وداع صعب لأيمن الرفاتي... ولكن

في استشهاد أيمن الرفاتي تفاصيل كثيرة؛ لقد استهدفت "إسرائيل" الصوت الذي يقلّل من شأنها ومقدارها، ويفضح نيّات قادتها، ويقدّم تلك الفضائح إلى المشاهد العربي في حملة توعية مفادها: "أوهن من بيت العنكبوت".

  • استشهاد أيمن الرفاتي.
    استشهاد أيمن الرفاتي.

أنزل الله صبراً على قلبي. فوجئت بصلابة هذا القلب حينما استشهد شقيقي إبراهيم في هذه الحرب، وصبراً مماثلاً حينما استشهد عدد من أصدقائي ومعارفي، لكن هذا الصبر لم أجده حينما استشهد أيمن الرفاتي.

كان طعم فقده عليّ مرّاً علقماً، كيف لا ونحن نعرف بعضنا بعضاً منذ أكثر من عشرين عاماً؟ طوال تلك الأعوام بأيامها، لا أبالغ أنه كان يجب أن نتبادل أطراف الحديث وجهاً لوجه يومياً في كل شيء وعن أي شيء! كانت هناك ساعة يومية في حياتي اسمها "ساعة أيمن".

خسرت فلسطين ـــــ على الأقل أنا بصفتي فلسطينياً ـــــ صوتاً واثقاً بمسار المقاومة، حتى إن تخلّى عنها أو شكّك بها ـــــ في لحظات ضعف ـــــ المناصرون والمقرّبون من تيارها. أما أيمن، فكان وفيّاً لفكرها مدافعاً منافحاً صنديداً عن خط المواجهة العسكرية ضد "إسرائيل"... "لأنها دولة مارقة لا تفهم إلا القوة، ولا يمكن ترجمة هذه القوة إلا بالمقاومة"، كما كان دائماً ما يقول.

رحم الله أيمن، وما أثقلها على عيني وأذني أن أسمع "رحمه الله" بعد اسمه! كنّا معاً في رحلة خدمة "صاحبة الجلالة" منذ وطئت أقدامنا الجامعة الإسلامية في غزة. قال لي يوماً: "محمد؟ أنا بديش أكون صحافي ويلا السلام، أكتب خبر وخلص. بدي أتخصص في إني أفهم الشأن الإسرائيلي. عددهم في غزة قليل جداً، وبدي أتعلّم العبرية". فكان، وصار.

بدأ يكتب في تقديرات الموقف والتحليلات في شأن الاحتلال، وبكل تواضع، يسمع للانتقادات بصدر رحب، بعد أن يرسل إلى هذا وذاك من الزملاء من كل التخصصات. فيرسل إلى المحرّر الممتاز ليقيّم أسلوب الكتابة، ويرسل إلى مترجم العبرية ليقيّم الترجمة، ويرسل إلى المحللين ليقيّم التحليل... حتى وصل إلى درجات الكمال في الشأن الإسرائيلي، الكمال الذي تُرجم كونه ضيفاً دائماً على كبريات المحطات العربية ليحلّل في الشأن الإسرائيلي.

لم يكتفِ بهذا فحسب، بل واصل الصعود والنحت في صخر التعلّم طالباً المزيد، إلى أن نال شهادتي الماجستير من مصر والدكتوراه من لبنان. أعلم عن أيمن إنجازات لا أريد الخوض فيها "كي لا يذهب أجرها عند الله"، كما كان دائماً ما يقول.

حكمت عليّ الدنيا وتحدياتها أن أفارق غزة في 2018، وكان وداع أيمن أثقل وداع بعد عائلتي، فودّعنا بعضنا بدموع تذكر عيناي حرقتها إلى يومنا. قلت له: "لازم نشوف بعض، مش تطلع وما تحكيلي؟"، لكنني لم أره، فعادت عيناي تحرقانني.

في استشهاده تفاصيل كثيرة؛ لقد استهدفت "إسرائيل" الصوت الذي يقلّل من شأنها ومقدارها، ويفضح نيّات قادتها، ويقدّم تلك الفضائح إلى المشاهد العربي في حملة توعية مفادها: "أوهن من بيت العنكبوت".

كلّ زاوية في قصة استشهاد أيمن صافية لا تشوبها شائبة، ففي الزاوية الأولى هو شهيد الكلمة، كلمة المقاومة، وفي الزاوية الثانية رفض مغادرة مدينة غزة والنزوح، وفي زاوية ثالثة، ظل في بيته مرابطاً بين عائلته.

صبّر الله قلب منى زوجته، وألهم بناته فاطمة وسلمى ودانا السلوان على فقد زوج عظيم وأب يفيض حباً، وابن بار بوالديه، وخاصة والدته ـــــ رحمها الله ـــــ التي توفيت وهي راضية عنه تمام الرضا، فاجمعهما اللهم بالفردوس الأعلى، واجمعنا بك، يا حبيبي، يا أبا عمر.