الأسرى وطوفان الأقصى

حماس ستفتح نافذة الحرية للأسرى من خلال الصفقة المقبلة، والتي سوف تبيّض السجون وتعيد الاعتبار إلى القضية الفلسطينية، في جميع الصعد.

  • تُعَدّ قضية الأسرى من القضايا المركزية لدى الشعب الفلسطيني،
    تُعَدّ قضية الأسرى من القضايا المركزية لدى الشعب الفلسطيني،

تُعَدّ قضية الأسرى من القضايا المركزية لدى الشعب الفلسطيني، بسبب ما قدمه من تضحيات كلفته حريته، وفي بعض الأحيان حياته، ثمناً لها. لقد بلغ عدد الأسرى قبل معركة طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، نحو 5200 أسير، بينهم (59) أسيرة، ونحو (160) قاصراً، بينهم ثلاث أسيرات قاصرات، و(915) معتقلاً إداريّاً، و34 يعانون مرض السرطان.

واستُشهد مئات الأسرى داخل سجون الاحتلال أو بعد الإفراج عنهم بفترة وجيزة بسبب الإهمال الطبي المتعمد، الأمر الذي يؤكد أن الاحتلال جعل السجون مكاناً لنشر الأمراض التي تلاحق الأسرى بعد تحررهم وتسبب لهم الوفاة. وارتقى 243 شهيداً منذ عام 1967 حتى تشرين الثاني/نوفمبر 2023 داخل سجون الاحتلال.

ومنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر تم إعدام 6 معتقلين من جراء التعذيب والضرب ارتقوا شهداء داخل السجون. وبلغ عدد الأسرى المحكومين بالمؤبد، "الأحكام الفلكية"، تقريباً 600 أسير، منهم من هو رهن الاعتقال منذ أكثر من ثلاثة عقود. بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر قامت "إسرائيل" باعتقالات انتقامية وعقوبة جماعية غير مسبوقة، فاعتقلت نحو أربعة آلاف فلسطيني في الضفة، وهي ورقة مساومة للضغط والمقايضة وابتزاز المقاومة التي تأسر الجنود في القطاع. 

وتتعمد إدارة مصلحة السجون حرمان الأسرى من أبسط الحقوق التي نصت عليها كل المواثيق الدولية، وهي حقهم في العلاج، من خلال سياسة الإهمال الطبي المتعمد. يهدف الاحتلال إلى معاقبة الأسير على ممارسته حقه المشروع في المقاومة، وهو الحق الذي كفلته الشرائع السماوية والمواثيق الدولية، ونداء الواجب الوطني بضرورة التخلص من الاحتلال.

فالإهمال الطبي هو عقوبة إضافية يفرضها الاحتلال على الأسرى المرضى ليعيشوا المعاناة المركبة والحقيقية، فالأسير المريض يجتمع عليه ألم القيد، وألم الجسد معاً، وألم القيد أهون كثيراً من ألم الجسد داخل المعتقل الذي سببه الأول والأخير الإهمال الطبي. إن الرعاية الصحية للأسرى شكلية وشبه منعدمة، بدليل ارتقاء الشهداء من بينهم، وازدياد عدد المرضى منهم، الأمر الذي يشكل خرقاً لمواد اتفاقيتي جنيف الثالثة (المواد 29 و30 و31) والرابعة (المواد 91 و92)، والتي أوجبت حق العلاج والرعاية الطبية، وتوفير الأدوية الملائمة للأسرى المرضى، وإجراء الفحوصات الطبية الدورية لهم.

لم تلتزم إدارة مصلحة السجون اتفاقها مع الأسرى في إضرابهم الأخير عن الطعام عام 2017، والذي استمر 42 يوماً، وكان من أبرز مطالبه تحسين الرعاية الطبية، ووقف سياسة الإهمال الطبي، والإفراج عن الأسرى المرضى، وإنما صعّدت سياسة الإهمال الطبي بحق الأسرى المرضى، ورفضت نقل عدد منهم إلى المستشفيات المدنية. 

وعلى المنوال نفسه، اتخذت الحكومة الإسرائيلية ضد الأسرى عدداً من القرارات والتشريعات، والتي تهدف إلى النيل من الأسرى ومعنوياتهم والتضييق عليهم ومحاصرتهم في زنازينهم لتزيد في معاناتهم المتزايدة والمتواصلة والتي تنفذها إدارة مصلحة السجون بحقهم، بحيث أصبحت عاملاً أساسياً في استهداف قضية الأسرى وزيادة حدة معاناتهم. فالهدف من هذه القرارات والتشريعات المتخذة ضد الأسرى هو إفراغهم من قيمهم الوطنية وزرع الشك في قناعاتهم في مقاومة الاحتلال، بالإضافة إلى أنها تساهم في صبغ الانتهاكات والجرائم الإسرائيلية بالصبغة القانونية. 

كما عملت "إسرائيل" على تشريع القوانين العنصرية ضد الأسرى، ومن أبرزها مشروع قانون إعدام الأسرى، ومشروع قانون يقضي بحظر الإفراج عن الأسرى في مقابل جثث الجنود الإسرائيليين المحتجزين لدى فصائل المقاومة، وقانون حسم مخصصات الأسرى والشهداء من مستحقات السلطة، الذي تم إقراره من جانب المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر "الكابنيت" في 17 شباط/فبراير 2019، أي حسم جزء من أموال الضرائب على نحو يوازي مجموع الأموال التي تدفعها السلطة إلى عوائل الشهداء والأسرى. 

وفي السياق نفسه، استخدمت الأحزاب الإسرائيلية الأسرى وقوداً لدعايتها الانتخابية، عبر اتباع أساليب متعددة، منها التقدم إلى الكنيست بعدد من القوانين ثم تشريعها، وهذا ما تجلى في دعاية رئيس حزب اليمين الجديد نفتالي بينت في 4 آذار/مارس 2019، بحيث وجه رسالة ضد الأسرى كدعاية لخوض الانتخابات. 

جدير بالذكر أن جريدة "القدس"، في 17 شباط/فبراير 2019، دقت ناقوس الخطر من خلال التطرق إلى الهجمة الإسرائيلية على الأسرى، والتي تستدعي دق جدار الخزان بضربات شديدة، من جانب الكل الفلسطيني، من خلال حديث "القدس"، الذي تناول الدراسة الموسعة التي أجريتها بشأن سياسة الإهمال الطبي المتعمد من إدارة مصلحة السجون بحق الأسرى المرضى، والتي نُشرت في مجلة "المستقبل العربي"، العدد الـ480، في آذار/مارس عام 2019.

وفي بيان استنجاد بالأمتين الإسلامية والعربية، صادر عن الحركة الأسيرة في 26 شباط/فبراير 2019، جاء فيه أن الاحتلال يمارس بحق الأسرى كل أشكال الإجرام والتنكيل، ومنها حرمان آلاف الأسرى من زيارة أهاليهم منذ أعوام، بالإضافة إلى تركيب أجهزة التشويش المسرطنة في كل أقسام السجون. 

لقد عمدت "إسرائيل"، منذ قيامها في أرض فلسطين، إلى فتح عدد من السجون، وزجّت بعشرات الآلاف من الفلسطينيين والعرب بها، وعملت على استصدار كل القوانين والسياسات العنصرية والقمعية وإقرارها من أجل استهداف الأسرى للنيل من عزيمتهم وثنيهم عن مواصلة الكفاح ضدها. فمنذ بداية اعتقال أول أسير فلسطيني حتى اليوم، تبتكر وسائل وأساليب للتضيق على الأسرى في زنازينهم، وحديثاً بدأت تمنح ممارساتها الإجرامية الصبغة القانونية من خلال تشريعاتها سلسة من القوانين التي تستهدف الأسرى ومحاصرتهم، في جميع الصعد. 

أما بخصوص الدعائم الأساسية التي اعتمدت عليها السياسة الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية من أجل معالجة قضية الأسرى، فالدعامة الأولى الرسمية تمثلت بالمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، بحيث تتعامل السلطة مع ملف الأسرى ضمن القضايا المرتبطة بالحل النهائي، مثل الحدود والأمن واللاجئين. وعلى الرغم من أن هذه السياسة أدت إلى الإفراج عن عدد من الأسرى، فإن إسرائيل استخدمت هذه السياسة لحمل السلطة على تقديم تنازلات.

والثانية غير الرسمية، تبادل الأسرى، بحيث جرى عدد من صفقات التبادل التي أفرج بموجبها عن الآلاف من الأسرى، لكنها جرت وفقاً لشروط معينة فرضها الاحتلال، ومنها عدم الإفراج عمن شاركوا في عمليات قتل لجنود ومستوطنين، وإبعاد بعض الأسرى المحررين إلى خارج الوطن، أو اشتراط إبعاد البعض من الضفة إلى القطاع. وفي هذا الإطار، أكد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، أن الأسرى يمثلون إحدى ركائز المشروع والنضال الوطنيين، مضيفاً أن حركته مصممة على تحرير الأسرى من خلال زيادة الغلة، وهذا الأمر في رأس أولويتها. 

عملت حركة حماس على تبني خطة عملية لتحرير الأسرى، وخصوصاً النساء والأشبال والمرضى. وبعد تنصل الاحتلال من كل الاتفاقيات، تبيّن أن الاحتلال لا يفهم غير لغة القوة. فالسياسات الإسرائيلية وضعت المقاومة الفلسطينية أمام سؤال مهم، وهو كيف يمكن تحرير الأسرى؟ وإجابته واضحة، فتجربة أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط أجبرت الاحتلال على الإفراج عن أكثر من ألف أسير في مقابل الإفراج عنه، وغير ذلك يبقى في خانة المطالبة والشجب والاستنكار والدعاء بالفرج. فـ"إسرائيل" غير معنية بحل ملف الأسرى، ولعل تملصها من إطلاق سراح الدفعة الرابعة والأخيرة من أسرى ما قبل أوسلو، والذين كان من المقرر الإفراج عنهم في 29 آذار/مارس 2014، أكبر دليل على ذلك. 

ومن أجل إنقاذ الأسرى عملت حماس على خلق مزيد من الفرص السياسية بتطوير عملها المسلح وصولاً إلى المعركة التي زعزعت من خلالها الأمن الإسرائيلي، وحصدت مزيداً من التأييد الشعبي لعملها المقاوم. ومن البديهي القول إن حماس أثبتت نفسها في ساحة المقاومة، وخصوصاً بعد الانسحاب الإسرائيلي من القطاع على إثر ضربات المقاومة، والذي رأت فيه حماس والشعب الفلسطيني إنجازاً لم يحقق مثله مسار المفاوضات، فتولدت قناعة لدى الأوساط الشعبية بأن لغة المقاومة هي اللغة التي تفهمها "إسرائيل"، وأن معادلة زيادة الغلة هي المعادلة الوحيدة التي تجبرها على إطلاق سراح الأسرى، كما حدث في صفقة جلعاد شاليط. ووفق هذه القاعدة عملت حماس وأعدت جيداً معركة يعجز جيش عن القيام بها في مهاجمة "إسرائيل"، وإيقاع الهزيمة في جيشها في السابع من تشرين الأول/أكتوبر2023، بالإضافة إلى اقتناصها الفرص المتاحة أمامها والمتمثلة بإمعان "إسرائيل" في التنكيل بالأسرى، حتى وصل الحد بالمتطرف الوزير إيتمار بن غفير إلى دخول السجون وتهديد الأسرى، ومطالبته بقطع المياه والطعام عن الأسرى وحرمانهم من جميع حقوقهم التي حصلوا عليها بدمائهم وأمعائهم الخاوية ومعاناتهم.

فـ"إسرائيل" هي التي مهدت الطريق أمام حماس للقيام بالمعركة، من خلال خطواتها الغبية والمتمثلة بالإمعان في قتل الشعب الفلسطيني وتهميش قضيته، ورفضها المطلق لصفقة إطلاق سراح الأسرى.

وشكلت الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على الشعب الفلسطيني، وتحديداً على المسجد الأقصى والأسرى، فرصة كبرى للحركة تمثلت بردع "إسرائيل" وخلق حقائق جديدة على الأرض والإيفاء بتعهدات القائدين يحيى السنوار ومحمد الضيف بتحرير الأسرى. فكان عدد من القادة الأسرى، ومنهم حسن سلامة وعبد الله البرغوثي وإبراهيم حامد وعبد الناصر عيسى وغيرهم الكثير، معاول تحفيز للحركة من سجنهم من خلال رسائلهم شديدة الانتقاد للحركة للخلاص من ملف الأسرى. وأدى فرار 6 أسرى عبر "نفق سجن جلبوع"، في 6 أيلول/سبتمبر2021، دوراً في النهوض بالحالة الثورية لدى الكتائب لتخليص الأسرى من السجن، وذلك من خلال أسر جنود جدد. 

فإدراك حماس للتغير الداخلي الذي طرأ على قوة كتائب القسام، تمثَّلَ بدعم بلا حدود من القادة على رأس الحركة، وهم من مؤسسي الكتائب، وفي مقدمتهم السنوار والقائد صالح العاروري، اللذان عاشا أكثر من عقدين في سجون الاحتلال مع رفقائهما الذين ما زالوا رهن الاعتقال.

كان واضحاً في سياسة حماس أن الأسرى، وتحديداً المؤبدات منهم، لا يمكن بقاؤهم في السجون ليخرجوا في أكياس سوداء بعد أعوام. فبعد صفقة شاليط ورفض "إسرائيل" إطلاق سراح الأسرى القادة أصحاب المؤبدات والأحكام الفلكية، أدركت كتائب القسام أن "إسرائيل" لا يمكن أن تستجيب، ولا تريد دفع الثمن المتمثل بإطلاق سراح الأسرى.

ومع فقدان حماس الأمل بعقد صفقة جديدة لتبادل أسرى الاحتلال في مقابل إطلاق سراح المؤبدات، أدركت حماس أن الفرصة السياسية مفتوحة أمامها لتغيير معادلة التفاوض لصفقات جديدة من تبادل الأسرى، فأعدت جيداً من أجل المعركة، وكان هذا ظاهراً بصورة جلية في أسر المئات من الجنود والضباط وطريقة إخفائهم التي كانت جاهزة وعدم قدرة "إسرائيل" على الوصول إليهم بعد أكثر من شهرين على المعارك الطاحنة في القطاع، ومنهجية تسليم الرهائن والتعامل مع الرهائن بأخلاق ولطف وإنسانية فريدة.

وسلوك الرهائن المفرج عنهم أذهل العدو والصديق وحتى التسليم في المناطق التي دخلتها ودمرتها القوات الإسرائيلية في القطاع. وفي المقابل كيف تعاملت وتتعامل "إسرائيل" مع الأسرى من خلال إذلالهم وتجريدهم من جميع ملابسهم وتصويرهم والتبول عليهم وقتل عدد منهم. فطريقة التعامل مع الأسرى توضح المنتصر من المهزوم، فدائماً المهزوم يلجأ إلى الانتقام والقتل والتعامل بطريقة العقاب الجماعي. 

وهذا ما تجلى في الهدنة الإنسانية التي بدأت في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، واستمرت ستة أيام، وتم خلالها تبادل للأسرى ما بين كتائب القسام التي أطلقت سراح الرهائن المدنيين الإسرائيليين والجنسيات المتعددة في مقابل إطلاق إسرائيل للأسيرات والأشبال الفلسطينيين. وكانت معادلة التبادل واحد في مقابل ثلاثة، وإدخال المساعدات الإنسانية.

وانتهت الهدنة الإنسانية بسبب رفض "إسرائيل" التفاوض على شريحة جديدة وإصرارها على الإفراج على وفق شروط الشريحة الأولى، فرفضت المقاومة شروط "إسرائيل"، التي أرادت اعتبار العسكريين، وتحديداً المجندات، مدنيين، فتوقفت الوساطات وانتهت الهدنة في الأول من كانون الأول/ديسمبر 2023، وعادت "إسرائيل" إلى حرب الإبادة للشعب الفلسطيني في غزة. وفي الثاني من الشهر نفسه أعلن نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، العاروري، موقف الحركة وهو "لا تبادل للأسرى إلّا بعد وقف الحرب نهائياً"، ولن تسير في طريق التبادل إلا بشروط المقاومة وتطبيق معادلة الكل في مقابل الكل، لكن "إسرائيل" تحاول إطلاق سراح الأسرى بالقوة، وفشلت فشلاً ذريعاً في تحرير أي جندي، بحيث فشلت عمليتها لتحرير الجندي الأسير ساعر باروخ في 8 كانون الأول/ديسمبر 2023، فتم قتل ساعر، وإيقاع القوة الصهيونية بين قتيل وجريح، وهذا يؤكد أن صفقة التبادل هي النافذة الوحيدة أمام "إسرائيل" لتحرير جنودها وضباطها أحياء.

وفي الختام، يمكن القول إن حماس ستفتح نافذة الحرية للأسرى من خلال الصفقة المقبلة، والتي سوف تبيّض السجون وتعيد الاعتبار إلى القضية الفلسطينية، في جميع الصعد.