ماذا يجري خلف الخط الأصفر؟ وما خيارات المقاومة للتعامل معه؟

 تبدو خيارات المقاومة الفلسطينية للتعامل مع الخروقات الإسرائيلية محدودة ومحفوفة بمروحة واسعة من المخاطر، لا سيّما في ظل مرحلة التعافي التي يحاول كل سكّان غزة العمل من أجلها.

  • ما خيارات المقاومة في غزة اليوم؟
    ما خيارات المقاومة في غزة اليوم؟

لا يبدو أن العدو الصهيوني في وارد احترام بنود وقف إطلاق النار الذي تم التوصّل إليه في قطاع غزة قبل ثلاثة أسابيع تقريباً، ولا يبدو أن شهيته للقتل والتدمير والحصار قد وصلت إلى مرحلة من التشبّع والاكتفاء، بل إنه وكما العادة يواصل الضرب بعرض الحائط كل ما وعد به، أو أبدى موافقة على تنفيذه.

بعيداً مما جرى مؤخراً من عمليات قصف جوي موسّعة أدت إلى سقوط أكثر من تسعين شهيداً من المدنيين الفلسطينيين، وبغض النظر عن المبرر الذي ساقه العدو والمتعلّق بتأخّر المقاومة في تسليم جثامين جنوده القتلى في غزة، فإن الكثير من التطورات التي تحدث على الأرض تشير إلى رغبة إسرائيلية واضحة في الالتفاف على هذا الاتفاق الهش، بل والتنصّل من معظم محتوياته، وهو في ذلك يستغل العديد من الثغرات التي أشرنا إليها في أوقاتٍ سابقة، والتي تهدّد في حال لم يتم تداركها بسقوط اتفاق غزة وانهياره، سواء بشكل كلّي أو جزئي.

أشرنا في مقالنا السابق إلى جملة من التحدّيات التي تواجه اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، كان من ضمنها استمرار الاعتداءات الإسرائيلية، لا سيّما في المناطق القريبة مما يُسمّى بـ "الخط الأصفر"، والذي كما تشير الخرائط الخاصة به، وكما نلحظه على الأرض بفعل وجودنا على بعد أقل من مئة متر منه، إلى التهامه نحو 52% من أراضي القطاع، وهي المناطق التي تقع في النواحي الشرقية والشمالية منه، إلى جانب كامل مدينة رفح، والتي تم تدميرها بشكل كامل، وتحويلها إلى كومة من الركام.

هذه الاعتداءات التي لم تتوقّف حتى الآن، أُضيف إليها خلال الأيام العشرة الأخيرة تطوّر آخر نراه مريباً للغاية، ويحمل في طيّاته مخاطر عديدة، خصوصاً وهو يجري من دون أن يحرك أحد ساكناً، ومن دون أن يشير إليه أحد أو يحذّر من تداعياته.

هذا التطوّر عبارة عن عمليات تفجير هائلة تجري يومياً في أوقات متأخّرة من الليل، أو في ساعات الصباح الأولى خلف الخط الأصفر من الناحية الشرقية، أي في المنطقة التي يسيطر عليها "جيش" الاحتلال بشكل كامل، ويُمنع أي شخص من الاقتراب منها، أو حتى النظر إليها أو تصويرها عن بُعد، وهو في ذلك يحاول التستّر عمّا يقوم به هناك، وما يؤسس له خلال المرحلة المقبلة.

حسب متابعتنا عن قرب، وحسب الكثير من المعلومات المتداولة، فإن هذه التفجيرات تنقسم إلى جزأين: الأول يستهدف ما تبقّى من بيوت ومساكن ومنشآت تم استهدافها سابقاً إلا أنها ما زالت واقفة على سوقها، ولم تسقط بعض أجزائها، لا سيّما الأرضية منها، أما الجزء الثاني وهو الأعنف، والذي يؤدي إلى هدم وتدمير بعض ما تبقّى من أشباه البيوت غرب الخط الأصفر، والتي يحاول المواطنون المكلومون العيش بداخلها أو بجانبها، رغم ما قد يشكّله ذلك من خطر على حياتهم فإنه يستهدف كما يبدو أنفاقاً تحت الأرض، نجت في ما سبق من بطش الاحتلال، وبقيت بعيدة عن أطنان متفجّراته التي يزرعها بداخلها، محدثاً ما يشبه الهزة الأرضية، وتاركاً تأثيرات كارثية على المساكن التي تبعد عنها أكثر من نصف كيلومتر مربع.

قد يقول البعض إن الاحتلال يحاول استغلال فترة وجودة المؤقّتة في تلك المنطقة للقيام بتدمير كل البنى التحتية الموجودة فيها، وتحويلها إلى منطقة عازلة جرداء تقي مستعمراته ومواقعه العسكرية أي خطر في قادم الأشهر والسنوات، وهذا الكلام في حقيقة الأمر صحيح، ويحمل الكثير من المصداقية والوجاهة، وهو هدف مُعلن لـ"جيش" الاحتلال منذ بداية الحرب، إلا أن ما لا تتم الإشارة إليه هو تأسيس "جيش" الاحتلال بنية تحتية على أنقاض ما كان موجوداً في تلك المناطق، يشير حجمها ونوعها إلى رغبة إسرائيلية في البقاء في تلك المناطق إلى مدّة طويلة، وتنفي بشكل قاطع ما يدّعيه من استعداد للانسحاب منها إلى المناطق الحمراء القريبة من الحدود الشرقية من القطاع في مرحلة لاحقة.

في المنطقة الواقعة شرق مدينة غزة تحديداً، والتي تجري فيها أعنف التفجيرات، وتعمل فيها بشكل متواصل وحثيث حفارات العدو وجرافاته، يجري استحداث مواقع عسكرية جديدة شرق أحياء الزيتون والشجاعية والتفاح، مزودة برشاشات أتوماتيكية ثقيلة تُطلق النار في معظم الأوقات، مُضافاً إليها كاميرات نهارية وليلية حديثة، إلى جانب مناطيد المراقبة الضخمة، والتي يمكنها مراقبة كل أنحاء مدينة غزة، انطلاقاً من شارع صلاح الدين الذي يبعد أقل من مئة متر عن الخط الأصفر، وصولاً إلى مناطقها الغربية في شارع الرشيد "البحر".

هذا الأمر يتكرر في مناطق أخرى ضمن الخط الأصفر، خصوصاً في المناطق الواقعة شرق مدينة خان يونس، وفي بيت حانون وبيت لاهيا شمال شرق وشمال غرب القطاع، واللتين تقعان بشكل كامل داخل مناطق نفوذ هذا الخط اللعين.

حسب كثير من المتابعين لهذا الواقع الجديد الذي يؤسس له "جيش" الاحتلال، والذي يأتي مترافقاً مع الأخبار التي تشير إلى موافقة أميركية على توسيع مناطق نفوذ هذا الخط، والسماح لـ"جيش" الاحتلال بالاستحواذ على أراض جديدة وضمّها إليه، فإن ما يجري قد يؤدي لاحقاً إلى سيطرة وإشراف أمني إسرائيلي على كل مناطق القطاع، سواء تلك التي يسيطر عليها عسكرياً وعملياتياً، أو ما يتبقّى من مناطق تقع جميعها ضمن سيطرته النارية والاستخبارية والمعلوماتية، وهذا الوضع قد يُعيد الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه قبل عام 2005، والتي وإن كان فيها الاحتلال يسيطر على مناطق مهمة واستراتيجية داخل أراضي القطاع، فإنها لم تكن بهذا الحجم، ولا بهذا التموضع والانتشار.

على الجانب الآخر، تبدو خيارات المقاومة الفلسطينية للتعامل مع هذا التطوّر الجديد والتصدي له، وهو الذي يناقض بنود اتفاق وقف إطلاق النار محدودة ومحفوفة بمروحة واسعة من المخاطر، لا سيّما في ظل مرحلة التعافي التي يحاول كل سكّان غزة العمل من أجلها، والوصول إليها بعد ما مرّوا به خلال العامين الماضيين من كوارث وأزمات.

أحد الخيارات التي يتم اللجوء إليها حالياً هو المراقبة والانتظار، أي مراقبة كل الخروقات الإسرائيلية التي تجري في هذا الملف تحديداً، مُضافاً إليها جملة واسعة من الخروقات الأخرى، والانتظار حتى تبدأ المرحلة الثانية من الاتفاق، والتي تشمل في حال تم التزام العدو بها انسحاباً إلى مناطق قريبة من الحدود الشرقية من القطاع، أي التي تم الانسحاب إليها بعد التوصل إلى تهدئة التاسع عشر من كانون الثاني/يناير الماضي.    

هذا الخيار يبدو مفضّلاً لدى المقاومة حتى الآن، وهي تحاول من خلالها تفويت الفرصة على العدو لاستئناف عدوانه على غزة، ومنح المواطنين في القطاع المنكوب والمدمر فرصة لالتقاط الأنفاس، واستعادة جزء من حياتهم التي حوّلها الاحتلال إلى جحيم لا يُطاق.

خيار ثانٍ يشير إليه ما جرى في رفح قبل عشرة أيام تقريباً، وهو القيام بتنفيذ عمليات هجومية في المناطق الواقعة داخل الخط الأصفر، تستهدف من خلالها مجموعات نخبوية من المقاومة قوات الاحتلال المرابطة في تلك المناطق، وإيقاع أكبر قدر من الخسائر البشرية في صفوفها، وهو ما قد يتطوّر لاحقاً إلى ما يشبه حرب الاستنزاف، والتي تجعل تكلفة بقاء قوات الاحتلال فيها باهظة، وهو ما يشكّل ضغطاً كبيراً قد يؤدي إلى انسحابها منها في وقت لاحق.

هذا الخيار كما بدا بعد عملية رفح المشار إليها أعلاه قد يحمل تداعيات قاسية، لا سيّما على حياة سكّان القطاع وأحوالهم المعيشية، إذ لجأ العدو بعد إخفاقه في التصدّي للمقاومين، وبعد سقوط عدد من ضبّاطه وجنوده قتلى وجرحى إلى الانتقام من المدنيين، وإلى شن عمليات قصف جوّي موسّعة نتج منها أكثر من ثلاثين شهيداً، ودمار جديد في ما تبقّى من ممتلكات المواطنين المتهالكة والمتواضعة.

على كل حال، قد يكون لدى المقاومة خيارات أخرى لا نعلمها، وقد تذهب إلى مديات أبعد من التي أشرنا إليها أعلاه، إذ إنها تعرف أكثر من غيرها كيف تتعامل مع هذ الاحتلال، وكيف تواجه مخطّطاته ومؤامرته، إلا أن الواقع الجديد الذي يسعى الاحتلال إلى تثبيته في معظم أرجاء القطاع، والذي سيمكّنه في حال نجح فيه من فرض سيطرة أمنية ومعلوماتية كما أشرنا سابقاً، سيشكّل من دون أدنى شك انعطافة حاسمة وغير مسبوقة، وسيؤسس من جديد لمرحلة من الاحتلال المباشر تستمر لسنوات طويلة.

ختاماً، ما زلنا نؤمن بأن هذا الاحتلال المجرم، والمدان دولياً بارتكاب جرائم حرب، والمهدّد رئيس وزرائه ووزير حربه الأسبق والعديد من جنرالاته بالملاحقة والاعتقال، لن ينجح في فرض شروطه على الشعب الفلسطيني العظيم ومقاومته الباسلة، وستسقط كما سقطت من قبل كل خططه الشيطانية التي يسعى من خلالها إلى تكريس نفسه سيداً على كل المنطقة، هذه المنطقة التي تملك شعوبها إرثاً حضارياً هائلاً، وإرادة في العيش بحرية كما باقي شعوب العالم، إلى جانب ما يملكه من رغبة في التخلّص إلى غير رجعة من هذه "الدولة" المارقة، وهو الأمر الذي نعتقد بأنه بات قريبا جداً، وأقرب مما يتصوّر كثيرون.