"أفيون أيديولوجية التعتير".. هكذا تنبأ زياد الرحباني بالمتاهة العربية
"الكوميديا السوداء" تؤكد أن خميرة الخوف العربي تعتّقت في مرجل الجمهور المطيع. وباتت عجينة الخوف خبزَه اليومي، حين يكون للجمهور المطيع.. القمحُ متاحاً.
تحدّث الفنان زياد الرحياني، في سنة 1974، عن "أيديولوجية التعتير" في مسرحية "نُزل السرور".
توقّع الرحباني، سنة 1974، ما كان موجوداً وممارَساً في العالم العربي، وما تحوّل بعد ذلك العام، وفي وقتنا الراهن، إلى قدَر لا مفرّ منه!
أيديولوجية التعتير، التي لا يؤمن النظام الرسمي العربي بسواها، ولا يعيش (ويعاني) المواطن العربي سواها، هي الأيديولوحية التي تجعل الخوف "صديقاً"، ومستساغاً، ومرغوباً فيه، من النظام الرسمي العربي، ومن المواطن العربي، في آنٍ واحد.
النظام الرسمي العربي يبشّر بثقافة الخوف، ويكاد ينظُم قصائد فيها، والمواطن العربي يرضخ لهذا الخوف، ويحفظ "قصائده" عن ظهر قلب"، ويربّي أولاده عليها: فالعين لا تعلو على الحاجب.. هو الشعار المحبَّب إلى قلب المواطن العربي، وهو الشعار الذي يحفظ له رأسه.. منكَّساً!
لكن يكفيه أنه ما زال له رأسٌ بين كتفيه، ولم يكن غلَّةَ "منجل" حاكم عربي، من الورثة الشرعيين للحجاج بن يوسف الثقفي!
الخوف في أجندة النظام الرسمي العربي، منذ ما بعد احتلال فلسطين، وتحديداً منذ الحرب الأهلية، سيئة الذكر، في لبنان، أي منذ كتب زياد الرحباني مسرحية "نُزل السرور"، هي الرديفُ العربي لمصطلح "أيديولوجية التعتير".
فالتعتير، الذي وصل إليه المواطن العربي، هو الابن الشرعي و"الحلال" لذلك "الحبل الدَّنس"، الذي نشأ نتيجة "العلاقة الحميمة جداً" بين أباطرة النظام الرسمي العربي وترهيب المواطن العربي، ليصبح هذا المواطن أسير حالتين لا مهرب له من الاختيار بينهما: فوبيا الخوف.. أو أيديولوجية التعتير!
في "ساعة دهب"، وهي إحدى لوحات المسلسل النقدي "بقعة ضوء"، ينتحر "أبو عدنان" (الممثل فارس الحلو) لأنه أضاع "ساعة الذهب" لمعلمه، الذي يعمل خادماً لديه.
كان الموت، بالنسبة إلى "أبي عدنان" أهونَ كثيراً من العقاب الذي كان ينتظره عند من شغّله خادماً لديه، إن علم بأن "ساعته الذهب"، والتي هي في نظره أغلى كثيراً من حياة "أبي عدنان"، ضاعت.
"أبو عدنان"، في "بقعة ضوء"، هو التجسيد الحقيقي لجهنم المواطن العربي، الذي وصلت حاله الردّية إلى أن يصير الانتحار هو طوق النجاة الوحيد المتاح أمامه في مواجهة الخوف أو الهرب منه. وهو أبلغ تعبير، وأقسى تعبير، في آن واحد، عما استطاعه الخوف، وعما فعله بالمواطن العربي!
حتى النظام العربي.. يخاف أيضاً. لكن الخوف ليس حكراً على المواطن العربي فقط. النظام الرسمي العربي قد يكون أحياناً إحدى ضحاياه.
في "ضيعة ضايعة"، تساوى النظام الرسمي العربي والمواطن العربي في أن يكونا أسيرين للخوف.
الخوف من تسرّب أفكار كتاب "طبائع الاستبداد"، لعبد الرحمن الكواكبي، بين الناس، دفع رئيس مخفر أم الطنافس، "أبو نادر" (الممثل جرجس جبارة، ممثّلاً النظام الرسمي العربي) إلى أن يتقفى أثر من قرأ أوراق الكتاب من خلال "كلمة سر". كلمة السر هذه هي السردين! ودليل رئيس المخفر أنه "ضبط" بالجُرم المشهود أوراقاً ممزقة من كتاب عبد الرحمن الكواكبي ملوّثة بشبهة رائحة السردين! إذاً، "المجرم" الذي ينشر أفكار "طبائع الاستبداد" معروف. إنه ممن يتعاطَون الحرية.. والسردين!
الخوف نفسه من "الفلَقة" وغضب "الهملالي" (جمال العلي، ممثّلاً النظام الأمني العربي) دفع جودي أبو خميس (باسم ياخور) إلى أن يعترف للهملالي بأنه هو "ما غيره" عبد الرحمن الكواكبي، الذي اقترف جريمة كتابة "طبائع الاستبداد". وإن كان لدى الهملالي أدنى شك في أن "جودي" ليس الكواكبي، فحينها لا بدّ من أن زوجته المسكينة ديبة، وحدها لا سواها، هي عبد الرحمن الكواكبي!
هذه "الكوميديا السوداء" تؤكد أن خميرة الخوف العربي تعتّقت في مرجل الجمهور المطيع. وباتت عجينة الخوف خبزَه اليومي، حين يكون للجمهور المطيع.. القمحُ متاحاً.
والكوارث الطبيعية، وغير الطبيعية، والتي ضربت العالم العربي، منذ زمن بعيد، وما زالت، قضت على كل أشجار الفواكه وأشجار الأحلام، التي كان يملكها المواطن العربي، لكنها عجزت عن أن ترمي شجرة خوف المواطن العربي.. بحجر، أو بشوكة.. أو حتى بوردة !
وإن كانت المسلسلات والأفلام المصرية روّجت "نكتةً" مفادها: "ضِلّ راجل ولا ضِلّ حيطة"، كنموذج عن حقيقة ما وصلت إليه ثقافة الزواج في المجتمع المصري (نموذجاً عن المجتمعات العربية)، فإن المواطن العربي، المحاصَر بالفقر والحرمان من كثير من الحقوق، ولن يكون أهمها الحق في التعبير عندما يكون حقه في لقمة الخبز "ترفاً".. هذا المواطن العربي، الذي حالته "تُبكي" إلى هذا الحد، أضحى (على طريقة نكتة المسلسلات المصرية) يتمنى أيضاً مساكنة الخوف على أن يكون أسير حياة التعتير، وفق قاعدة: ضِلّ "رَجُل الخوف" ولا ضِلّ "حيطة التعتير".