أسئلة قلق حول غزّة

عناصر متعدّدة وزّعت القوى العالمية وصنّفتها بين مؤيّد ومتحفّظ ومتردّد وخائف ومستفيد، لتبقى قلة قليلة من العالم ذات تأثير ضعيف خارج هذا التصنيف، لذلك، يمضي نتنياهو في مشروعه وهو مدرك أن لا أحد سيحبط مخططه. 

  • أسئلة كثيرة طرحت نفسها أعقاب المجازر في غزة.
    أسئلة كثيرة طرحت نفسها أعقاب المجازر في غزة.

انطلق "طوفان الأقصى" قالباً المعايير رأساً على عقب، وجاء تتويجاً لمسار تصاعد تقدّم المقاومة، وتراجع هيبة العدو بأنه "الجيش" الذي لا يُقهر. 

منذ نكبة فلسطين عام 1948، مروراً بنكسة 1967، بلوغاً لحرب يوم الغفران 1973، واستعادة العدو ما فقده في بداية هذه الحرب ليعود فيتصدّر التراتبية العسكرية في المنطقة، ثم تحقيقه ذروة قدرته الهجومية في اجتياح لبنان 1982، كانت الآلية العسكرية الصهيونية تتصدّر ما عداها من جيوش، ومجابهات عسكرية.

وبين "جيش" تقليدي مدجّج بأعتى آلية عسكرية، ودعم مالي مطلق، كانت المنطقة أمام احتمالَين، لا ثالث لهما: إمّا الاستسلام، أو المقاومة الشعبية.

المشهد بدأ ينقلب بانطلاق جبهة المقاومة الوطنية خلال اجتياح بيروت، وكسر رهبة "الجيش" الذي لا يقهر بعملية "الويمبي"، لتكرّ سبحة المقاومة، وتتصاعد العمليات إلى أن أجبر العدو على الانسحاب من بيروت، ثم تتالت العمليات مع المقاومة الإسلامية، وتوّج الانقلاب في حرب تموز 2006، وكرّت السبحة، وقالها السيد: زمن الهزائم ولّى.

"طوفان الأقصى" يضرب جذوره في تصاعد المقاومة، ويتوّج نهوضها وتقدّمها، ليشعر الصهاينة أن كيانهم بات مهدّداً، فجُنّ جنونهم، وارتكبوا إحدى أبشع مجازر التاريخ بقتل أكثر من 30 ألف إنسان أعزل في غزة.

أسئلة كثيرة طرحت نفسها أعقاب تلك المجازر، مثل، كيف لم تستطع أي قوة في العالم إيقاف المجزرة، في حينه، وفي استمراريتها اليوم؟ ومن يحمي الإنسان المدني الأعزل البريء من وحشية هكذا بربرية؟ كلّ إنسان بات يشعر أنه مهدّد في حياته، وليس هناك من ضمانة تحميه.

تساؤل آخر يتعلّق بإصرار حكومة العدو بزعامة بنيامين نتنياهو على المضي في مجزرتها في غزة، ومنها رفح، بينما كلّ العالم يقف ضدها، وتنتفض جامعات العالم، الأميركي والأوروبي، ضد المجزرة، لكن حكومة العدو لا تأبه، ولا تسمع أصوات أجيال المستقبل، فتواصل عدوانها، ولا تهتم لأحد، وتدوس مفهوم ديمقراطية الغرب بقدميها.

الصهيوني نتنياهو قال كلمته بخصوص رفح، وعارضه العالم بأسره، وحاول نظام الولايات المتحدة الأميركية إقناع العالم أنه ضدّ أي عمل عسكري يهدّد المدنيين في غزة، فيتبيّن أن رئيس حكومة العدو غير آبه بموقف سيّده المفترض، الولايات المتحدة الأميركية، ليتبيّن العكس، أنه هو سيّدها، والأرجح أنهما يتقاسمان الأدوار. 

تساؤل آخر حول صلف نتنياهو بوجه العالم، وتحديداً الولايات المتحدة الأميركية: من يتحكّم بالثاني منهما؟ والأرجح أنهما ليسا اثنين، بل واحد وحيد منضوٍ تحت الراية الصهيونية. ذلك فإنّ الرئيس الأميركي جو بايدن أعلن صهيونيته مراراً، وحرصه على الكيان الصهيوني في فلسطين. ونتنياهو صهيوني بالولادة والفطرة والغريزة، وهو الابن المدلّل للدولة العميقة، حاضنة الصهيونية العالمية، التي يقال إنها هي التي تدير سياسات الولايات المتحدة الأميركية، وعبرها تسيطر على العالم، ومن خلال هذه السيطرة، يتوزّع العالم بين مؤيّد لسياستها، وعاقد للصفقات معها، ومتردّد في مجابهتها، وخائف من مواجهتها.

وإذ تقترب مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة من نهايتها، فإذا بنتنياهو يقلب الطاولة رأساً على عقب مجدّداً، ويبدأ هجومه الذي أكّده مراراً على رفح، ليتبيّن أن غزة، ورفح منها، هي مطمع لقاعدة أميركية للانطلاق نحو أفريقيا، ولاستضافة خط الهند ـــــ غزة بمواجهة خط الحرير والحزام الصيني، وليتأكّد أن ما يقال عن خلاف بين الولايات المتحدة ونتنياهو ما هو إلا تمثيلية رخيصة، وتوزيع أدوار. 

عناصر متعدّدة وزّعت القوى العالمية وصنّفتها بين مؤيّد ومتحفّظ ومتردّد وخائف ومستفيد، لتبقى قلة قليلة من العالم ذات تأثير ضعيف خارج هذا التصنيف، لذلك، يمضي نتنياهو في مشروعه وهو مدرك أن لا أحد سيحبط مخططه. 

هذه التطورات، ومن هذا التقدير، تظهر أن الحركة الصهيونية هي التي تسيطر على النظام الأميركي، ممثّلاها هما الثنائي بايدن ـــــ نتنياهو،  فتدير اتجاهاته وسياساته وفقاً لرؤيتها، ومنها، يبدو العالم كأنه  ساكتٌ على صهينته، أو مجابه لها بالخجل، وفي أحسن الأحوال، بالإنابة.

ولا يستثنى لبنان من الصهينة. فإذا كانت الصهيونية مسيطرة على سياسات الغرب بصورة عامة، فإن الوجود الغربي، خصوصاً الأميركي والبريطاني والفرنسي، في لبنان، وبتنسيق مع العديد من التيارات ومراكز السلطة، هو وجود صهيوني، يسعى لتوظيف قوته بما يحمي المصالح الصهيونية، ومن هنا لا عجب أن تنتشر مراكز الوجود العسكرية الأميركية في العديد من المواقع في لبنان، وكذلك وحدات من الجيش البريطاني، ومن أهدافها بناء أبراج لمراقبة سوريا، والحدود اللبنانية معها، قبل أيّ دعم للبنان.

ظواهر كثيرة تؤشر إلى مدى صهينة لبنان، منها على سبيل المثال وقاحة موقع جامعي متصهين فصل أُستاذة من أساتذته لمجرّد نصرتها لغزة، كذلك منع دخول فريقي "الميادين" و"المنار" إلى حرمه لتغطية تظاهرة الدعم الطلابي لغزة، إضافة إلى انفلات العديد من التجمّعات والتيارات والقوى لتشكّل حِمْلاً ثقيلاً يُثقل ظهر المقاومة محاولاً شدّها إلى الخلف حمايةً للعدو، ولمنع المقاومة من المضي في نصرتها لغزة.

كلّ يوم، تظهر مستجدات تؤكد استمرار غلبة صهيونية العالم، ومنها لبنان، دلالتها الأساسية استمرار الحروب، والعدوان في كلّ مكان، بانتظار نضوج مرحلة تعدّد الأقطاب التي بدأت تظهر علاماتها في تحالف الشرق، وتأسيس "البريكس".