إعلان بكين للمصالحة الفلسطينية: نحو عالَم متعدّد الأقطاب
تزامن الإعلان عن زيارة نتنياهو، مع الإعلان في بكين عن التوصّل إلى اتفاق بين الفصائل الفلسطينية ولا سيما بين حركتي حماس وفتح، على تشكيل حكومة وحدة لإدارة قطاع غزة والضفة الغربية بعد الحرب.
يزور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الولايات المتحدة ضمن جهود، تقول الإدارة الأميركية إنها تقودها إلى التوسّط لإنهاء الحرب العدوانية على قطاع غزة المستمرة منذ تسعة أشهر، عقب عملية طوفان الأقصى التي نفّذتها المقاومة في العمق الإسرائيلي. وعلى هامش زيارته المثيرة للجدل، يلقي نتنياهو خطاباً أمام الكونغرس الأميركي، مستخدماً منبر الكونغرس كي يدافع عن هدفه المتمثّل في القضاء على حركة حماس.
لقد تزامن الإعلان عن زيارة نتنياهو، مع الإعلان في بكين عن التوصّل إلى اتفاق بين الفصائل الفلسطينية ولا سيما بين حركتي حماس وفتح، على تشكيل حكومة وحدة لإدارة قطاع غزة والضفة الغربية بعد الحرب، وهي خطوة ندّدت بها "إسرائيل" من دون تمهّل.
الاتفاق الذي وقّعته الفصائل الفلسطينية، تتعهّد فيه بتشكيل حكومة وحدة لحكم الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة بعد انتهاء الحرب في قطاع غزة. ويمكن أن يؤدي الاتفاق الذي تمّ الإعلان عنه في بكين يوم الثلاثاء الماضي، والذي ضمّ أيضاً اثني عشر حزباً فلسطينياً صغيراً، إلى ترسيخ العلاقات والمصالحة المحتملة بين الطرفين ذوي الثقل الأكبر في السياسة الفلسطينية أي حركتي فتح وحماس، اللتين ظلّتا على خلاف بشأن حكم الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال.
"إسرائيل" كطرف معنيّ بهذا الاتفاق، استبعدت إمكانية تنفيذ أيّ مبادرة من شأنها أن تؤدي إلى قيام حركة حماس أو السلطة الفلسطينية التي تهيمن عليها فتح بإدارة قطاع غزة مستقبَلاً.
المبادرة الصينية اقترحت مخطّطاً عامّاً لآليات عمل فتح وحماس معاً في حكم الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظلّ تحديات قد تواجه اتفاق الفلسطينيين، ومن هذه التحديات أن حركة فتح ذات توجّه علماني، وحركة حماس هي حزب إسلامي، إضافةً إلى عدم اعتراف حركة حماس بـ "إسرائيل" على عكس حركة فتح.
كانت التوترات بين الطرفين بلغت ذروتها بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي انتهت في عام 2005، وفازت حركة حماس بعدها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في عام 2006 وتولّت السلطة في قطاع غزة في العام التالي. بينما تسيطر السلطة الفلسطينية التي تهيمن عليها فتح على أجزاء من الضفة الغربية التي تحتلّها "إسرائيل"، وأمضت العقد الماضي في قمع المعارضة، واعتقال أعضاء حركة حماس ـــــ والعديد منهم مطلوبون من قبل "إسرائيل" ـــــ ولا تبدي أيّ مقاومة ضدّ الاقتحامات الإسرائيلية شبه اليومية.
في الداخل الفلسطيني، هناك من ينظر إلى السلطة الفلسطينية على أنها فاسدة، كما يعدّها العديد من الفلسطينيين مقاولاً ضمنياً لصالح الاحتلال الإسرائيلي بسبب تنسيقها الأمني الذي لا يحظى بأيّ شعبية داخل وخارج فلسطين.
منذ بدء الحرب الأخيرة على قطاع غزة، زادت "إسرائيل" من عملياتها الأمنية والعسكرية في الضفة الغربية وفرضت عقوبات على السلطة الفلسطينية، علماً بأن هذه ليست المرة الأولى التي يتصالح فيها الطرفان، فقد وقّعت حماس وفتح اتفاقيات للمصالحة في القاهرة عام 2011، وبعد أحد عشر عاماً في الجزائر العاصمة، ولكنّ بنودها لم يتمّ تنفيذها أبداً.
يدعو إعلان بكين إلى إقامة دولة فلسطينية على أساس الحدود التي كانت قائمة قبل احتلال "إسرائيل" للضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية في حرب عام 1967. لكن الإعلان لا يقدّم سوى خطوط عريضة وواسعة لكيفيّة عمل الحركتين الفلسطينيتين معاً، ولا يقدّم إطاراً زمنياً لتنفيذ الاتفاق.
كما أنّ المبادرة الصينية لا تعالج وجهات النظر المتباينة للحركتين بشأن الاعتراف بـ "إسرائيل"، حيث ترفض حماس الاعتراف بـها، في حين تعترف السلطة الفلسطينية بـ "إسرائيل" منذ توقيع اتفاقيات السلام في أوائل التسعينيات وتدعم حلّ الدولتين الذي تدعمه الولايات المتحدة في العلن وتحاربه في الباطن.
هناك شكوك في إمكانية أن يشكّل اتفاق بكين نقطة تحوّل فارقة، لكن في ظل الوضع الحالي، ليس لدى الحركتين الفلسطينيتين الكثير لتخسره. فـ "إسرائيل" كرّرت مراراً بأنها لن تسمح بإقامة ما أسمته إمارات فلسطينية على غرار (حماس ستان) أو (فتحستان) متهمة الحركتين على لسان نتنياهو بتشكيل تهديدات أمنية لـ "إسرائيل"، وقد ندّدت بالاتفاق بعد ساعات من توقيعه، وقالت مراراً وتكراراً إن حماس لن يكون لها أي دور في إدارة غزة بعد الحرب. وكانت
الولايات المتحدة ودول غربية أخرى رفضت في السابق قبول أيّ حكومة فلسطينية تضمّ حماس ما لم تعترف صراحةً بـ "إسرائيل".
في التوقيت، يأتي إعلان بكين في وقت حسّاس من الحرب المستمرة منذ عشرة أشهر على قطاع غزة، وتدرس "إسرائيل" وحماس اقتراحاً مدعوماً دولياً لوقف إطلاق النار الذي من شأنه أن ينهي الحرب ويطلق سراح عشرات الأسرى الإسرائيليين الذين تحتجزهم حماس.
من جانب آخر، إن رفض حكومة نتنياهو والبرلمان الإسرائيلي إنشاء دولة فلسطينية، وعدم تقديم "إسرائيل" رؤية متماسكة لإدارة قطاع غزة بعد الحرب، يزيد من احتمال سيطرة عسكرية إسرائيلية طويلة الأمد على القطاع، في الوقت الذي تتوسّط فيه الصين للسلام في الشرق الأوسط. ولعل أهم ما في الإعلان هو الموقع والوسيط: أي جمهورية الصين الشعبية. فقد سعت الصين إلى إعلان نفسها كوسيط في المنطقة، على الرغم من عدم كونها جزءاً من مفاوضات السلام الرسمية بين "إسرائيل" والفلسطينيين. ويُنظر إلى هذه الخطوة على نطاق واسع على أنها جزء من جهود الصين لزيادة مكانتها العالمية والعمل كثقل موازن للنفوذ الغربي، كما يأتي الإعلان في بكين بعد عام من توسّط الصين في اتفاق لتطبيع العلاقات بين السعودية وإيران بعد سنوات من قطع العلاقات.
إذا تمكّنت الفصائل الفلسطينية (خاصة حماس وفتح) من تطبيق المصالحة المنصوص عليها في إعلان بكين، فمن المؤكّد أنّ النفوذ الدبلوماسي للصين في الشرق الأوسط والعالم سيتعزّز في إطار الجهود المشتركة للصين وروسيا نحو إقامة عالم متعدّد الأقطاب تمّ الإعلان عنه في قمة منظمة شنغهاي الأخيرة.