الصحافة العربية.. اهتمام الصهيونية التاريخي بشراء الأقلام والذمم
الهدف النهائي للمجهود الصهيوني كان منع قيام جبهة عربية موحدة ضد الصهيونية، وذلك عبر إيجاد شرخ بين الحركة الوطنية الفلسطينية والأقطار العربية.
كمٌ هائل من التقارير المفبركة والمقالات المشبوهة والمواد الدعائية المغرضة ينضح بها العالم الافتراضي عبر الإنترنت ومواقع صحافية ومنصات إخبارية، ومن خلال ذباب إلكتروني، وتصب كلها في اتجاه محاربة فكرة مقاومة العدو الصهيوني وتسخيفها ومهاجمة كل من يتبنى فكر الثورة والكفاح ويدعو إلى تحرير فلسطين.
وتتعدد الجهات الممولة التي تقف وراء تلك الحملة، من مؤسسات بحثية في أميركا تابعة لوزارة الدفاع واللوبي الصهيوني أو مرتبطة بها، إلى منظمات أوروبية ذات أجندات، إلى جهات وأجهزة مخابرات خليجية تتبنى "السلام" بنسخته المتصهينة، إلى مؤسسات تابعة للحكومة الإسرائيلية مباشرة، تجتمع كلها على هدف شيطنة المقاومة ونسب كل مصائب الأمة العربية إليها، وكل ذلك يتم بأسماء عربية وبلسان عربي.
والحقيقة أن الاهتمام الصهيوني بالإعلام العربي قديم جداً، ويعود إلى ما قبل تأسيس الكيان الإسرائيلي في العام 1948. أدرك الصهاينة مبكراً أهمية الصحافة والكلمة المكتوبة حين كانت مجال التعبير الوحيد في ميدان الإعلام في عالم ما قبل الفيديو.
في ثلاثينيات القرن الماضي، كانت الإذاعة المسموعة في أطوارها الأولى وبحاجة إلى أجهزة استماع (راديو) غير متوفرة لدى الأغلبية الساحقة من الجمهور العربي، فالصحافة المكتوبة والمطبوعة كانت المنفذ الوحيد لمن أراد الدعاية لفكره أو مشروعه. الصحافة كانت تقوم بدور الفضائيات ومواقع التواصل في أيامنا، وكانت ذات أهمية فائقة في صنع الرأي العام وفي الحشد والتأثير.
واستناداً إلى تقارير جهاز الاستخبارات التابع للدائرة السياسية في الوكالة اليهودية والمحفوظة اليوم في الأرشيف الصهيوني، نقرأ أن الوكالة اليهودية كلفت صهيونياً لامعاً في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، هو إلياهو ساسون (من يهود سوريا)، بمهمة صعبة للغاية، هي التأثير في الرأي العام العربي في سوريا ولبنان، عن طريق دسّ مقالات مدفوعة الأجر تنشر في الصحافة السورية واللبنانية.
وبعد نقاش طويل لساسون مع رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية موشيه شرتوك، تم الاتفاق على مجموعة أهداف محددة وراء تلك المقالات، هي تشويه النضال الفلسطيني، وإبراز الثغرات والسلبيات، وزرع أخبار ملفقة لـتأسيس رأي عام عربي ضد الفلسطينيين، ودفع اللبنانيين والسوريين إلى الاهتمام بشؤونهم وقضاياهم بعيداً عن قضية فلسطين، وطرح أجندات بديلة من القضية الفلسطينية.
والهدف النهائي لذلك المجهود الصهيوني كان منع قيام جبهة عربية موحدة ضد الصهيونية، وذلك عبر إيجاد شرخ بين الحركة الوطنية الفلسطينية والأقطار العربية وخلق مصاعب أمام الحركة الوطنية الفلسطينية في الشرق كله.
ساسون كان متحمساً جداً لمهمته، ومؤمناً بأنّه يقوم بفعلٍ في خدمة الصهيونية لا يقل أهمية عن القتال بالمدفع والقنبلة. وفي أحد تقاريره لشرتوك، وصف اهتمام عامة الناس في بيروت بالصحافة، فقال إنه "رأى بأم عينيه الناس يركضون وراء بائعي الصحف ويختطفون الصحف كي يقرأوا الأخبار حول الوضع في فلسطين". وفي رسالة أخرى منه لشرتوك، أكَّد ساسون جدوى ما يقوم به، فكتب: "كما ترى، هذا عملٌ ثمنه قليل ونتائجه كبيرة".
بالفعل، قام ساسون بنشر 280 مادة بين مقال وتحقيق وتعليق في عدة صحف، عن طريق دفع مبالغ مالية لأصحابها والمحررين فيها. وكان يتم دفع مبلغ جنيه فلسطيني واحد أو جنيه ونصف جنيه أو جنيهين مقابل نشر المقال الواحد، بحسب أهمية المقال والصحيفة.
وأحياناً، كان يتم دفع مبالغ كبيرة دفعة واحدة لأصحاب تلك الصحف الذين كانت شهيتهم مفتوحة للمال الصهيوني. وكانت المواد الصهيونية المدسوسة تنشر أحياناً بأسماء وهمية أو مستعارة، وأحياناً باسم هيئة التحرير في الصحيفة الناشرة، أو على شكل تقارير من المراسلين، وأحياناً بالاسم الصريح للصحافي الناشر.
ومن تلك الصحف في لبنان، كانت "العهد الجديد" لخير الدين الأحدب (رئيس وزراء لبنان لاحقاً)، وصحيفة "الحديث" في بيروت لصاحبها إلياس حرفوش، وجريدة "الأحوال" ومحررها سمعان سيف، وعدة صحف بيروتية أخرى هي "النهضة" و"لسان الحال" و"بيروت" و"صوت الأحرار" و"الاتحاد".
وفي سوريا، كانت صحيفة "الإنشاء" ومحررها وديع تلحوق، وصحيفة "الأيام" لصاحبها نصوح بابيل، وصحيفة "الجهاد"، وصحيفة "الدستور" في حلب، و"فتى العرب" الدمشقية، وغيرها.
ومعظم تلك المقالات الصهيونية كانت في العام 1937 أيام اشتعال الثورة العربية الكبرى في فلسطين. وكان إلياهو ساسون متدفقاً في مقالاته وغزير الإنتاج، إلى الحد الذي دفع مديره شرتوك إلى أن يطلب منه أن يخفف من وتيرة نشر المقالات خوفاً من انكشافها بسبب كثرتها.
يومها، ردَّ عليه ساسون قائلاً إنَّ الإكثار من النشر، وفي موضوعات متعددة، وفي عدد كبير من الصحف، يجعل الأمر يبدو كأنه "رأي عام" أو تيار عريض، وليس رأياً منعزلاً أو نشازاً، وهذا أفضل ويشجع المتعاونين على التمادي في النشر من دون خوف.
وفيما يلي بضعة أمثلة على تلك المقالات الصهيونية:
الأول هو ما نشرته جريدة "الدستور" في حلب. وفيه يستنكر الكاتب فكرة "أن ينصرف السوريون وهم في حالتهم الحاضرة المليئة بالفقر المدقع إلى معالجة المشكلة الفلسطينية وغيرها"، وأضاف: "نحن والحالة هذه أولى بلجنة دفاع عن سوريا من لجنة دفاع عن أية بقعة من بلاد العرب العزيزة. ولا نظن عاقلاً، مهما بلغ التهور والتطرف، يترك باب داره مفتوحاً أمام عصابات اللصوص المحدقة به من كل صوب، ويهبّ لمساعدة جاره المنكوب بدوره بهؤلاء اللصوص".
وتابع ساسون عزفه على وتر "فقراء سوريا"، حين كتب في مقال مدسوس آخر في صحيفة "الجهاد" مهاجماً لجنة الدفاع عن فلسطين، ومطالباً الحكومة السورية بمصادرة الأموال كلها التي جمعتها اللجنة لمصلحة فلسطين و"توزيعها على فقراء سوريا وعمالها الذين يتضورون جوعاً".
وفي صحيفة "البلاد"، نشر ساسون تحت اسم مستعار مقالاً نسب فيه سلبيات وعيوباً كثيرة إلى النضال الفلسطيني، وتحدث عن عدم كفاءة القيادة الفلسطينية، وعن عدم توفر الأمن، وعدم تحلي القيادات الفلسطينية بالشجاعة للإقدام والتفاوض مع الوكالة اليهودية، ووسم الثورة في فلسطين بأنها "حرب عنصرية في فلسطين"، ودعا إلى إقامة علاقات صداقة بين الإسلام واليهودية.
ونشر ساسون مقالاً في صحيفة "لسان الحال" الصادرة في بيروت، على شكل تقرير من فلسطين تناول مقتل شرطيين عربيين مسيحيين على يد الثوار قرب عكا، بهدف إثارة الفتنة بين المسلمين والمسيحيين.
وفي كانون الأول/يناير 1937، نُشر مقال في صحيفة "الإنشاء" الدمشقية، هاجم "السياسة السلبية" التي اتخذها القادة الفلسطينيون خلال 17 عاماً، واتهمهم بإغلاق الطريق أمام "السياسة الإيجابية". ودعا المقال جميع الذين يتبنون "السياسة الإيجابية" في البلاد العربية إلى الظهور على الملأ والعمل من أجل تحقيق سياستهم.
ولم ينسَ ساسون أن يهاجم مناصري الشعب الفلسطيني، فنشر مقالاً في صحيفة "النهضة" اللبنانية يهاجم فيه "مكتب الدعاية والنشر" في دمشق وصاحبه فخري البارودي الذي كان يزود الصحافة العربية بمعلومات وتحليلات مؤيدة للشعب الفلسطيني.
وفي 22 تموز/يوليو 1938، نشر ساسون تقريراً مدسوساً في جريدة "الاتحاد" الصادرة في بيروت، كان من نسج خياله، يتحدث عن عزم المسلحين الفلسطينيين على إلقاء قنابل على المسجد الأقصى، ثم اتهام اليهود بأنهم هم الذين قاموا بذلك.
وفي تشرين الأول/أكتوبر 1938، نُشر في صحيفة "الأحوال" في بيروت مقالٌ ضد مشاركة أعضاء البرلمان اللبناني في المؤتمر البرلماني المزمع عقده في القاهرة لمناصرة الشعب الفلسطيني. وقد شدد المقال على أنّ كلَّ من يشارك في المؤتمر البرلماني يذهب إليه باسمه الشخصي، وأن لا حقَّ له في التحدث باسم لبنان.
وطالبت صحيفة "صوت الأحرار" اللبنانية، في مقال رئيسي طويل، المؤتمر البرلماني باتخاذ قرار بضرورة وقف "أعمال الشغب" في فلسطين، وإجراء مفاوضات بين الأطراف من أجل التوصل إلى حل مقبول للقضية الفلسطينية.
وبالتزامن مع سياسة دسّ المقالات في الصحافة العربية، أسست الدائرة السياسية للوكالة اليهودية في القاهرة وكالة أنباء باللغة العربية. وفي كانون الثاني/يناير 1934، أنشأ ناحوم فيلنسكي، عميل الوكالة اليهودية، وكالة أنباء أطلق عليها اسم "وكالة الشرق – شركة تلغرافية لإذاعة الأنباء السياسية والاقتصادية والمالية"، وقام بتسجيلها رسمياً في القاهرة. ومنذ إنشاء هذه "الوكالة"، ظلت الوكالة اليهودية تزوّدها بالمواد الصهيونية الدعائية الإعلامية لنشرها وتوزيعها، وخصوصاً على الصّحف الصادرة في البلاد العربية.
ملاحظة: مصدر المعلومات التاريخية الواردة في هذا المقال هو كتاب "يهود البلاد العربية" لخيرية قاسمية (مركز دراسات الوحدة العربية - 2015)، وبحث لمحمود محارب منشور في مجلة الدراسات الفلسطينية عدد 78/2009.