التهويل بالحرب وانقلاب السحر على الساحر

أكبر الحقائق التي تعزّز فرضية ضعف الكيان الصهيوني، وموقعه الدفاعي، وسقوط تهويل المهوّلين، هي بعض نتائج المعركة حتى اليوم.

  •  ثمة فارق كبير بين الموقع الدفاعي للكيان الصهيوني، والموقع الهجومي لمحور المقاومة.
    ثمة فارق كبير بين الموقع الدفاعي للكيان الصهيوني، والموقع الهجومي لمحور المقاومة.

سبعينات القرن الماضي، تأسّس في أدبيات الثورة المترافقة مع نهوض المقاومة الفلسطينية، مفهوم مفاده أن المؤسسة العسكرية في الكيان الصهيوني المحتلّ لفلسطين قامت ركيزتها على مبدأ التفوّق على العرب فيما يُعرَف بـ"الحرب الخاطفة"، قصيرة المدى، والتي لا تتعدى الأيام.

الذين أسّسوا الكيان الصهيوني كانوا في حالة النهوض القصوى لهم، فهم القوى الاستعمارية التي انتصرت في الحربين العالميتين الأولى والثانية، فتم تأسيس الكيان الصهيوني على مبدأ التفوّق التكنولوجي، الذي أرساه تطوّر الصناعة الغربية. وكانت ركيزة مفهوم التفوّق هي الطيران الحربي المتطوّر، إضافة إلى التجهيز الثري للجيش الصهيوني بالعتاد المتطور، من مروحيات، ودبابات، وتدريب عالي الدقة. حتى نهايات القرن العشرين، على سبيل المثال، كان الجندي الصهيوني يكلّف 35 ألف دولار من تدريب وتجهيز، بينما كان يخصص للجندي اللبناني تسع طلقات بالمسدس الحربي سنوياً.

بدأ هذا التفوّق يؤتي ثماره لمصلحة الكيان الغاصب في حرب عام 1967، التي استمرت خمسة أيام، اعتمد فيها الجيش الصهيوني على الهجوم الخاطف بالطائرات الحربية، والذي دمر المطارات العربية، وما حوته من طائرات أقل مستوى من الطيران الصهيوني: الميراج الفرنسية في مقابل ميغ - 17 السوفياتية. 

من أعمال الحروب الخاطفة أيضاً، الغارات التي شنّها العدو على مطار بيروت عام 1968، عقب انتصار الحكومة اللبنانية للمقاومة الفلسطينية. ومن الذاكرة عملية "عينتيبي" في أوغندا الأفريقية في تموز/يوليو 1976 على مسافة تناهز خمسة آلاف كيلومتر بعيداً عن فلسطين المحتلة، وصولاً إلى اجتياح بيروت عام 1982، وما خلّفه قصف الطيران الصهيوني للعاصمة من دمار شامل.

تطوُّرُ سلاح الجوّ الصهيوني بدعم لوجستي غربي قتل آلاف الفلسطينيين في الغارات على المخيمات الفلسطينية في لبنان من دون توافر سلاح مقاوم للطيران، وهذا ما لا تزال المقاومة تعانيه اليوم، وسط تساؤل عن عجز الدول على تزويد المقاومة بسلاح أقله مقاوم فعلي، ومحبط لحركة الطيران الإسرائيلي. 

تُستثنى من ذلك حرب السابع من تشرين الأول/أكتوبر 1973، بحيث زوّد السوفيات الجيشين المصري والسوري بصواريخ سام 6، الأمر الذي ألحق ضربة قاصمة للطيران الإسرائيلي، ما لبث الكيان وداعموه الغربيون أن طوروا له مضادات البالونات الحرارية.

الحرب الخاطفة استناداً على تفوّق سلاح الطيران واجهتها المقاومة بحرب العصابات، فكانت تردّ على الهجمات بالعمليات الفدائية، والاستشهادية، بلوغاً نقطة تحوّل فعلية بحلول عام 1996، عندما تمكنت "المقاومة الإسلامية"، للمرة الأولى، من إلحاق ضربات موجعة بالجيش الصهيوني في جنوبي لبنان، ما لبثت أن أُلحقت بحرب استنزاف للعدو الصهيوني، وكانت ترجمتها إجبار العدو على سحب جيشه من الجنوب.

حتى اليوم، لا تزال المقاومة تعاني تفوّق الطيران الصهيوني المعادي، لكن المقاومة أسقطت الجانب الآخر من المعادلة: الحرب الخاطفة التي حلّت محلّها حرب الاستنزاف المُنْهِكة للعدو، وكانت أولى ثمرات تلك الحرب انسحاب الجيش الصهيوني من الجنوب عام 2000.

باعتماد حرب الاستنزاف، توافقاً مع أدبيات الثورة، دخل الكيان الصهيوني تجربة جديدة، بات يشعر معها بأن التفوّق والحروب الخاطفة لم تعد تجدي نفعاً. وكان الغرب، وخصوصاً الصهيوأميركي، يعوّض قدراته بتزويده بطيران أكثر تطوراً، ومنه سلاح أف - 15، وأف - 16، وأخيراً أف - 35.

بين تصاعد عمليات المقاومة، وتحويل الحرب من حرب مجابهة إلى حرب استنزاف، بدأ العجز الصهيوني ينعكس على الجيش الذي "لا يُقهر"، حتى إذا حلت حرب تموز 2006، ثبتت صحة نظرية استنزاف العدو سبيلاً وحيداً إلى هزيمته.

بين عام  2006 وتشرين الأول/أوكتوبر 2023، بدأ انقلاب مفهوم التفوّق ينعكس على صاحبه، فعملية "طوفان الأقصى" أظهرت تفوّقاً في القدرات اللوجستية والاستخبارية للمقاومة، ثم حلّت حرب الاستنزاف المستمرة منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، بحيث يتأزم الوضع، ويتعذر بلوغ الحلول السياسية، ووقف الحرب. 

في هذه الأجواه، تتصاعد أصوات تهويل بالحرب الصهيونية على لبنان، وفي كلّ مكان، كأن التطورات التي حدثت، منذ عقود، لم يكن لها أي تأثير، أو كأن الكيان الصهيوني لم يزل قادراً على القيام بحروب خاطفة كالتي جرت حتى أوائل الثمانينيات. ويؤدي الإعلام، الذي يسيطر عليه العدو، وبعض مراكز القوى الحليفة له، دوراً في التهويل، الأمر الذي يضع لبنان وجبهات الإسناد، إعلامياً، في خانة الدفاع، والضعف، ويضع الكيان الصهيوني في حالة الهجوم والقوة.

لكن نتيجة حساب سريعة، وأولية، لنتائج المعركة حتى اليوم، تُظهر كم أن التهويل كاذب، وفاضح، وأن النتيجة باتت معكوسة تحت وطأة مفهوم الاستنزاف، الذي كان العدو يتهرّب من الوقوع فيه، فإذا به اليوم يئن تحت وطأته، وفي مخيلته رِهاب زوال الكيان تحت مسمى "دمار الهيكل الثالث" في نهاية العقد الثامن من تأسيسه. ولولا التدخل الغربي الكبير، وخصوصاً الأميركي، لوقع الدمار قبل نهاية العقد.

أكبر الحقائق التي تعزّز فرضية ضعف الكيان الصهيوني، وموقعه الدفاعي، وسقوط تهويل المهوّلين، هي بعض نتائج المعركة حتى اليوم:

أولاً، لا يختلف اثنان في نتائج طوفان الأقصى، وخرق حدود الكيان، ومصادرة الأرشيف العسكري للعدو، وخطف المئات من العسكريين، ومنهم من ذوي رُتب عالية، إضافة إلى مئات المدنيين، إلى حسابات أخرى، عدا عن الحساب المعنوي.

ثانياً، تفريغ مناطق شمالي غلاف غزة من المستوطنين، ومستوطنات الشمال من فلسطين على عمق كبير، وبقاء المستوطنين في حالة نزوح واستنزاف، فلم تبق من فلسطين التاريخية إلّا مساحة ساقطة عسكرياً بقياس مدفع الهاون.

ثالثاً، حرب المجازر المدنية والدمار، والتي اعتمدها الجيش الصهيوني في غزة، وهي تحتسب عليه، وليس لمصلحته، بحيث لا تزال المقاومة صامدة في أنفاقها، تقاومه بكل قوة.

رابعاً، تركيز العدو وحلفائه على فصل المسارات والضغوط الدولية على المقاومة الإسلامية في لبنان لوقف المعركة من جانب واحد، وهذا دليل على عجز الجيش الصهيوني عن استكمال المعركة في مختلف الجبهات، بحيث قضّت حرب الاستنزاف مضجعه، وحيث لم يكن مهيَّأً لها منذ "نشأته".

هكذا بات السحر منقلباً على الساحر. ثمة فارق كبير بين الموقع الدفاعي للكيان الصهيوني، والموقع الهجومي لمحور المقاومة.

وأمام مخاوف العدو، في المستويات الرسمية والسلطوية والشعبية، من "دمار الهيكل الثالث"، من جهة، وتهويل الإعلام، وبعض السياسيين، والمحللين، بـ"حرب كبرى"، من جهة ثانية، ثمة فارق كبير.