الشهر الجديد.. الأطراف وارتفاع السقف
نشهد دماً وقصفاً في كلّ مكان محصّلته اختصار الطريق وإعطاء الحقوق، غير ذلك فمن الواضح أن المشهد سيتحوّل إلى إقليمي، ستزداد فيه الفواتير وستتغيّر فيه المعايير.
تسارع حماس و"إسرائيل" إلى بلورة معادلة السقف المرتفع الذي يحاول الطرفان فيه أن يحقّقا تقدّمهما في المنعطف الخطير والحسّاس في الصراع.
هذا التسارع مبني على تفاصيل عملية طوفان الأقصى التي لم تكن عابرة في قرار حماس، وأيضاً ليست محطة وجولة كغيرها في تصرفات "إسرائيل"، وبات استجماع أوراق القوة لدى كل طرف على النحو الآتي:
- حماس ومعها الشعب الفلسطيني خرجت عن الروتين المقاوم وتجاوزت المحددات وقواعد الاشتباك من قناعتها أن فكرة التحرير والمقاومة هي أساس نشأتها، وأن الترويض الحاصل سيؤدي بمعادلة الجولات بين الفينة والأخرى إلى التلاشي، وتحوّلها إلى حارس مخزن سلاح لا يمكن استخدامه تدريجياً، وكذا حالها في الضفة الغربية، وهذا سيكون لصالح "إسرائيل" التي باشرت تنفيذ خطط استيطانية شرسة متسارعة منذ 2019 بالتزامن مع التضييق على الأسرى واستهداف الأقصى.
- "إسرائيل" في موقع لا تحسد عليه حيث التوتر الأمني والمواجهة شبه الدورية التي تجعلها منعزلة، وكذلك تتحوّل إلى قاعدة عسكرية بدل أن تأخذ شكل "الدولة" والشعب والاقتصاد والحياة والانفتاح على العالم.
- الفلسطيني ارتفع سقف مواجهته في إطار رده على خيبة الأمل التي تراكمت؛ ليس في تجاهل القضية وحسب، وإنما في التخلّص منها بمشاريع تطبيع تشطب أصلاً الوجود الفلسطيني، فبات خياره محصوراً ولم يعد يقبل بالروتين القائم المستنزف للقضية، فكان المنعطف.
- الإسرائيلي تجدّدت لديه فكرة التهجير فعلاً لا قولاً، وهذا بدأ في 2018 في الخان الأحمر والأغوار بشكل واضح والشيخ جراح، وكذا تسريع مشاريع التهويد في القدس والتجويع وإفقار غزة، ولكن هذه الفترة ارتفع السقف ليتم استخدام كل ما يلزم لتعزيز التهجير ضمن معادلة التخلص من روتين التهويد.
- الفلسطيني بات ينظر من حوله لاحتلال متسارع، وكذا إغلاق باب الانتخابات في وجهه، وازدياد الفساد، وتعمّق الظلم، وعدم وجود حل لقضيته، وتحوّل المشهد إلى حاجة الفلسطيني في العيش وحاجة الإسرائيلي في الأمن، وكأنها هدنة تتلوها هدنة، والخاسر فيها الفلسطيني لأنه لا تراكم للتحرير.
-الإسرائيلي ومعه بعض العرب رفعوا السقف لتغيير الخريطة بإقصاء رأي الشعب وإبقاء اليد الأمنية التي توجّهها تلك الأطراف هي الحاكم، ولكن سقف العرب تضارب مع سقف الإسرائيليين بشأن الخريطة، فهم يريدون التغيير السياسي و"إسرائيل" تريد التغيير الجغرافي، وهذا دمار لهم مستقبلاً.
- حماس والفلسطينيون لم يعد في وسعهم التعامل مع المشهد القائم المذكور أعلاه؛ فهم في النهاية ليست لديهم مصالح ضخمة كي يخسروها، وهم في مربّع عزّزوه أنهم شعب يقاوم، وسقفهم التحرير وليس التحسين.
- الإسرائيلي خاسر في هذه المعركة استراتيجياً ولو أنه من الممكن أن يربح مرحلياً، لأن تجربته مع الفلسطينيين عبر تاريخ الصراع تبقيه هو الخاسر، حيث أنه يبحث إلى الآن عن الأمن والازدهار ولم يحصل عليه، فعبر عقود من الحروب والانتفاضات والمواجهات وحتى التسوية كلّها كانت استنزافاً جعله منبوذاً، وكذلك لم يحصل على مقوّمات الدولة والسيادة التي يريدها المواطن بطبيعته وليس بدبابة ودعاية.
- حماس والفلسطينيون الذين ثقافتهم مقاومة للتحرير لا شيء يخسرونه بتاتاً وهذا ثبت عبر الزمن، فكلما اعتقد الاحتلال أنه انتهى من مواجهة دخل أوسع منها وخسر أمنه، وفي جلها أرغم على الانسحاب، بينما "إسرائيل" باستمرار المقاومة هي خاسرة، وباستمرار المواجهة هي تتقوقع وتستنزف، وترميم صورتها أو تعزيز سيادتها يبقى يرواح مكانه، وهذا يدفع في ظل رفع السقف إلى الحل السياسي فوراً.
فحسب معطيات التاريخ حاولت "إسرائيل" وضع مقاييس للفلسطينيين ليشكّلوا سلطة تحت الرقابة الأميركية، ومع ذلك فشلوا وأبعدوا قيادات حماس والجهاد الإسلامي مطلع التسعينيات ففشلوا، وقبلها انتفاضة الحجارة وبعدها انتفاضة الأقصى وانتخابات 2006 وحروب غزة وانتفاضة القدس وهبة الكرامة وسيف القدس والبوابات وهبة النفق وجبل أبو غنيم سابقاً، ولاحقاً المواجهات وبينها الحدود اللبنانية ومقاومة اللبنانيين والاندحار، وقبلها احتلال لبنان وبعدها الاندحار من غزة، وكثيرة هي المعطيات التي تقول إن رفع السقف مرهق لمن لديه مصالح ومنقذ لمن لا شيء يخسره طالما ينشد حقوقه.
لذلك لا يمكن أن تجلب نار القصف ترويضاً للفلسطينيين، لكنها من الممكن أن تجلب صورة انتصار لجندي بدبابة يرفع شارة نصر في قلب غزة تكرّرت عبر عقود، ولكنه انسحب وبقي تحت النار في جغرافيا متفرقة، ولم تجلب شارة النصر هذه ما هو الأهم والأولوية من كل المشهد وهو الأمن، ولا حل بعد هذه التجارب إلا بإعطاء الفلسطينيين حقوقهم، وغير ذلك سيبقى احتلالاً وستبقى مقاومة، وإن خفتت يوماً سترتفع في آخر، وسيبقى السقف مرتفعاً ما لم يُعَد للمشهد واقعيته، أن الشعوب تحصد حقها ولو بعد حين، وأن الأمن للمحتل لا يحصده إلا بالحل السياسي على أساس الحقوق.
نشهد دماً وقصفاً في كلّ مكان محصّلته اختصار الطريق وإعطاء الحقوق، غير ذلك فمن الواضح أن المشهد سيتحوّل إلى إقليمي، ستزداد فيه الفواتير وستتغيّر فيه المعايير، لكن الثابت فيه والذي لا يمكن التخلّص منه هو حقوق شعب ينشدها في كل الظروف.