المفاوضات تحت النار.. واشنطن تسعى لفصل الجبهتين اللبنانية واليمنية
عبثاً تحاول الولايات المتحدة عزل حماس عن أهالي غزة، وفصل جبهتي المساندة اليمنية واللبنانية، وتحييدهما عما يحصل في غزة، فالجبهة اللبنانية تقول "لن تتوقف الحرب قبل وقف العدوان على غزة"، وكذلك الجبهة اليمنية تقول "لن تُترك فلسطين وحيدة"...
[هي القاعدة الاستعمارية الثابتة "فرّق تسد". واهمون ويسعون إلى إحداث الشرخ بين حماس وأهالي غزة، وإبعاد دول محور المقاومة وفصائله، وخصوصاً حزب الله، وحركة أنصار الله. ويقول الوزير بلينكن إن حماس تقف حائلاً أمام التوصل إلى وقف إطلاق النار، ويصف العرض الإسرائيلي الأخير بإطلاق السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية بـ "العرض السخي"، ولا يرى أن العرض السخي يكون بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لكامل الأراضي الفلسطينية كبداية للحل الحقيقي والنهائي للقضية الفلسطينية...]
منذ ما قبل عملية "طوفان الأقصى" وعلى مدى عام كامل، واجهت الحكومة الإسرائيلية تظاهرات المطالبين باستقالة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على خلفية التعديلات القضائية الإسرائيلية، وفي مرحلة ما بعد هجوم حماس في 7تشرين الأول/ أكتوبر، تحوّل التظاهر إلى المطالبة بمحاسبته وسجنه، لكنّ انشغاله بتنفيذ المخططات الأميركية – الإسرائيلية – الغربية في غزة، والتي حلم بأنها ستحقق له ولشركائه الدوليين والإقليميين أعظم الانتصارات، أعمت بصره وبصيرته، وبات الكيان يواجه خطراً وجودياً حقيقياً، فكان رهانه على الهروب نحو الأمام، وإطالة أمد العدوان والمفاوضات، والقبول بتسجيل النقاط سواء في غزة، أو في جبهة الإسناد اللبنانية، كبديل عن تحقيقه الانتصار، وبالتهديد بارتكاب المجازر في رفح أيضاً، وبتوسيع نطاق الحرب على لبنان وسوريا وإيران.
لكنّ حسابات الحقل لم تتوافق مع حسابات البيدر، وأتى حصاد 209 أيام من العدوان بنتائج عكسية لم يكن يتوقعها نتنياهو ومتطرّفوه وداعمو كيانه، فالهزائم العسكرية التي تتكبدها قوات الاحتلال، تسببت بارتباكه وقادة الكيان، وساكني البيت الأبيض والإليزيه ومقار "الناتو" ومجلس الأمن، على وقع محاولات إخفاء هزائمه وارتفاع أعداد جنوده القتلى والمصابين، والخلافات الكبيرة داخل الكابينت وغرف القيادة العسكرية والسياسية، وارتفاع أصوات أهالي الأسرى، والسقوط المدوي للرواية الإسرائيلية حول العالم، وسط قوة المقاومة وثباتها، وجبهات المساندة العسكرية والسياسية والإعلامية وبالحصار البحري للكيان لإجباره على وقف العدوان.
كان ولا يزال من المهم لنتنياهو وبايدن استمرار العدوان، لرسم ملامح الحل والخروج من المأزق بما يحقق مصالحهما، فحلّ الدولتين الذي يرفضانه، بات يطرق بقوة أبواب الحل، والاعتراف بالدولة الفلسطينية أصبح مخرجاً محتملاً ومطلباً عالمياً، لكنّ النقاط التي سجّلها كلّ من نتنياهو وبايدن جسّدت البشاعة الكاملة، وأظهرت الوجه الحقيقي للكيان الغاصب والولايات المتحدة الأميركية، وكل من ساهم وساعد وعلّق مصالحه على كيانٍ يشكل في حقيقته "قاعدة عسكرية إسرائيلية" لخدمة الغرب، فكانت المفاوضات بمنزلة خشبة الخلاص، ومحاولة لتعويض الخسائر والهزائم العسكرية، وطريقة مميزة لشراء الوقت.
تعددت جولات التفاوض بالوساطات المصرية والقطرية والأميركية، وتنقلت ساحاتها بين القاهرة وباريس والدوحة، لكنها لم تسفر عن أي نتائج توقف العدوان بشكل فوري ونهائي، ولم تسمح بإطلاق جميع الأسرى والمعتقلين، فالعدو يفاوض من أجل التفاوض، ولكسب الوقت، وما بين طرح الأفكار ونقلها والرد عليها، والرد على الرد، تستمر المجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، ويستمر معها تلقي نتنياهو والأميركيين الصفعات العسكرية نتيجة صمود المقاومة وقوة ثباتها، والتفاف الأهالي حولها رغم الألم الكبير، وتتلخص كلمة السر ظاهرياً في رفض نتنياهو وعدم استعداده لتقديم التنازلات في ملف إطلاق سراح المعتقلين الفلسطينيين قبل التوصل إلى وقف لإطلاق النار، إذ يعدّ، بحسب صحيفة "هآرتس" موافقته على صفقة تتضمن وقفاً كاملاً لإطلاق النار، وانسحاب قواته من غزة "ستجبره على الاعتراف بانتهاء الحرب من دون تحقيق أي من الأهداف الإسرائيلية". وهذا بالنسبة إلى نتنياهو يشكل "هزيمة لتل أبيب أمام حماس"...
يبدو أن "هآرتس" تروّج لاتفاق -إنساني مرحلي، يتضمن إطلاق سراح النساء وكبار السن والجرحى لدى حماس، مقابل إطلاق سراح عدد من السجناء الفلسطينيين، من دون التزام إسرائيلي بإنهاء الحرب. وعليه، قامت قوات الاحتلال أمس بقصف عدة مواقع في رفح، لإظهار جدية العدو في اجتياحها، في أقذر عملية ابتزاز لإبرام صفقة إنسانية.
إن استمرار حراك التفاوض السياسي على وقع استمرار العدوان لا يبدو المتغيّر الوحيد، فنتنياهو يخشى صدور مذكرة المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله وبعض المسؤولين والقادة الإسرائيليين، ويخشى المزيد من تصاعد غضب أهالي الأسرى الإسرائيليين، على وقع انكشاف الوجه الحقيقي الإجرامي للكيان الإسرائيلي حول العالم، واستمرار التظاهرات الطلابية في عشرات الجامعات الأميركية والأوروبية والعالم، وانضمام عدد كبير من الجامعات العربية؛ دعماً لفلسطين، وللوقف الفوري للإبادة الجماعية، والعدوان الإسرائيلي، ووقف تمويل قوات الاحتلال الإسرائيلي وتسليحها، وجميع أشكال التعاون والتعامل معه والاستثمارات المرتبطة بالجامعات، خصوصاً الأميركية منها، في وقتٍ بدأت تعاني إدارة الرئيس بايدن من وطأة الهزائم في عام انتخابي دقيق، في ظل استمرار دعمها حكومة الكيان الإسرائيلي وقواته، بالتوازي مع توقيع بايدن قانون تمويل "إسرائيل" وتسليحها بقيمة 26 مليار دولار.
لم تخف واشنطن خشيتها من توسع نطاق الحرب في المنطقة، ومن جنون نتنياهو ويأسه، ومحاولاته توريط واشنطن بمواجهاتٍ خطيرة مع إيران وفي الشرق الأوسط ومياه البحر الأحمر والخليج وما هو أبعد من ذلك، الأمر الذي تدرك أنه مكلف للغاية وسيطيح بوجود القوات الأميركية في كامل المنطقة، لذلك قامت واشنطن بخطوة مفاجئة تمثلت بسحب قواتها وسفنها ومدمراتها وحاملات الطائرات من مياه البحر الأحمر، ونقلها إلى البحر الأبيض المتوسط، في خطوة علقت عليها معاونة وزير الخارجية الأميركية باربرا ليف بأنها تأتي في سياق تواصل إدارة بايدن مع حركة أنصار الله.
وهذا يشي برغبة واشنطن في تحييد الجبهة اليمنية، والتفرغ لجبهة الجنوب اللبناني، في وقتٍ أعلن المتحدث باسم الحركة بأن اليمن بصدد "إعادة ترتيب بنك أهدافه" بعد هذا الانسحاب، بما ينسف كل تفسير أو تحليل وتوقع بخروج اليمن من معادلة ردع الجانبين الإسرائيلي والأميركي، والمساندة القوية التي تقدمها الحركة والقوات اليمنية منذ بداية العدوان على غزة.
جبهة الشمال، كانت ولا تزال تشكل مصدر الرعب الإسرائيلي، وما حققته المقاومة الإسلامية حتى اليوم من خلال المساندة من دون توسيع نطاق المواجهة وتحويلها إلى حرب مفتوحة، يؤكد علو كعبها وقدراتها وحجم تأثيرها وكفاءتها بإدارة يوميات المساندة والمواجهات، ولا تزال تثبت يوماً بعد يوم تفوقها التكتيكي والاستخباري والميداني، واستطاعت تنفيذ عمليات استهدفت المستوطنات ومواقع "جيش" الاحتلال وتجمعاته وتدمير منشآته في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا المحتلة، وأبهرت العالم بعمليات الرد والردع والرصد والاستشعار والكمائن العسكرية، كما حصل في عكا وميرون ورويسات العلم، وبتحويل شمال فلسطين المحتلة إلى منطقة خالية من المستوطنين، وخالية من الرادارات وكاميرات الرصد والمراقبة الإسرائيلية، وحوّلت هذه المناطق الحيوية للعدو بثقلها الاقتصادي والسياحي والزراعي إلى مناطق خارجة عن الخريطة الإسرائيلية.
إن الحديث عن القرار 1701 وزيارات الوسيط الأميركي آموس هوكستين على طرفي الحدود لم تسفر عن أي نتيجة، رغم حمله أفكار العدو الإسرائيلي، واطلاعه على الأفكار اللبنانية لإيجاد الحلول ووقف إطلاق النار، الأمر الذي أثار مخاوف واشنطن من المواجهة المفتوحة ودفعها إلى إرسال الفرنسي المختص باللعب في الوقت بدل الضائع، في محاولة لحلحلة ملف الرئاسة، من أجل تمثيل لبنان على طاولة المفاوضات، لتجنب التفاوض مع المقاومة منفردة، وللاستفادة أيضاً من عملائها في تركيبة السلطة والحكومة اللبنانية.
تبدو زيارة وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه إلى بيروت، استطلاعية أكثر منها ذات فعالية، وفرصة لتبادل الرسائل والأفكار وتوضيب الأرضية المتشنجة والانقسام الحاد لإيجاد موقف موحد حول كيفية دعم المقاومة والقضية الفلسطينيتين في الأوساط السياسية الداخلية، والمخاوف الفرنسية – بحسب الوزير سيجورنيه من "توسع الصراع بين حزب الله وإسرائيل" وضرورة تطبيق الـ قرار1701 بشكل كامل. ولم ينس سيجورنيه عرض المنشطات والمحفزات الفرنسية الواهية المتكررة، والحديث عن "دعم فرنسا جهود اليونيفيل والجيش اللبناني لإعادة انتشاره في الجنوب، ودعم لبنان لإخراجه من أزماته الاقتصادية.
من المبكر الحديث عن تفاصيل بنود الورقة الفرنسية التي حملها الوزير الفرنسي، فدرجة تعقيد الملفات اللبنانية الداخلية أعمق من حلها على الطريقة الفرنسية، ولاسيما التطبيق الكامل للقرار 1701، خصوصاً بعدما كرر رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري، على مسامع الوزير سيجورنيه أن الحرب على الجبهة اللبنانية ستتوقف "عندما تتوقف الحرب على غزة".
عبثاً تحاول الولايات المتحدة عزل حماس عن أهالي غزة، وفصل جبهتي المساندة اليمنية واللبنانية، وتحييدهما عما يحصل في غزة، فالجبهة اللبنانية تقول "لن تتوقف الحرب قبل وقف العدوان على غزة"، وكذلك الجبهة اليمنية تقول "لن تُترك فلسطين وحيدة".