"69 بيكفي".. رحيل زياد المتمرد على نفسه

حياة زياد الرحباني تميّزت بانقطاعات تربط بين فترات الإبداع الفائض، معبراً بذلك عن طبيعته الانسانية، ورافضاً بطريقة فطرية لمحاولة جعل الانسان آلة تعمل وفق وتيرة ثابتة.

  • حياة زياد امتدت على طول 69 عاماً (أرشيف).
    حياة زياد امتدت على طول 69 عاماً (أرشيف).

لم يكن العنوان "59 بزيادة"(في إشارة إلى عمره آنذاك)، الذي اختاره الفنان اللبناني الراحل زياد الرحباني، عنواناً لحفله الموسيقي، الذي أقامه منذ نحو 10 سنوات، سوى تعبيراً عن مزيج من الاستياء والاشمئزاز الذي يشعر به إزاء الخواء السياسي، والاختناق الاقتصادي، والتردي الخدمي الذي حل بالبلاد.

امتدت حياة زياد على طول 69 عاماً، ابتلع منها الإبداع الفني نحو 62 سنة، تاركاً له 7 سنوات من طفولة لم تخلُ من التفكر في أبعاد فلسفية للطبقية الاجتماعية في هذا العالم.

حيث يروي، في إحدى المقابلات التلفزيونية، الحادثة التي مثّلت الشرار لاندلاع الثورية في فكره، يوم سأل نفسه كيف يذهب إلى المدرسة كل يوم بصحبة سائق وسيارة تقله، فيما يتوسل طفل آخر من سنّه النقود، قبل صياح الديك.

وقبل أن يثور على الموروث الفني لعائلته التي رسخت هوية "لبنان الكبير" وسرديته في أعمالها، كان لا بد من المرور بمرحلة وراثة، أنتج خلالها مسرحيته الأولى "سهرية" في سن الـ 17، تلاها "نزل السرور"، بعد عام واحد.

"بالنسبة لبكرا شو" كانت اللحظة الفنية التي ألقى فيها الرحباني المتمرد العباءة الرحبانية التقليدية عن كتفيه، ثائرًا على مضمونها، إذ أمسى على عكس والده عاصي، وعمه منصور، من أبرز المنتقدين الفنيين لصورة لبنان النمطية المنّمقة.

ثم كانت "فيلم أميركي طويل" عام 1980، وتبعها "شي فاشل" عام 1983.

ثورة زياد على نفسه، لم تتوقف عند الجانب الفكري، الذي عبّر عنه من خلال أعماله، بل أنها وصلت إلى طبيعة الفن الذي يقدّمه وشكله، فأضاف أشكالاً جديدة من الموسيقى إلى الانتاج الفني اللبناني، كالـ “jazz” مثلاً، متمرّداً مجدداً، ولكن هذه المرة على التقوقع الموسيقي الشرقي.

ولأن أي ثورة أو انتفاضة لا بد لها من مكتسبات ولو بسيطة، استطاع زياد أن يحدث خرقاً في نمط غناء والدته الأسطورة "فيروز"، حيث روى في إحدى المرات أنه أمضي وقتاً طويلاً في إقناعها بكلمات أغنية "كيفك أنت" التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بأي لحظة حنين أو لربما خيبة عاشها متذوقو الأغنية الفيروزية في العالم العربي.

حياة الفنان اللبناني تميزت بانقطاعات تربط بين فترات الإبداع الفائض، معبراً بذلك عن طبيعته الانسانية، ورافضاً بطريقة فطرية لمحاولة جعل الانسان آلة تعمل وفق وتيرة ثابتة.

آراؤه الجدلية لطالما أثارت نقاشاً عاماً في بلده تحديداً، بينما من رآه المفرط في التششاؤم، وبين من اعتبره واقعياً وأحب واقعيته. محبوه هؤلاء أنفسهم يقولون أن استياء البعض من زياد نتيجة لتفجيره فقاعات الوهم في أوجههم، وتدميرهم لآمالهم الوهمية المصطنعة.

المسرحي والموسيقي الذي عاش سنيناً في جنوب لبنان إبان مقاومته للاحتلال، لم يخف تأييده للمقاومة، حيث قال مرة، لدى سؤاله إذا ما كانت والدته فيروز تحب المقاومة، إنها لو لم تكن كذلك، لما استطاع العمل معها، وتعدت مواقفه الحب والتأييد غلى الدفاع، حيث اعتبر أن من يكره المقاومة، يكرهها لأنها انتصرت، فقط.

وبعد كل هذا العمر، يرحل زياد الرحباني بعد أن لم يعد مكترثاً "بالنسبة لبكرا شو"، تاركاً خلفه فراغاً فنياً، ومسرحاً سيعيش "وحده بلاه"، متمتماً في قلبه "69، هذه المرة، حقاً بيكفي".