بين سحر الكلمة ودقّة الرقم: كيف تُدار المؤسسات الحديثة؟
القيادة الناجحة هي التي توازن بين سحر الكلمة ودقّة الرقم، فتُطلق طاقات الفريق وتحمي المسار بالأهداف الواضحة، وتمنع الانزلاق إلى خطابٍ عاطفيّ غير مُجْدٍ.
- 
  مدرسة التحفيز الإيجابي وأثر المناخ النفسي في الإنتاجية. 
في تجربة فريدة مطلع الألفية، وضع الباحث الياباني ماسارو إيموتو حبيباتٍ من الماء تحت مجهره. وراح يهمس لبعضها كلمات حبٍ وشكر، وللبعض الآخر كلمات كراهية وازدراء، ثم جَمّد العيّنات جميعها بشكلٍ منفصل، وكانت المفاجأة أن الماء الذي سمع كلماتٍ إيجابية تكوّنت بلوراته في أشكالٍ متناظرة جميلة، بينما تشوّهت بلّورات الماء الذي تعرّض لكلماتٍ قاسية.
سرعان ما تحوّلت هذه التجربة إلى ظاهرة، وانتشرت صور بلورات الماء المجمدة، خصوصاً بعدما نشر كتابه الذائع الصيت: "الرسائل الخفية في الماء"(2004). ألهمت تجربته رواد التنمية البشرية، واعتمدوها كدليلٍ رمزي على قوّة الكلمة وتأثيرها في النفس.
وبدأ منظرو القيادة الإيجابية يرون فيها استعارةً دقيقةً لما يحدث داخل بيئات العمل، ويشبهون روح فرق العمل الجماعية ببلّوراتٍ شفّافة تتأثّر بكل كلمةٍ تُقال، وبكل نبرةٍ تُطلق من فم القائد.
مدرسة التحفيز الإيجابي وأثر المناخ النفسي في الإنتاجية
ظهرت في السنوات الأخيرة دراسات متعمقة في السلوك التنظيمي، تناولت الطاقة العاطفية والتحفيز الإيجابي في مجتمعات الأعمال. فقد أثبتت باربرا فريدريكسون في نظرية التوسع والبناء، أن المشاعر الإيجابية توسّع إدراك الفرد وفضوله وتزيد المبادرة وتغذّي بناء المهارات والعلاقات، ما ينعكس على الأداء والإبداع الجماعي.
وهذا ما خلصت إليه أيضًا دراسات السلامة النفسية لإيمي إيدموندسون في جامعة هارفرد، إلى أن شعور الأفراد بالأمان في طرح الأسئلة والاعتراف بالأخطاء يثمران إنتاجية وأداء أعلى بكثير من البيئات القامعة.
لهذا، يتّبع أنصار المدرسة الإيجابية في الإدارة أسلوبًا قياديًا قائمًا على التحفيز والامتنان، فيستثمرون في الشكر والتغذية الراجعة البنّاءة وطقوس الاعتراف بالجهد، لأنّهم يؤمنون بأن أثرها ينعكس مباشرة في التعاون والإبداع ويرفع الأداء العام، بما يقود في النهاية إلى ربحية أعلى وبيئة أكثر تماسكًا.
الإدارة بالأهداف والأرقام: قوة القياس وحدوده
وبينما ألهمت تجربة إيموتو القادة التحفيزيين، رفضها المجتمع العلميّ وعدّها ادّعاء غير مُثبت، وتفتقر إلى المنهجية العلمية لأسباب عديدة. فإن كان للكلمة سحرها ووقعها، غير أنها عاجزة عن ضبط إيقاع العمل، ولا يمكن تحقيق النجاح بسحر البيان وتنميق الكلام، إنما بالأهداف المقاسة والمعايير المحددة.
يرى أنصار الإدارة بالأهداف أن الإدارة الجادة تتطلب وضوحًا في الغايات وشفافية في النتائج وربط الجهد بمؤشرات أداء رئيسية.
يؤمن هؤلاء بأن ما لا يُقاس لا يمكن إدارته، وهو المفهوم الذي رسّخه بيتر دراكر في خمسينيات القرن الماضي، وطوّره لاحقًا جون دوير في غوغل ضمن إطار OKR، حين قال: "لا تكتفِ بالقول أريد أن أنجح، بل حدد ما هو النجاح بالأرقام والسلوكيات التي تدلّ عليه".
لكن الاعتماد الحصري على أدوات القياس والتقييم يُعدّ مخاطرة كبيرة في القيادة. لذلك، حذّر الاقتصادي تشارلز غودهارت من أن "المقياس حين يصبح هدفًا، يفسد بوصفه مقياسًا" إذ يمكن للهوس بالمؤشرات أن يحسّن الأرقام على الورق، لكنه يضعف جودة العمل ويشوّه الهدف الأسمى. وقد تبدو الإنتاجية مرتفعة مؤقتًا، بينما في الحقيقة تتآكل أساسات الأداء وتضيع البوصلة على المدى المتوسط. فالحل ليس في إلغاء القياس، بل في تهذيبه وتوجيهه نحو ما يهم حقًا.
لماذا ينقسم المديرون؟ الانحياز والسلوك المتوارث
يظهر جليًا أن الحل ليس بحصرية أدوات القياس من دون الأخذ بالعوامل النفسية والتحفيزية وليس بالعكس أيضًا. فالأمر يتعلق بالتوازن بين المدرستين. لكن، لماذا يميل بعض المديرين إلى مدرسة دون أخرى، رغم وضوح معادلة النجاح؟ إن الأمر يرتبط بطريقة التفكير التي يكتسبها الإنسان حين يجلس على الكرسي الإداري. فالسلطة تمنح صاحبها شعورًا بالتحكّم يدفعه إلى الحسم والسرعة، بينما يدفع غيابها البعض إلى الحذر والميل إلى الإجراءات واللوائح.
تشير أبحاث "التسرّب من أعلى" (trickle-down) إلى أن الأساليب الإدارية تنساب عبر الطبقات داخل المؤسسة. فالقائد الذي يُظهر قسوةً لفظية أو تحقيراً، يورث أسلوبه الإداري إلى المشرفين ورؤساء الأقسام الذين يتبعونه، حتى تصبح الثقافة قوالب سلوكية متكررة. فالناس بطبعهم يميلون إلى إعادة إنتاج ما عاشوه، حتى وإن عانوا منه أو أنكروه لاحقًا.
إذ يتطبع الناس بطريقة القائد وأسلوبه في استخدام السلطة. فمن تربّى مهنيًا في بيئةٍ تُقدّس الأرقام والانضباط يميل إلى تبنّي منطق "الدليل المقاس"، ومن تشكّلت خبرته في ثقافاتٍ تعاونية وداعمة يتوغّل أكثر في خطاب الإيجابية. إن السلوك المكتسب أقوى من المعرفة الأكاديمية، وهذا ما يجعلنا أحيانًا نكرر ما كرهناه من أساليب من سبقونا من دون أن نشعر.
هذا لا يعني أنّ أحد النمطين أفضل بشكل مطلق، فالأساليب الصارمة قد تُنتج نجاحاتٍ في القطاعات عالية المخاطر أو في أوقات الأزمات التي تحتاج حسمًا، كما أنّ بيئات الإبداع تتطلّب سقفًا مرتفعًا من الأمان النفسي. وتُظهر الأدلة التجريبية عبر قطاعاتٍ مختلفة أن النجاعة المثلى تكمن في الجمع بين وضوح الهدف والمساءلة من جهة، ومناخٍ إنساني داعم من جهة أخرى.
بين الكلمة والرقم... أيّ مدرسةٍ نختار؟
قصة إيموتو، ليست كيمياء ماء بقدر ما هي مرآةٌ لمدرستين مختلفتين في القيادة، الأولى ترى في الكلمة الإيجابية أداة إنتاج، وأخرى ترى في الرقم وحده معيار الحكم. وبعيدًا من الجدل العلمي حول التجربة، تبقى رمزًا فعّالًا لتأكيد أثر الكلمة في حياة الناس.
لكن ليس بتنميق الكلام وحده تحيا المؤسسات، فمن دون بوصلاتٍ قياسية، يضيع الأثر، ومن دون تحفيزٍ إنساني تنطفئ شعلة الحماس المهني. القيادة الناجحة هي التي توازن بين سحر الكلمة ودقّة الرقم، فتُطلق طاقات الفريق وتحمي المسار بالأهداف الواضحة، وتمنع الانزلاق إلى خطابٍ عاطفيّ غير مُجْدٍ أو إلى صلابةٍ رقميةٍ عمياء.
 
                                 
                         
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                     
                    