واشنطن عاجزة عن فك شيفرة وحدة الساحات والجبهات
لم تستطع الولايات المتحدة فك شيفرة العمل المقاوم، ووحدة الجبهات وترابط الساحات، ولن يقدم لها محور المقاومة الدرس بالمجان، وبات عليها التخلي عن غطرستها وهيمنتها.
بعد مرور قرابة عقد ونصف من الحرب على سوريا، لا تزال الولايات المتحدة تراهن على روايتها الإعلامية الأولى، التي ادعت فيها أن وجودها في سوريا هو لمحاربة تنظيم "داعش" الإرهابي والقضاء عليه، ولحماية الشعب السوري وثرواته ونفطه، وتحت هذه العناوين أطلقت أهم استراتيجياتها وأهدافها داخل سوريا وفي منطقة الشرق الأوسط، وبالتوازي مع إطلاقها يد "داعش" لتنفيذ أجندتها ومخططاتها، واحتفظت لنفسها بحصرية إنهاء مهامه وإعلان انتصارها عليه بعد تحقيق كامل أهدافها.
لكن الرئيس دونالد ترامب في20 كانون الأول/ديسمبر2018 خدع العالم، بعدما أوحى باستخدامه الورقة الأميركية الأخيرة، وأعلن انتصاره على "داعش"، وحدّد رسمياً موعد انسحاب القوات الأميركية، وكانت هذه المرة الأولى التي تتحدث فيها الولايات المتحدة عن انسحابها من الأراضي السورية.
تمكن ترامب من خداع حلفائه وشركائه في "تل أبيب" ودول الخليج العربي، وجميع المهتمين ببقاء القوات الأميركية في المنطقة آنذاك، ولم ينفذ وعده بالانسحاب بناء على مطالبتهم، لكنه حصد في المقابل الكثير من الأموال لصالح الخزينة الأميركية ولصالحه الشخصي، واستطاع زيادة عدد الدول التي انضمت إلى قافلة التطبيع، وإلى اتفاقيات إبراهيم، وجاءت الحرب على غزة اليوم لتكشف المزيد من المشاريع الأميركية التي كانت موجودة أصلاً على الأجندة الأميركية منذ عام 2000، والتي لأجلها صممت وصنّعت "داعش" وبثت روحها فيه، وأطلقته في سوريا والعراق.
سنوات والأميركيون ينفون امتلاكهم أجندة خاصة في سوريا، على الرغم من قول ترامب "أصبح النفط السوري في قبضتنا"، ومع وصول إدارة الرئيس بايدن، أعلن وزير خارجيته أنتوني بلينكن، بحث بلاده "عن الحل السياسي في سوريا"، وكرر رواية من سبقه بأن وجود القوات الأميركية في سوريا هو "لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي".
في الوقت الذي أثبتت فيه الوقائع، اعتماد واشنطن استراتيجية كبرى تتخطى مصالحها على الأراضي السورية، وتصل بمبتغاها إلى العراق وإيران وروسيا والصين وتركيا، ومشاريعها المشتركة مع العدو الإسرائيلي، لتصفية القضية الفلسطينية، والقضاء على محور المقاومة وأحزابه وفصائله، والتي من أجلها تستشرس منذ 8 أكتوبر في القتال الإعلامي والسياسي والعسكري، والدعم المالي لقوات الاحتلال الإسرائيلي، ومشاركتها في ارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.
سنوات تجاهلت فيها واشنطن عشرات التحذيرات من الدولة السورية، وضرورة انسحاب قواتها من الأراضي السورية، واستمرت بسلوكها الاحتلالي اللصوصي المشين، وبمضاعفة أعداد قواعدها العسكرية، والاعتماد على ميليشيات "قسد" الانفصالية، وعلى فصول مسرحية انكفاء "داعش" واختفائه تارةً، ووضعه في سجون "قسد"، وبإعادة إطلاقه تارةً أخرى، في حين كانت تتكئ عليه لحماية قواعدها في التنف وغيرها، وللاعتداء على نقاط تمركز وحدات الجيش العربي السوري، وتفجير مواكب مبيت جنوده، وتنفيذ الاغتيالات، وبدا واضحاً أنها لا تفكر في الانسحاب، واختفى الحديث السياسي والإعلامي الأميركي عن ذلك.
وبالتوازي مع هزائم حلفائها في أوكرانيا، واستغلالها عملية "طوفان الأقصى"، هرعت منذ صبيحة 8 أكتوبر نحو الشرق الأوسط، لحماية الكيان الإسرائيلي، والقتال إلى جانبه، بعدما نقلت جزءاً كبيراً من جنودها وأسلحتها من أوكرانيا، بالإضافة إلى ما استجلبته من بوارجها وأساطيلها الحربية وحاملات طائراتها إلى السواحل الفلسطينية ومياه البحر الأبيض المتوسط.
وبعد مضي أكثر من مئة يوم على الحرب والعدوان على قطاع غزة، لم يكن انسحابها من سوريا موضع ذكر أو اهتمام الإدارة الأميركية... ويطرح السؤال نفسه، ما الذي حدث خلال العدوان على غزة كي يعود الحديث عن الانسحاب الأميركي من سوريا؟
من الواضح أن إدارة بايدن رأت في الرد على عملية "طوفان الأقصى" الفرصة لما هو أبعد بكثير من تحقيق الأهداف الأميركية -الإسرائيلية الغربية في فلسطين، وتكشفت مخططات التسفير والتهجير الفلسطيني نحو سيناء والنقب وإنهاء المقاومة الفلسطينية، والقضاء على "حل الدولتين"، ناهيك بمشاريع "قناة بن غوريون"، وسرقة النفط الغاز الفلسطيني، والسيطرة على طريق الملاحة البحرية في البحر الأحمر، ومضيق باب المندب، والدفع بمشروع الممر الهندي وغيرها.
وجميعها مشاريع ومخططات تضاعف زعزعة استقرار وأمن المنطقة والعالم، وتنال من الأمن القومي والمبادئ والثوابت الإيرانية، وتسعى كذلك إلى تحجيم النفوذ الروسي في سوريا والمتوسط وفي منطقة الخليج العربي، وتساهم في تعطيل مبادرة "الطريق والحزام" الصينية، ومشروع السيل التركي-الروسي، ومنع وصول الغاز الروسي إلى أوروبا عبر تركيا...
اعتقدت الولايات المتحدة أنها بأساطيلها وحاملات طائراتها، وتهديداتها العلنية المباشرة وغير المباشرة، لكل من إيران وسوريا ولبنان والعراق وروسيا والصين، وأحزاب المقاومة وفصائلها كافة، ستجعلها قادرة على تجميد واجباتهم وتحييد أدوارهم والتأثير في دعمهم للمقاومة الفلسطينية خلال العدوان، ووضعهم إما في حالة سكون ومتابعة لتقدم مشاريعها ومجازرها، أو جرّهم نحو توسيع نطاق الحرب الإقليمية والدولية.
في وقت لم يتوقف الرئيس الأميركي عن تكرار "عدم نية بلاده توسيع نطاق الحرب"، فعل العكس، وعمد إلى زيادة أعداد جنوده في سوريا، وشن حملة إعلامية سياسية ضد إيران، حمّلها فيها مسؤولية دعم الفصائل الفلسطينية وحزب الله في لبنان، وأنصار الله في اليمن، وأحزاب المقاومة العراقية وفصائلها، كذلك قام بالاشتراك مع الإسرائيليين في تنفيذ اغتيالات لشخصيات عسكرية إيرانية بارزة في دمشق، وحاول إشعال الصراع ما بين إيران وباكستان، وأنشأ تحالفاً دولياً ضد المقاومة اليمنية، ونفذ هجمات عدوانية على مدن يمنية عديدة.
وسط كل هذا الجنون الأميركي-الإسرائيلي-الغربي، اعتقدت واشنطن أنها تسيطر على الميدان والرواية والإعلام، ولم تكن تتحدث عن انسحابها من سوريا.
مضت الأشهر الثلاثة الأولى للحرب والعدوان على غزة، وسط المواجهة البطولية الأسطورية للمقاومة الفلسطينية، والاحترافية العالية والإشغال الذي يقوم به حزب الله، على وقع الأخبار اليومية التي تعلن استهداف المقاومة القواعد الأميركية في العراق وسوريا، وتصاعد وتيرة الضربات الموجعة وتهديدها الوجود الأميركي في سوريا، وقد تخطى عدد الهجمات 166 هجوماً منها 98 هجوماً في سوريا – بحسب اعتراف مسؤول عسكري أميركي لقناة الميادين، فقدت جراءها القوات الأميركية أرواح عدد من جنودها وضباطها، وسجلت أعداداً كبيرة من الجرحى والمصابين، في حين تكفلت المقاومة اللبنانية بهز الكيان الإسرائيلي برمته ودفعته أكثر فأكثر نحو الرضوخ لمعادلات ردع المقاومة وإنهاء الحرب على غزة، وكذلك نال أنصار الله من الهيمنة والغطرسة الأميركية والبريطانية، وحافظ على حصاره الاقتصادي للكيان الإسرائيلي، في الوقت الذي حولت المقاومة العراقية القواعد الأميركية في سوريا والعراق إلى ساحات للكوابيس الأميركية.
في هذه الأجواء، ظهرت التسريبات الأميركية، وعاد الحديث عن ضرورة انسحابها من سوريا ورضوخها للمفاوضات مع العراقيين من أجل انسحابها النهائي من العراق، وسط حديث قائد الأسطول الأميركي الخامس عن حاجة الصواريخ والمسيرات اليمنية إلى 75 ثانية للوصول إلى أهدافها "في حين أننا لا نملك سوى 9 - 15 ثانية لاتخاذ قرار إسقاطها"، من الواضح أن ضربات المقاومة على مختلف الجبهات أدخلت الإسرائيليين والأميركيين وأساطيلهم في حالة من اليأس التي ستجبرهم على الرضوخ لشروط محور المقاومة، أو لاتخاذ قرار الفرار من غزة وسوريا بالحد الأدنى.
كان لا بد للولايات المتحدة أن تدفع ثمن هزائمها من أوكرانيا وصولاً إلى غزة، وبعودة القضية الفلسطينية إلى مسارها القومي والوطني المقاوم والإنساني، بتأكيد الرئيس بشار الأسد "بأن غزة ليست القضية، وإنما فلسطين هي القضية".
فالخروج الأميركي من سوريا والعراق، هو انتصار للمقاومة وللقضية الفلسطينية وبعودتها لتتصدر القضايا الدولية الإعلامية والإنسانية والحلول والتسويات، وباعتراف ديفيد كاميرون كبريطاني ووريث لوعد بلفور، بأن "بريطانيا وحلفاءها سيعيدون النظر في مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية وبحل الدولتين على نحو لا رجعة فيه".
من المهم للولايات المتحدة أن تستفيد من جولة المواجهة الحالية، وألاّ تبني قناعاتها على أسس واهية، وبإدراك أن وحدة الجبهات وساحات المقاومة، ونوعية التعاون والعمل المقاوم، لا تقوم على التبعية والإملاءات الإيرانية، كما يعتقد ويروّج الأميركيون رغم النفي الإيراني وجميع أركان المحور وقادته، بل تنبع من الصدق والوفاء للأرض والمقدسات، ومن الكرامة والإباء، والصبر والإيمان، وأصالة قيم الدين والحق، ونصرة المظلومين، ولا توجد قضية عادلة في هذا الكون كالقضية الفلسطينية.
لم تستطع الولايات المتحدة فك شيفرة العمل المقاوم، ووحدة الجبهات وترابط الساحات، ولن يقدم لها محور المقاومة الدرس بالمجان، وبات عليها التخلي عن غطرستها وهيمنتها، والانسحاب من قطاع غزة وسوريا والعراق، فضلاً عن وقف الحرب الهمجية والإبادة الظالمة على الشعب الفلسطيني والاعتراف بحقه في تقرير مصيره، بالإضافة إلى التزامها باحترام القانون الدولي والإنساني وحق الشعوب العربية في تحرير أراضيها ومقاومة محتليها وقاتليها وسارقي ثرواتها.