العقد الاجتماعي الإسرائيلي: بداية التفكك

لم يسبق أن وصلت "إسرائيل" إلى هذه المرحلة من الضعف، فالردع الذي قامت عليه منذ النشأة بات على المحك.ولا يمكنها أن تستمر من دون "جيش" قوي ودولة رعاية اجتماعية للمستوطنين.

  • لم يسبق أن وصلت
    لم يسبق أن وصلت "إسرائيل" إلى هذه المرحلة من الضعف.

خلفت عملية طوفان الأقصى البطولية تداعيات أمنية على "إسرائيل" لم تشهدها منذ ما يقارب 76 عاماً؛ فمع نشأة الكيان الإسرائيلي عام 1948، حرص مؤسسوه على تكريس فكرة مفادها أن الدولة الصهيونية في فلسطين المحتلة هي الملاذ الآمن لليهود، فضلاً عن البعد الديني المزيف الذي تم إحياؤه من أجل استقطاب اليهود المتدينين من كل أصقاع الأرض إلى فلسطين، بيد أن عملية 7 أكتوبر وما استتبعها من تداعيات خطيرة على وجود "إسرائيل"، دفع المسؤولين الإسرائيليين إلى التحدث عن مستقبل "إسرائيل" في المنطقة، وخصوصاً مع التحديات الوجودية التي فرضها محور المقاومة. 

العقد الاجتماعي

تستند "إسرائيل" في عقدها الاجتماعي إلى ركيزتين أساسيتين هما: "الجيش" ودولة الرعاية الاجتماعية (Welfare State) . ومن خلال هاتين الركيزتين، دأبت "إسرائيل" على مدى عقود على العمل على الوعي الإسرائيلي، إذ زرعت في ذهنية المستوطنين الإسرائيليين بأن "الجيش" الإسرائيلي لا نظير له لناحية القدرات العسكرية والتقنية في المنطقة.

وإلى جانب ذلك، تمكنت "إسرائيل" بمساعدة من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، من بناء اقتصاد رأسمالي منتج سمح لها بأن تخلق فرص عمل للمستوطنين الإسرائيليين للحفاظ على استمرارية بقائهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فضلاً عن فتح الاقتصاد الإسرائيلي على مصراعيه أمام أغلبية الدول، وهذا من شأنه أن يضفي بعضاً من الشرعية على هذا الكيان المؤقت، بيد أن هذا الحال لم يدم طويلاً، فقبل عملية طوفان الأقصى ليس كما بعدها.

ولعل أهم ارتدادات عملية 7 أكتوبر هو تشكيل وعي إسرائيلي جديد لا يثق بدولته المزعومة فحسب، بل وصل الأمر إلى حد دفع المسؤولين الإسرائيليين إلى الاستنتاج بأن العقد الاجتماعي (Social Contract) بين "إسرائيل" ومستوطنيها ضُرب بفعل عملية طوفان الأقصى وجبهات الإسناد التي فتحت من لبنان والعراق واليمن.

العقد الاجتماعي ليس شيئاً ثانوياً، إنما هو جوهري في بنية الدولة والمجتمع، لكونه ينظم العلاقة بينهما، ويولي اهتماماً بمدى شرعية سلطة الدولة على الأفراد. بتعابير أخرى، إن أي هشاشة في هذه العلاقة قد تضع الدول الحقيقية أمام تحديات وجودية، فكيف إذا كانت هذه التحديات والمخاطر أمام دولة مزيفة ومصطنعة وغير أصيلة في المنطقة!

وفي هذا السياق، أشارت صحيفة "الإيكونوميست" في وقت سابق إلى أن دولة الرفاه في "إسرائيل" تلقت ضربة. وبناء عليه، وُضِعت أمام خيارين إما "الجيش" وإما دولة الرفاه. في الحقيقة، لم يعد للعدو الإسرائيلي من هذين الخيارين أي خيار، ففي الحرب الحالية بين "إسرائيل" ومحور المقاومة، تحاول "إسرائيل" ترميم قدراتها الردعية التي هُشمت على أيدي المقاومين بعد عملية طوفان الأقصى. 

ومما لا شك فيه أن استمرار العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة، والمدعوم من الرأسمالية المتوحشة، سواء الأوروبية أو الأميركية، هو خير دليل على أن "إسرائيل" وحلفاءها الغربيين بدأوا بالفعل بتحسس رقابهم.

لذلك، تكمن أهمية نظرية العقد الاجتماعي (Social Contract Theory) في كونها تنظر إلى أصول السلطات وفلسفتها وشرعيتها، ويمكن أن يُحكم على مستقبل الكيان من خلال منظار صلابة أو هشاشة هذا العقد.

 إن التعاقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين يقوم على تنازل الأفراد عن بعض حقوقهم في مقابل الحصول مثلاً على بعض الحقوق، مثل حق الحماية وغيرها من الحقوق. وهنا، تأتي أهمية عملية طوفان الاقصى في كونها مسَّت جوهر العقد الاجتماعي الإسرائيلي، بحيث تلقى المستوطنون ودولتهم المزعومة ضربة حفرت عميقاً في الوعي الإسرائيلي. 

لقد كرست سردية مفادها أن "إسرائيل-الدولة" لا تتمتع بالأهلية والشرعية لكي تحكم المستوطنين، لكونها فشلت في حماية مستوطنيها من ضربات المقاومة الفلسطينية وحلفائها. ولعل من النتائج الهامة التي تمخضت عن عملية طوفان الأقصى هو بدء المستوطنين الإسرائيليين بالتفكير في الهجرة العكسية.

إلى جانب ذلك، تعاني "إسرائيل" مشكلات مجتمعية تنذر بطبقية حادة يمكن أن تؤدي إلى تحولات بنيوية في المجتمع الإسرائيلي، فوفقاً لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، تدفع الأسرة اليهودية غير المتدينة تسعة أضعاف ضريبة الدخل لكل فرد في أسرة يهودية متطرفة (الحريديم).

وبناء عليه، إن الدعم المالي الذي تتلقاه أسر الحريديم من الدولة أعلى بنسبة 52% من الدعم الذي تتلقاه الأسر العلمانية. لذلك، هناك فعلاً نقمة وكراهية بدأت تتزايد داخل المجتمع الإسرائيلي ضد التيارات والأحزاب الحريدية. أضف إلى ذلك إصرار هذه التيارات على رفض الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي. وفي حال فُرضت الخدمة الإلزامية عليهم، قد يضطرون إلى مغادرة "إسرائيل"، كما صرح كبير الحاخامات.

والمشكلة أيضاً من وجهة النظر الإسرائيلية، أن أسر الحريديم لديها أكبر معدل ولادات، وهذا بدوره سيؤثر في المدى البعيد على بنية الهرم السكاني في المجتمع الإسرائيلي، بحيث إن هذه الولادات لن تكون في خدمة "الدولة الإسرائيلة" فحسب، بل ستأخذ أيضاً حيزاً كبيراً من ميزانيتها من أجل التفرغ فقط للدراسات الدينية.

يجب أن لا نغفل أيضاً عن حقيقة ما يحصل في شمال فلسطين المحتلة، إذ نجح حزب الله بضرب فكرة أساسية تعد من المرتكزات الرئيسية لدى العدو الإسرائيلي، وهي تفريغ المستوطنات الإسرائيلية في الشمال من المستوطنين. وعبر عن ذلك رئيس الأركان الإسرائيلي السابق، أفيف كوخافي، بأن إرجاع المستوطنين الإسرائيليين إلى شمال فلسطين المحتلة مسألة مرتبطة بالوجود الإسرائيلي بذاته. وفي معرض حديثه السابق عن الوضع الحالي للحرب في غزة، قال كوخافي: "لا أعتقد أن هناك طريقة لإعادة "الرهائن" دون وقف الحرب، ولا يمكن تحقيق نصر كامل في أشهر، فالأمر سيستغرق سنوات...".

 وفي ما يتعلق بالتهديد الذي يشكله حزب الله على "إسرائيل"، عبر مسؤول القوات الأميركية السابق في الشرق الأوسط فرانك ماكنزي عن ذلك بقوله: "حزب الله هو أكبر كيان عسكري غير حكومي في العالم، ولديهم آلاف الأسلحة. وبسبب ذلك، يمكن أن يسببوا ألماً كبيراً لإسرائيل". لذلك، يمكن القول إن "إسرائيل" لم تجرؤ "حتى كتابة هذه السطور على شن عدوان واسع على لبنان خوفاً من قدرات حزب الله النوعية، والتي لم يستخدم منها إلا القليل في الحرب الحالية".

"إسرائيل" الضعيفة

في المحصلة، لم تكن "إسرائيل" ذات يوم قدراً حتمياً أو كياناً قائماً بذاته، فدائماً ما كان يتوقف الأمر على تضافر بعض العوامل الداخلية والخارجية التي ستسهم بدورها في تفكيكها في المستقبل القريب، ويمكن القول الآن إن الكيان الإسرائيلي يحمل بذور تفككه من جراء الحرب العدوانية على غزة.

إن الجرائم التي ترتكبها "إسرائيل" منذ عقود بحق الشعب الفلسطيني المُحاصر لن تسهم إلا في زعزعة أمنها واستقرارها، والإبادة الجماعية التي تقوم بها اليوم في غزة لن تجلب لها إلا المخاطر الوجودية. لقد خسرت "إسرائيل" سرديتها وشرعيتها في هذه الحرب على مستوى الرأي العام العالمي، وهذا ليس بالأمر البسيط، وخصوصاً مع وجود وسائل إعلام عالمية تتماشى مع الصهيونية، وهذا بالطبع سيزيد عزلة "إسرائيل" ويقوّض فرصها في البقاء على المدى الطويل. 

ومؤخراً، قام الجيش اليمني بعملية عسكرية معقدة ضد عاصمة "الكيان الإسرائيلي" (يافا سابقاً)، وأدت إلى وقوع قتلى وجرحى. ولعل هذه العملية النوعية هي الأكثر إيلاماً للعدو الإسرائيلي في هذه اللحظات الحرجة، وتمثل فشلاً في الدرجة الأولى للولايات المتحدة وحلفائها، إذ لم يستطع التحالف التي تقوده الولايات المتحدة على مدى أشهر من ثني اليمن عن ضرب "إسرائيل". تنذر هذه العملية النوعية بأن هناك مرحلة تصعيدية قادمة من محور المقاومة قد تكون كاسرة للتوازن.

وتعليقاً على العملية النوعية، انتقد زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد "الحكومة الإسرائيلية" لعدم قدرتها على حماية البلاد، وقال: إن "الهجوم أظهر أن الحكومة لا تستطيع توفير الأمن "لمواطني إسرائيل". ومن يفقد الردع في الشمال والجنوب يفقده أيضًا في قلب تل أبيب. فلا توجد سياسات ولا خطط"(...). .

لم يسبق أن وصلت "إسرائيل" إلى هذه المرحلة من الضعف، فالردع الذي قامت عليه منذ النشأة بات على المحك. وكما أسلفنا سابقاً، لا يمكنها أن تستمر من دون جيش قوي ودولة رعاية اجتماعية للمستوطنين.

وبناء عليه، يمكن القول إنَّ "إسرائيل" فقدت هاتين الميزتين بعد عملية طوفان الأقصى، ولم تستطع أن تحقق أهداف الحرب رغم اتباعها سياسة الأرض المحروقة واجتياحها غزة ومحاصرتها من كل جانب.

ومن وجهة بعض المنظرين الغربيين في العلاقات الدولية، أمثال كينيث والتز، فإن "الاحتلال لا يكون مجدياً لأن التكاليف تفوق الفوائد. وبسبب الشعور القومي (nationalism)، يصبح تغلب الدولة المحتلة على صاحب الأرض أمراً صعباً للغاية، بل يصبح مستحيلاً في بعض الأحيان، فأيدولوجيا القومية، ذات التأثير الجماعي والقوي، تتعلّق في مجملها بحق تقرير المصير الذي يكفل عملياً أن تثور الشعوب التي تقع تحت الاحتلال ضد المحتل".

طبعاً هذا يفسر لنا لماذا لم يستطع كيان الاحتلال الإسرائيلي أن يتغلّب على المقاومة الفلسطينية في غزة ولبنان، رغم أنه يمتلك القوة الصلدة (Hard power) التي لا يمكن مقارنتها بقدرات حركات المقاومة المتواضعة ذات الفعالية العالية والمبنية على قاعدة اللاتناظر في القتال.