلاب الساداتي في السبعينيات على تراث عبد الناصر وسياساته انعكس على العلاقة مع الهند أيضاً. ارتمى السادات في أحضان أميركا التي اعتبرها صاحبة 99% من الأوراق، وسار في اتجاه "سلام" منفرد مع "إسرائيل"، وابتعد عن دول أفريقيا وآسيا (ما كان يسمى دول العالم الثالث)، وعن الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي ودول عدم الانحياز، ومن ضمنها الهند. 

لم يصدر عن الهند أي اعتراض علني على اتفاقية "كامب ديفيد"، واعتبرت ذلك خياراً مصرياً، واتخذت موقفاً محايداً مما جرى، ولكنه كان حياداً أقرب إلى المعارضة الصامتة. ولم تنظر بارتياح إلى العلاقات المصرية (الساداتية) المتصاعدة مع باكستان، وخصوصاً في أعقاب الغزو السوفياتي وانخراط السادات في برنامج دعم "المجاهدين الأفغان" الذي رعته الولايات المتحدة وأشرفت عليه، بمشاركة فاعلة من السعودية وباكستان. 

استقبل السادات وفداً من "المجاهدين الأفغان"، وقال لهم: "سنقف معكم بكل ما في الإسلام من قوة!"، وأتبع القولَ بالفعل، فأرسل لهم أسلحة وصواريخ. وكان تقارب مصر السادات مع جنرال باكستان ذي الأصل الهندي المهووس بالحرب، ضياء الحقّ، خيانة لتاريخٍ طويل من العلاقات الإيجابية بين البلدين، في نظر الهند.

لم تعترف الهند رسمياً بــ"دولة إسرائيل"، ولم تتبادل معها السفارات إلا في العام 1992، أي بعد 14 عاماً كاملة من "سلام مصر وإسرائيل" في "كامب ديفيد"، ولم تتخذ الهند ذلك القرار إلا في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام عندما اقتربت "إسرائيل" ومنظمة التحرير الفلسطينية من التوقيع على اتفاقية "أوسلو" في العام 1993 (في تلك الأيام، تحدثت تقارير صحافية عن ضغوط إسرائيلية على الفلسطينيين من أجل مساعدتها على إقامة علاقات مع دول كانت مؤيدة للقضية الفلسطينية ومتحفظة بشأن "إسرائيل"، ومنها الهند، وعن أن ياسر عرفات وافق على الوساطة، واعتبر ذلك ورقة لمصلحته وتكتيكاً سياسياً). 

الغياب العربي

 في السنوات العشرين التي تلت ولغاية العام 2014، سنة وصول مودي إلى الحكم، ترك العربُ الهندَ سياسياً بشكل يكاد يكون شبه كامل. فترة التسعينات تميّزت بانهماك العرب بمفاوضات مكثفة مع "إسرائيل" واتفاقيات "أوسلو" و"وادي عربة" واجتماعات عرفات – باراك – كلينتون الماراثونية. 

وشهدت الألفية الثانية غزو العراق وانكفاء مصر وصعود الحركات السلفية والجهادية في المنطقة، إلى أن وصلنا إلى فترة "الربيع العربي" ابتداء من العام 2011. خلال كل تلك الفترة، انقطعت العلاقات السياسية بين العالم العربي والهند، ولم يعد ثمة تواصل يذكر، وصار ما يربط الهند بالعالم العربي ينحصر بالعمالة الهندية التي تعمل في دول الخليج والنفط العربي الذي تشتريه الهند. 

فُتحت السّاحة الهندية على مصراعيها للنشاط الإسرائيلي. وشيئاً فشيئاً، بدأت علاقات الهند بـ"إسرائيل" تتزايد، وإن ببطء، حتى في ظلِّ حزب المؤتمر (حزب نهرو وغاندي)، إلى أن وصلنا إلى نارندرا مودي الَّذي أطلق العنان لسياسةٍ هندية جديدة تنظر إلى "إسرائيل" ودورها في المنطقة بإيجابية، ولا تلقي بالاً لثقل التاريخ. 

تعاون اقتصادي كبير وعلاقات تجارية قوية تربط الآن بين الهند و"إسرائيل"، يُضاف إليها تعاون عسكري وأمني وتنسيق سياسي متزايد انعكس على مواقف الهند في الأمم المتحدة والهيئات الدولية.

 تغيبُ فلسطين وقضيّتها عن أجندة السياسة الهندية. ومع تراجع دور مصر وانشغال سوريا والعراق بشؤونهما الداخلية، تبقى السعودية والإمارات هما مدار السياسة العربية للهند اليوم، والتي تتمحور حول النفط والاستثمارات والعمالة.

التقاعس العربي وغياب القيادة ذات بعد النظر أديا إلى هذه الخسارة الكبيرة للأمة العربية. وإلى أن يعود حزب المؤتمر إلى الحكم، لا أمل في تغيير بوصلة الحكم الحالي في الهند.