"ضيعة ضايعة".. الناجية الوحيدة من عصر التكنولوجيا دمّرها الزلزال
اليومَ، دُمِّرت أم الطنافس الفوقا، والتحقت، تحت الأرض، بـ"شقيقتها التوأم"، أم الطنافس التحتا، كما صوّرتها إحدى حلقات المسلسل.
في الحلقة الأخيرة من "ضيعة ضايعة"، توقّع الليث حجو، مخرج المسلسل الأكثر طبيعيةً، والأكثر واقعيةً، والأكثر هضامةً، والأكثر قرباً إلى حياة الناس الطبيعية، والأكثر تعبيراً عنهم، توقَّع أن تكون نهاية ضيعة أم الطنافس الفوقا (قرية السمرا في ريف اللاذقية) مأسويةً.
لكنّ مأسوية موت الضيعة، وناس الضيعة، ومختار الضيعة، و"فسّاد" الضيعة، وحتى دجاجات أسعد خشروف (نضال سيجري)... توقّع الليث حجو، وكاتبُ نص المسلسل، ممدوح حمادة، أن تكون نهايةً من صنع البشر، نتيجةَ كارثة سببُها "عبقرية" التكنولوجيا البشرية، التي قال الليث حجو، في مقدمة أُولى حلقات المسلسل، إن ثمة "ناجياً وحيداً" من هذه التكنولوجيا هو قرية أم الطنافس الفوقا.
توقَّع الليث حجو نهاية دراميةً ومأسويةً لقرية أم الطنافس؛ نهاية تأتي على كل ما تجسّده وتمثّله هذه "الضيعة الضايعة"، لكنّه لم يتوقّع، أو لم يحبّ أن يتوقّع، أن تكون نهاية قرية أم الطنافس الفوقا من "اقتراف" كارثة طبيعية، لا علاقة للتكنولوجيا البشرية بها، ربما بسبب إيمانه، أو تمنّيه أنّ الطبيعة سوف تكون الملجأ الأخير للمواطن السوري، الذي يمثّله سكان أم الطنافس الفوقا، من الحروب والحصار والفقر و"التشرشح" والجوع. لكنْ، حتى الطبيعة خذلت الليث حجو، وخيّبت أمله وظنه، وتواطأت هي أيضاً على السوريين، وشردتهم في عراء وطنهم، مثلما تشرّدهم الحروب في عراء الوطن، وفي لجة البحر، وفي المنافي!
اليومَ، دُمِّرت أم الطنافس الفوقا، والتحقت، تحت الأرض، بـ"شقيقتها التوأم"، أم الطنافس التحتا، كما صوّرتها إحدى حلقات المسلسل. وتلك البئر "المشؤومة"، والتي أخفى فيها "أبو شملة" (محمد الحداقي) براميل الدهان و"البويا" المسرطنة، والتي اندثرت ضيعةٌ، بناسها ومخفرها ودجاجاتها، وكل شيء حيّ فيها، بسببها، ثمة بئر "مشؤومة" أيضاً، أكثر عمقاً، وأكثر سوداوية، وأكثر مأسويةً، سقط فيها، نياماً، كلُّ السوريين؛ مَن كان منهم في قرية السمرا (أم الطنافس الفوقا)، أو كان خارجها، ومن أصابته كارثة الزلزال أو لم تصبه.
ثمة بئر سحيقة وقعت فيها سوريا، وضمنها أم الطنافس الفوقا، وتفرّج عليها "إخوتها" العرب وحيدةً تسقط فيها، كما تفرّج إخوة يوسف عليه يسقط في بئر غيرتهم منه، وكراهيتهم له.
صحيح أن "إخوة" سوريا العرب لم يستدرجوها إلى بئر الزلزال ـ وإنما الطبيعة فعلت فعلها المشؤوم ـ كما فعل إخوة يوسف به، لكنهم تركوها، واكتفوا بالتفرّج عليها تتخبّط فيها وحيدةً... ووحيدةً جداً.
وحيدةً تركوها تسقط في البئر...
وكثراً، ووقوفاً... كانوا يتفرّجون عليها!
حتى بحر أم الطنافس الفوقا لم يكن وفياً لأهلها. انضمّ هو أيضاً إلى قائمة المتفرجين على حلقة جديدة من دراما "الموت السوري".
البحر، الذي توسّم فيه "أبو شملة" أملاً، ولطالما ناداه بـ"أبي اليتامى"، واستعان به أهل أم الطنافس الفوقا في هربهم الجماعي من فقرهم وعوزهم وقلة حيلتهم إلى بلاد "الإغريغ" (بلاد الإغريق والغرب)، هو نفسُه البحر الذي خذلهم عند وقوع الزلزال!
وأمام زلزال "غادر" من خلفهم وبحر "متخاذل" أمامهم.. مات السوريون نياماً في أسرّتهم.. نياماً بلا حراك!
والسوريون هم أكثر الناس الذين خَبِروا مَكرَ البحر وغدرَه لهم، وهم أكثر الناس الذين يدركون أن البحر لا يؤتمن على أرواحهم !
ويتذكر السوريون جيداً الطفل الغريق بلال كردي.
صورة ابن الأعوام الثلاثة، متكوّماً بجسده الضئيل جداً، والبريء جداً، والمظلوم جداً، والحزين جداً، والغاضب جداً، عند الشاطئ، وجهه وعيناه إلى الرمل، وظهره إلى السماء... صورته لا تزال "طازجة" في ذاكرة السوريين. حفظوها جيداً، فأيقنوا أن البحر لا أمان له، وأدركوا أن البحر، يصبح لمّا يتخلى عنهم القريب والبعيد، عدواً لهم أيضاً.
الطفل السوري، بلال كردي، الذي حمله أبواه هرباً من الدمار والجوع والفقر والحرب، ولجآ به، ومعه، إلى "رحمة" البحر.. ابتلعه "أبو اليتامى" البحر.. ثم أماته خوفاً.. ثم أماته رعباً.. ثم أماته غرقاً.. قبل أن يلفظه إلى أحد شواطئ البحر الأبيض المتوسط جثةً هامدةً فوق الرمل، و"ندباً" لا يندمل في ذاكرة السوريين، يمثّل أحلام أطفالهم المقتولة: إمّا برصاص الحرب، وإمّا برصاص العقوبات، وإمّا برصاص الحصار، وإمّا برصاص الجوع.. وإمّا بجريرة الحلم بحياة طبيعية، لا حرب فيها، ولا عقوبات فيها، ولا فقر فيها، ولا جوع فيها، ولا يغتالهم البحر فيها كلما أرادوا أن يعيشوا حياة طبيعية تشبه حياة الأطفال، وكلما أرادوا أن يمارسوا حقوقاً طبيعية تشبه حقوق الإنسان والبشر.