جمهور النجمة… جنازةٌ تمشي إلى الوطن وصلاةٌ في مدرج
جمهور النجمة يتجاوز المدرجات ليصبح ذاكرة ووطنًا؛ تكريم سعداء النجمة يحوّل الهتاف طقسًا للمواجهة والوفاء وسط ضغوط نزع السلاح.
-
جمهور النجمة… جنازةٌ تمشي إلى الوطن وصلاةٌ في مدرج
الجمهور ليس جموعاً تهتف. الجمهور، في حقيقته، فكرة تمشي على قدمين. فكرةٌ أوسع من اللعبة وأعمق من المدرج. في كلّ حنجرة صوتُ مدينة، في كل يد مرفوعة علمٌ غير مرئي، يكتب إعلاناً: نحن هنا، ولن نُمحى.
كرة القدم، في الظاهر، متعة للعين، وفي الباطن طاقة تصنع هويةً لا يقدر السياسي على حبكها بخطاب. المدرجات ليست كراسي خشبية، بل هي منابر. حين تفيض بالمحبين، تصير الطقوس رياضةً وتديّناً معاً: صلاة عند البداية، وشتائم بين الركلات، وفلسفة معلّقة في الهواء بين صفارتين.
الجمهور لا يعرف الحياد. الجمهور هو الحياة حين تنتفض لتقول: لن نكتفي بالمشاهدة، نحن جزء من الحكاية.
الجمهور والسياسة: شرايين تتقاطع في الملعب
-
جمهور النجمة… جنازةٌ تمشي إلى الوطن وصلاةٌ في مدرج
السياسة لا تُصنع فقط في البرلمانات ولا على موائد المفاوضات. السياسة، أحيانًا، تصرخ من المدرجات. الملاعب ليست بريئة. يكفي أن يجتمع عشرون ألف حنجرة في مدرّج، لتصبح اللعبة مشروع دولةٍ صغيرة، لها علَمها، نشيدها، وأبطالها.
جمهور كرة القدم ليس جمهوراً يتفرّج. هو جماعة تخلق خطابًا وتفرضه. في لحظة واحدة، يتحوّل الهتاف إلى بيان، واللافتة إلى موقف سياسي لا يستطيع رئيس حكومة أن يتجاهله. السياسة، حين تضيق بها القنوات الرسمية، تجد طريقها إلى الأعلام المرفوعة فوق المدرجات.
انظر إلى جمهور سيلتيك الاسكتلندي. النادي أراد أن يبقى في "الحياد" المزيّف، أن يكتفي بالشعار: "نحن لنا في الرياضة، لسنا سياسة". لكن الجمهور، هذا المارد الذي لا يملك في جيبه إلا بطاقة المباراة، رفع أعلام فلسطين في المدرجات. رفعها في وجه الإدارة، في وجه الاتحاد الأوروبي، في وجه العالم. لم يكن ذلك من أجل كرة القدم فقط، بل من أجل حقّ شعبٍ يُذبح ويجوع، ولا يسمع أحد صراخه، لكن صوته ارتفع في المدرجات.
هكذا يتحوّل جمهورٌ من مجرد متفرج إلى حامل قضيّة، من مجرد مشجّع إلى سفير لوطنٍ غريب.
ليس جمهور سيلتيك وحده. تاريخ المدرجات مليء بالشواهد: جمهور البوكا جونيورز في الأرجنتين يهتف ضد الديكتاتورية، جماهير في تركيا تملأ الملاعب بلافتات تطالب بإسقاط الفساد. اللعبة هنا لم تعد لعبة؛ صارت شاشةً لعرض الوعي، ومنصةً لإعلان التمرّد.
السياسي يخاف الجمهور أكثر مما يخاف خصمه. لأنّ الخصم له حسابات، أما الجمهور فله نبض. والسياسة، في النهاية، تبدأ من هذا النبض.
من المدرج إلى الشارع: حين يهتف الجمهور خارج الملعب
-
لم يكن المشهد عابرًا. لم يكن احتفالاً لجمهورٍ بنادٍ كرويّ. كان إعلانًا عن هوية، عن موقف، عن خطّ أحمر لا يذوب
المدرجات لا تكفي أحيانًا لاحتواء الحناجر، فيفيض الصوت إلى الطرقات. يوم الأحد، في العشرين من تموز 2025، امتلأ أوتوستراد السيّد هادي نصر الله من المشرفية حتى الكفاءات ببحرٍ من الألوان "العنابية"، بحر لا يشبه أي موج.
الدراجات النارية تقاطرت كالسيل، تحمل الأعلام التي خفقت قبل عشرات السنوات في ملاعب لبنان، وها هي اليوم ترفرف في سماء الضاحية الجنوبية لبيروت المحمّلة برائحة البارود. صور الشهداء ترتفع بين الهتافات، صور وجوهٍ كانت تهتف للنجمة يومًا، قبل أن تنام على تراب المعركة. "أبطال مدرّج الشرف"، سمّوهم، وأطلقوا أسماءهم على مكبّرات الصوت كأناشيد تبدأ من الحلق وتستقرّ في القلب.
الأصوات لا تردّد فقط أسماءهم، بل تعيد رسم وجوههم في ذاكرة الأحياء: أحمد، حسين، علي، وكل الذين تركوا مقاعدهم في المدرج ليجلسوا في الصفوف الأولى من سفر الخلود. وبين كل اسم واسم، تنفجر السماء بـ"شماريخ" تلتهب فوق الرؤوس، وتتمايل مع المفرقعات في رقصٍ يشبه الأعراس، لكنه عرسٌ مشوب بالحزن النبيل.
لم يكن المشهد عابرًا. لم يكن احتفالاً لجمهورٍ بنادٍ كرويّ. كان إعلانًا عن هوية، عن موقف، عن خطّ أحمر لا يذوب. في اللحظة التي يعيش فيها لبنان واحدة من أكثر مراحله حساسية، حين ترتفع الأصوات الدولية مطالبةً بنزع سلاح المقاومة، خرج هؤلاء ليقولوا: "من هتفنا له في الملعب صار شهيدًا في الجبهة. سلاحه هو استمرارنا".
الذين ظنّوا أن السياسة تنام في مكاتب المبعوثين الدوليين، لم يروا كيف تشتعل السياسة في أوتوستراد مكتظّ بـ "الموتوسيكلات"، بالطبول، بالأعلام. لم يسمعوا كيف يصرخ الجمهور حين تندمج أسماء الشهداء مع أسماء اللاعبين، وكيف يتحوّل الهتاف من "هيلا هيلا هو" إلى "بالروح بالدم نفديك يا وطن".
إنه المشهد الذي لا تستطيع الكاميرات أن تحيطه: طفل يجلس على كتف أبيه رافعًا صورة شهيدٍ كان يومًا يجلس في المدرج الذي سيجلس فيه هذا الطفل بعد سنوات. عجوز يصفّق مع الأغاني الثورية، وامرأة تُطلق الزغاريد من بين الدخان البنفسجي للـ"شماريخ".
هنا، اختفت الحدود بين الرياضة والسياسة، بين اللعبة والمصير. جمهور النجمة لم يخرج ليتغنّى بانتصار كرويّ، بل ليقول للعالم: "هذا الجمهور لا يموت. وهذه الذاكرة لا تُمحى. وهؤلاء الذين رحلوا هم امتداد لهتافنا، وسنظل نهتف حتى لا يختنق الوطن".
الطقس.. احتفال يشبه الحزن النبيل
-
بدا الطقس أكبر من نادي النجمة بدا كأنه مراسم ولاء لوطنٍ مهدّد (عدنان الحاج علي)
ما جرى لم يكن مجرّد وقفة ولا احتفالًا عاديًا. كان طقسًا؛ لأن الطقس وحده يستطيع أن يجمع المتناقضات في حضنٍ واحد. في تلك الليلة، اختلطت الألوان بالنار، واختلطت الأغاني بزغاريد الأمهات. "الشماريخ" البنفسجية التي أضاءت السماء بدت كأنها تريد أن تردّ على سواد التراب، كأنها تصرخ "لن نتركهم ينامون في العتمة".
الأصوات على المكبّرات لم تكتفِ بنداء الأسماء، بل حوّلتها إلى صلاة جماعية. كل شهيد صار نشيدًا، وكل نشيد صار إعلانًا للحياة في وجه الفقد. كان في المشهد شيء يشبه الأعراس، لكنّه عرسٌ يُقام على تخوم الحزن. زفّة بلا عريس، وزغاريد بلا عودة.
الناس الذين ملأوا الأوتوستراد لم يجيئوا بفضولٍ، ولا بشهوة ضوضاء. جاؤوا وفي أعينهم دموعٌ لم تُذرف، وعلى شفاههم ابتسامةٌ لم تكتمل. كانوا يعرفون أن هذا الاحتفال ليس للاستهلاك، بل لتثبيت المعنى: أن الانتماء ليس شعارًا يُرفع في المدرج، بل هو دمٌ يمكن أن يسيل في الميدان.
في لحظة، تماهت الهتافات بين الديني والدنيوي: آيات الفاتحة، ثم الأهازيج الرياضية، ثم الشعارات الوطنية. هذا المزج الذي لا يفهمه الغرباء هو خلاصة الشرق: أن تصلي وتلعن في اللحظة نفسها، أن تحب الحياة وتقدّمها قربانًا لها في آن واحد.
هكذا، بدا الطقس أكبر من نادي النجمة. بدا كأنه مراسم ولاء لوطنٍ مهدّد، في لحظة تاريخية تتكاثر فيها الأصوات الدولية المطالبة بنزع سلاح المقاومة. وكأن الجمهور أراد أن يردّ بلغة لا تحتاج إلى مؤتمرات: "هذا السلاح الذي تريدون نزعه، هو دم أولادنا، هو قلبنا المبحوح، هو الهتاف الذي لا يسكت".
كان الطقس درسًا في الفلسفة الشعبية؛ أن الاحتفال قد يشبه الحزن، وأن الحزن يمكن أن يختبئ في ألوان الألعاب النارية. كان الليل، في تلك الضاحية، أشبه بكتابٍ مفتوح على آخره، تكتب صفحاته بالدموع و"الشماريخ" معًا.
الشهيد أحمد بزي يكتب: أن تكون الجمهور يعني أن تكون الوطن
-
كتب أحمد بزي عن جمهور النجمة كما لو كان يكتب عن وجه لبنان الخفي
قبل أن يعرج إلى جبهة القتال، كان يكتب على جبهة أخرى: جبهة الكلمات. لم يكن شاعرًا، لكنه كتب بما يشبه الشعر. لم يكن فيلسوفًا، لكنه نثر حكمة الأحياء الذين يعرفون أن الانتماء ليس فكرة بل دمعة، ليس شعارًا بل حياة كاملة.
كتب أحمد بزي عن جمهور النجمة كما لو كان يكتب عن وجه لبنان الخفي "جمهور النجمة بيشبه كل آمال البسطاء، بيصنع من الضعف قوة، بينطر أحلامو سنين ورا سنين... ولا بيتعب".
هل يمكن لجملة أن تختصر طبقات هذا البلد أكثر من هذه؟ جمهور يصنع القوة من هشاشته، يرقّع الأمل بخيط الصبر، يضحك بين فقرتين ويغنّي ليخفي الجراح.
-
منشور الشهيد أحمد بزة عن جمهور النجمة قبل أشهر من استشاهده (فيسبوك)
ويكمل أحمد: "إذا بدنا للصراحة، كل جدليات الكون منلاقيها بجمهور النجمة. بيبلش بأول دقيقة بالفاتحة وصلوات، ووراها دغري، مع أول صفيرة غلط للحكم أو شوطة غلط، بدن ألف فاتحة لردم أثر الانفعالات والسبسبات".
هنا تختصر العبارة فلسفة الجماعة التي تمشي على الحافة: صلاة وشتيمة في الدقيقة نفسها، براءة الأطفال وغضب المحاربين في قلبٍ واحد. جمهور لا يدّعي الطهر، لكنه لا يساوم على الوفاء.
ويكتب ما يشبه النبوءة "جمهور النجمة الجمهور الوحيد اللي بدو لاعبين يكونوا متل الجمهور، الاحتراف بالنجمة هيي إنو اللاعب يكون ابن المدرج. وهالسنة ربحوا لأنو تحقق هالشرط".
اقرأ أيضاً.. عزل "إسرائيل" من الرياضة.. اليوم وليس غداً
ما قاله لم يكن عن كرة القدم وحدها، بل عن لبنان كلّه: عن الحنين إلى أبناء الأرض، عن رفض الاغتراب في زمن الاستعراض، عن الوفاء الذي يسبق الاحتراف.
أحمد لم يعد بيننا، لكن كلماته عادت في ذلك المساء، وهي تتردّد من مكبّرات الصوت، ممتزجة بأسماء الذين رحلوا معه. في ذلك المساء، بدا واضحًا: أن تكون الجمهور، يعني أن تكون الوطن، بكل فوضاه، بكل أحلامه، بكل حبّه الموجوع.
الجمهور كذاكرة لا تموت
-
الجمهور يشيّع شهداءه في الشارع، ثم يعود ليجلس على مدرّجٍ آخر، يهتف للأحياء
الجمهور ليس حدثًا يُكتب في سجل المباريات. الجمهور ذاكرة. والذاكرة لا تخضع لقوانين الزمن، ولا تتآكل بصدأ النسيان. من خمسينات القرن الماضي حتى اليوم، تنتقل النجماوية في العروق كما تنتقل فصيلة الدم. من الجدّ إلى الحفيد، من جيلٍ هتف في ملاعب ترابية إلى جيلٍ يملأ المدرجات الخرسانية، بقيت النار مشتعلة تحت الرماد.
هؤلاء الذين خرجوا مساء الأحد لم يخرجوا للفرجة ولا لتكرار أناشيد قديمة. خرجوا ليقولوا: نحن لا ننسى، ولا نترك الذين غابوا يسقطون من السطر. رفعوا صور الشهداء كما لو يرفعون كتابًا مفتوحًا، يقرأونه للعالم: هذا تاريخنا، وهذه حجّتنا، وهذه ذاكرتنا التي لا تموت.
ذاكرة الجمهور ليست في الأرشيف، بل في الشارع. ليست في صورٍ على الحائط، بل في حناجر تصرخ حتى البحة، وفي صدورٍ تهتزّ مع كل نبضة طبل. في اللحظة التي يطالب فيها العالم بنزع ما يسمّيه سلاحًا، يردّ الجمهور بما لا يمكن نزعُه: الوفاء. الوفاء الذي يشبه الخبز، والذي يشبه الصلاة، والذي لا يحتاج إلى قرارٍ دوليّ ليبقى حيًّا.
اقرأ أيضًا.. المراهنات على كرة القدم: من تسلية عابرة إلى تطبيع مقنّع مع الاحتلال
الجمهور ليس جمهورًا فقط. هو طريقة للقول إن لبنان، مهما تشظّى، يملك ذاكرة تقاوم. إن المدرج الذي يهتف اليوم يمكن أن يصير متراسًا غدًا، وإن الصوت الذي يغني للاعبٍ، قد ينقلب نشيدًا لشهيد.
ذاكرة لا تموت لأنها لا تعيش في العقل فقط، بل في اللحم، في العرق، في دمٍ يورّث الهتاف مع الحليب الأول. ذاكرة لا تموت لأنها تتغذى من كل خسارة، وتكبر مع كل نصر. ذاكرة لا تموت لأنها تعرف أن الانتماء ليس موسميًّا، بل قدرٌ لا يُلغيه الوقت ولا تُقنعه الهزائم.
الجمهور يشيّع شهداءه في الشارع، ثم يعود ليجلس على مدرّجٍ آخر، يهتف للأحياء، كأن الموت لم يمرّ للتو. وهذه ليست قسوة، بل إيمان بحياةٍ تستعصي على النهاية. في النهاية، الجمهور هو الأمل حين ييأس كل شيء، والضجيج حين يسكت العالم. الجمهور هو الذاكرة التي لا تموت، لأنّها لم تولد من لعبة، بل من حبٍّ أكبر من الموت.
الهتاف الذي صار صلاة
الجمهور ليس عالماً منفصلاً عن السياسة، بل السياسة تُولد من صراخه أحياناً، من توقه إلى العدالة في لحظة هدف، من حلمه بأن يكون الفريق صورة الوطن الذي يشتهيه.
في يوم تكريم شهداء المدرج، فهمنا أنّ المدرجات ليست دوائر فرح فقط، بل هي أيضاً ساحات عهد، أنّ من يرفع العلم في ملعب، قد يرفعه على جبهة. وأن الصوت الذي يصدح باسم النجمة، يمكن أن يختلط في النهاية بصدى اسم الوطن.
الكرة ستدور دائماً، لكن الأرواح التي رحلت ستبقى واقفة في المدرج، تصفق. لا لأجل هدفٍ جديد، بل لأجل أن يبقى المعنى حيًّا: أن يكون الانتماء أقوى من الموت