الدبلوماسية العلمية: خيار ما قبل الهلاك الأخير
رغم الاعتراف بأنَّ العالم ضربته في عمقه قضايا الأيديولوجيا والكراهية وأمراض الهوية، لكن الحسنة الكبرى للدبلوماسية العلمية تكمن في أنها تملك القدرة على تجاوز تلك الحدود الأيديولوجيّة والهوياتية والجغرافية.
تابعتُ باهتمام قمة المناخ الأخيرة ((Cop 27 في شرم الشيخ، التي عُقدت بحضور دولي واسع، والتي حاولت الدبلوماسية الدولية فيها أن تسعف الكرة الأرضية بسب ارتفاع درجات الحرارة نتيجة انبعاث الغازات الصناعية.
لم تسفر تلك القمة، على الرغم من أهميتها، إلا عن آلية صندوق التعويضات التي تدفعها الدول الغنية للدول الفقيرة كتعويض، ولم تفرض التزامات محددة على الدول الصناعية الكبرى.
والجدير بالذكر أنَّ قمم المناخ ما زالت تبحث عن الآليات الفاعلة للتصدي لتلك الظاهرة الكونية، وتحث المجتمع الدولي والحكومات والشعوب على ضرورة التوعية المجتمعية بمعالجة قضايا البيئة، وكذلك ما زال الأمين العام للأمم المتحدة يحذر من أن البشرية أمام خيار العمل معاً أو "الانتحار الجماعي".
ألا يشكّل هذا مدخلاً تشكيكاً في حقيقة النيات والقناعات العلمية لدى الدول بأهمية هذا الملف وخطورته؟ وهل كان هناك حضور فاعل للعلماء والخبراء والباحثين في المفاوضات أمام الساسة والدبلوماسيين وصناع القرار لإقناعهم بوجود خطر راهن يداهم الكوكب؟
بدوري، أشعر بأنَّ التباعد ما زال كبيراً بين العالم والسياسي تجاه قضايا المناخ، فضلاً عن تسونامي التهديدات والمشاكل العالميّة مثل: المجاعة، والحاجة إلى ضمان الأمن الغذائي، ونقص المياه الحاد، وانتشار الأوبئة والأمراض (بما في ذلك الإيبولا، والملاريا، والجدري، وكوفيد-19 وغيره)، والحروب السّيبرانية، وأسلحة الدمار الشامل، والحروب التقليديّة، وذوبان القارات القطبية، وغيره.
هذه الأزمات تستدعي وقفة تضامنيّة حقيقية وتعاوناً عالمياً مشتركاً، وليس تفاهمات تجميلية لصور الدول والحكومات فقط، وخصوصاً أنّ تلك التحدّيات كشفت حقيقة دامغة بأنه لم يعد بإمكان أيّ بلد بمفرده مواجهتها، مهما كانت قوته العلميّة والتكنولوجيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، وأن عمليّة اتّخاذ القرارات لا بد من أن تكون مبنية على توازن دقيق بين المصالح الوطنيّة والمصالح الدوليّة المشتركة، فهل هناك سبيل إلى ذلك غير التعاون العلمي المشترك عبر بوابة الدبلوماسيّة بنمطها الجديد "الدبلوماسية العلمية"؟
وبما أنَّ الدبلوماسية تعدّ الغرفة المحركة للعلاقات الدولية، فإذا ما فهمنا الدبلوماسيّة العلمية القائمة من مركب تفاعلي بين العلم والدبلوماسية، فإننا سنعيد الحياة إلى تلك الغرفة في ظل الثورة العلميّة والتكنولوجية التي لم تعد تمثل أهم أدوات السياسة الخارجية المحلية فحسب، بل أصبحت تمثل أيضاً عملية تشاركية عالمية، فضلاً عن كونها الخيط المتصل بين البيئة الداخلية والبيئة الخارجية.
رغم الاعتراف بأنَّ العالم ضربته في عمقه قضايا الأيديولوجيا والكراهية وأمراض الهوية، لكن الحسنة الكبرى للدبلوماسية العلمية تكمن في أنها تملك القدرة على تجاوز تلك الحدود الأيديولوجيّة والهوياتية والجغرافية، لأنّ العلم يسعى لتوفير بيئة محايدة أو على الأقل شبه محايدة للتبادل الحر للأفكار بين المجتمعات، وبالتالي فرصة لتحريك الراكد من البيئة السياسيّة والدوليّة عبر بوّابات الدبلوماسيّة التقليديّة إلى نمط دبلوماسي جديد، وعبر أساليب جديدة ومبتكرة تعزز دور وشائج العلاقة بين العالم والدبلوماسي.
لكن لا يمكن أن نصل إلى هذه النتيجة من دون إزالة الصدأ والتكلّس عن بقايا الدبلوماسية التقليدية بثورة على الهياكل والمؤسَّسات الدبلوماسية التي وصلت إلى أرذل العمر، وأيضاً دفع العلماء إلى مسار هذه المنصة الجديدة لنعيش انطلاقة خلاقة تعيد إلى العالم بسمته الخجولة.
تاريخياً، مارس العلماء أدواراً في فتح قنوات الاتصال بين الوحدات الدوليّة والفواعل من غير الدول عندما تكون أبواب السياسيّة والدبلوماسيّة مغلقة، كما أن الدبلوماسيّة تتطلَّب بروتوكولات خاصة، مثل الإعلان عن تاريخ بدء العلاقات وما يليها من تمثيل مقيم أو غير مقيم ورسائل تكليف رسمية للتفاوض والاتّصال، فيما يُرحب بالعلم والعلماء من دون الأخذ بالاعتبارات الخاصة بالبروتوكولات المذكورة آنفاً، حتى إن التعاون العلمي والحوار أحياناً يشمل دولاً لا تعترف إحداها بالأخرى على المستوى السياسي الرسمي.
أعتقد أنها فرصة حقيقية للتلازم الوظيفي بين العلم والدبلوماسيّة، من خلال مراجعة محاضرتَي السوسيولوجي وعالم السياسة ماكس فيبر بعنوان "العلم بوصفه حرفة" و"السياسة بوصفها حرفة"، لتؤكد ضرورة توازنهما وتشاطرهما المسؤولية لبناء الأوطان.
وفي هذا السياق، سعيتُ من خلال كتابي الذي سيصدر لاحقاً إلى إيجاد صيغة تشاركية تجمع مختبر العالم مع حقيبة الدبلوماسي، لصناعة التأثير المتبادل بين الوظيفتين من أجل تحسين وتطوير مناهج العمل وقدرات وأساليب بعضهما البعض، وأتمنى أن يتحقق حلمي بأن أجد عبارة "دائرة الدبلوماسيّة العلميّة" تتصدّر هياكل وزارات الخارجيّة، وعلى رأسها العربيّة، لنعيد تاريخ العرب والعراقيين بشكل عام كمصدر ومدرسة عالمية وفكرية أثرت في الغرب والحضارة بشكل عام.
أعتقد أنَّ الدبلوماسية العلمية هي الخيار الأخير الذي لا يجب أن يُنحّى جانباً أو يؤجل، ولا بديل من تلك الوظيفية المتأتية من دمج العلماء والدبلوماسيين في الأنشطة الخارجية للدول لإيجاد عرى تعاون دولي ولغة علمية مشتركة ومفاوضات تستند إلى حقائق علمية وبيانات ومعلومات لا تتوفر لدى الدبلوماسيّة التقليدية ودبلوماسيها.
لن يكون لدى هؤلاء إحاطة بها مهما اجتهدوا. لذا، لا بد من زج المشورة العلمية في أنشطة حارس البوابة (المؤسسات الدبلوماسية) وفعالياتها، وإلا فإنه أمام غياهب الجب لمستقبل هذا العالم، والتكلس الذي يصيب مفاصل هذا العالم، لن يكون هناك وجود لمحركات تسعف العالم ليصمد أمام ثورات طبيعية أو معدة سلفاً، من بينها حروب من نوع آخر في ميادين العلاقات الدوليّة تفوق تصور الدبلوماسيّة وأساليبها وحلولها مثل: تغير المناخ، وتدهور البيئة، والأمراض والأوبئة، والحروب السيبرانيّة، وتلك التي تتعلق بالنانو، وربما حروب المخلوقات الغريبة لا أدري!
وبناءً عليه، أدعو إلى ضرورة استثمار ما يجري في عالم اليوم؛ فثمة تداخل واضح بين الدبلوماسيّة والعلوم والتكنولوجيا يمثل أعلى مرتبة وصلت إليها الدبلوماسيّة على مدى مسيرتها التاريخية في التبلور والتشكل للوصول إلى الحالة المثالية أو المتكاملة.
هذا التكامل أثمر ولادة "الدبلوماسيّة العلميّة"، التي باتت منصة عالمية يتم عبرها تشخيص التحديات والتهديدات العالمية وطرح الحلول والمعالجات لها. ومن خلالها، تتمكن الدول من المحافظة على الكوكب والحياة البشرية والكائنات الحية من الزوال والانقراض.
يشهد العالم تقارباً تكنولوجياً بين التقنيات، مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والبيولوجيا التركيبية، وتحرير الجينوم، وحتى تقنيات تغير المناخ، والقضايا السياسية والمجتمعية.
ومن الممكن أن تساعد تلك التطورات العلميّة السريعة في تحقيق التنمية المستدامة، رغم مشكلات تضخيم عدم المساواة الاجتماعية، وترسيخ الهويات العرقية، وموجات العنصرية الملازمة لصعود تيارات اليمين والشعبوية.
أمام كلّ ذلك، ستنخرط وزارات الخارجية وصناع السياسة الخارجية، عاجلاً أم أجلاً، في نقاش مثير للاهتمام حول موضوع طبيعة العلاقة بين العلوم والتكنولوجيا والدبلوماسية، فضلاً عن أن ممارسات المؤسسات الدبلوماسية وأنشطتها في ظل عالمنا المترابط والمتشابك تشهد تحولاً تدريجياً إلى العمل ضمن شبكات عنكبوتية للمشورة العلمية لضمان مستقبل الأجيال والكوكب الذي يعيش عليه 8 مليارات نسمة.
لذا، نعتقد أنَّ على وزارات الخارجية التفكّر في تلك الشبكات والانخراط فيها لضمان العيش بسلام وتناغم، لا بالفوضى والحروب والصراعات الحتمية، بسبب تحمض المحيطات وتحذيرات الأمم المتحدة والدراسات الدولية من قلّة المياه وارتفاع درجات الحرارة وارتفاع منسوب البحار وغرق المدن والتصحر والجفاف وعدم إمكانية تحقيق الأمن الغذائي، وهو ما سيؤدي حتماً إلى النزوح والهجرة الجماعية والفوضى على حدود الدول.
وبالتالي، ستضطرّ الدول إلى إغلاق حدودها والتعامل مع النزوح البشري بطرق قد تؤدي إلى التفكير في التخلّص من تلك الجماعات البشرية بأبشع الأسلحة أو صناعة الأوبئة والأمراض وتوجيهها ضدهم، ولن تستطيع البلدان غير المتقدمة علمياً حماية شعوبها وإدانة تلك الدول المتطورة علمياً وتكنولوجياً، لصعوبة امتلاك الأدلة العلميّة على ذلك.
ومن الممكن أن تصبح تلك البلدان وشعوبها غير المتقدمة علمياً وتكنولوجياً عبئاً ثقيلاً على المجتمع الدولي والبلدان المتطورة علمياً وتكنولوجياً، والتي ستبيح لنفسها فكرة التخلّص من تلك الشعوب الفقيرة والجائعة بكل أنواع الطرق، فمتى يلتفت المجتمع الدولي إلى أن "الدبلوماسية العلمية" هي الحل قبل الهلاك الأخير؟