لماذا ستبقى المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية مهيمنةً إلى حين؟
المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية ستظل الطرف المهمين في المشهد السياسي الدولي، إلى حين، نظراً لتسابق الدول نحو تعزيز قدراتها العسكرية.
في حقل علم العلاقات الدولية، ثمة نظرياتٌ تتصارعُ فيما بينها في إطار من التدافع الفكري والنظري والواقعي، وكل واحدةٍ تحاول أن تَجُبَّ ما قبلها من نظرياتٍ، عبر نقد ما تحمله من أفكارٍ، وتعطي كذلك رؤيتها البديلة في تفسير الظواهر السياسية، محل الدراسة لتأكيد صوابتيها، انطلاقاً من تصورات منظّريها وانتسابهم إلى هذه المدرسة أو تلك.
ولكن سنركز في هذا المقال، على نظريتين مهمتين في العلاقات الدولية وهما النظرية الواقعية والنظرية الليبرالية، باعتبارهما النظريتين اللتين تتصارعان لإثبات وجودهما، وبكونهما الأكثر تأثيراً في المشهد السياسي العالمي، وهذا لا يعني استبعاد أو التقليل من شأن باقي النظريات الأخرى المفسرة في العلاقات الدولية.
قامت المدرسة الواقعية بشقيها الكلاسيكي والبنيوي-على أنقاض المدرسة المثالية التي سادت بعد الحرب الكونية الأولى-وترتكز في نظرتها للعلاقات الدولية على ما هو كائن فعلاً، - وليس على ما يجب أن يكون مثلما تنادي به المدرسة المثالية – وأن الطبيعة البشرية شريرة بطبعها، وأن النسق السياسي الدولي فوضوي، لعدم وجود سلطة عليا ترتب الجزاءات على الدول، التي تعتبر الفاعل الوحيد في المسرح الدولي، مع التشديد على أن معياري القوة والمصلحة هما المحددان الرئيسيان في العلاقات الدولية، ويبقى دور المنظمات الدولية في بنية النسق الدولي ثانوياً.
في حين ترى الواقعيةُ البنيويةُ أو كما يُطْلَقُ عليها، الواقعية الجديدة بصنفيها الدفاعي والهجومي، فالواقعية الدفاعية ترى أن الدول تسعى إلى تعظيم قدراتها الدفاعية على الهجومية، من دون تهديد أمن الآخرين، وذلك للحد من الفوضى الدولية التي تطرأ على الساحة العالمية. أما الواقعية الهجومية فقد أعطت أهميةً للقوة وعَظَّمَتْهَا، بل وأكّدت ضرورة امتلاك الدول لقدرات هجومية تجعلها تتفوق على باقي الدول الأخرى من أجل الدفاع عن وجودها ومصالحها.
أمّا المدرسة الليبرالية فهي تقترب إلى حدّ كبير من المدرسة المثالية، وإن أقرت بفوضوية النظام الدولي، إلا أنها تنظر إليه نظرة تفاؤلية ومثالية، باعتبار أن الطبيعة البشرية خيّرةٌ مع التركيز على مسألة التعاون بدل الصراع بين الدول، وحل الأزمات الدولية باللجوء إلى الوسائل الدبلوماسية، وفقاً لأحكام القانون الدولي العام، إذ لا تعتبر الدول هي الفاعل الوحيد في العلاقات الدولية بل كذلك المنظمات الدولية أيضاً.
وإذا تتبّعنا مسار المنظمات الدولية في تسوية الصراعات، سنجد أن إنجازاتها في هذا الباب تبقى محدودةً، مثال على ذلك الأمم المتحدة التي أصبحت مظلة تستظل بها بعض الدول الكبرى لتحقيق أهدافها ومصالحها، معاقبة ما تسميها الدول المارقة، وهذا جعلها عاجزة عن إيجاد حلول للأزمات الدولية مثال فلسطين والصومال وغيرها.
وبناءً عليه، وبالنظر إلى التحوّلات المتسارعة التي بات يعرفها العالم على مستوى النسق السياسي الدولي، نلاحظ أن أغلبية الدول سيما العظمى لجأت إلى تعظيم قدراتها العسكرية سواء الدفاعية أو الهجومية من خلال تحديث عقائدها العسكرية، كي تتماشى مع التحولات الإقليمية والدولية وحجم التهديدات التي تواجه أمنها، مع الرفع من ميزانياتها الدفاعية. أضف إلى ذلك الدخول في تحالفات أو شراكات عسكرية ثنائية أو جماعية لصد العدو الخارجي المفترض، وحماية مصالحها الاستراتيجية، وهو ما ترتكز عليه النظرية الواقعية التي تشكل القوة والمصلحة رُكْنَيْهَا الأساسيين.
ولعل أبرز مثال على ذلك حلف أوكوس الذي أنشأته مؤخراً الولايات المتحدة الأميركية بمعية أستراليا وبريطانيا في مواجهة الصعود المتنامي للصين، مثلما أبرمت الأخيرة مع روسيا شراكة عسكرية، وإن لم ترقَ بعد إلى مستوى التحالف العسكري الفعلي لكن المناورات الدورية التي تنشئها الدولتان، تنم عن احتمالية إنشاء حلف عسكري صيني روسي في المستقبل.
وإذا تأملنا في الميزانيات العسكرية للدول العظمى نرى ارتفاعاً مهولاً في الإنفاق العسكري في السنوات الأخيرة، وقد تصاعدت على وجه الخصوص مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، إذ رفعت فرنسا وألمانيا وإنكلترا وروسيا من ميزانية التسلّح. وهذا يؤكد أن معياري القوة والمصلحة هما الدافعان الرئيسيان لسلوك الدول الكبرى في النسق السياسي الدولي، سواء لفائدة الدفاع أو الهجوم، لأن القوة هي الوسيلة لحماية مصالح الدول.
في النهاية نصل الى استنتاج مفاده، أن المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية ستظل الطرف المهمين في المشهد السياسي الدولي، إلى حين، نظراً لتسابق الدول نحو تعزيز قدراتها العسكرية بسبب تضارب مصالحها، ما ينتج عنه وجود حالة صراع بينها قد يتحول إلى صدام عسكري. في انتظار بروز نظريات أخرى قد تدفعها الى التراجع.