نهر العاصي في خطر: التلوث وتراجع المنسوب يهددان شريان الهرمل
يتراجع نهر العاصي في الهرمل تحت ضغط التلوث والجفاف، مهدِّداً ثروة لبنان المائية والسمكية والسياحية التي شكّلت لقرون شريان حياةٍ للمنطقة وسكّانها.
-
نهر العاصي في خطر: التلوث تراجع المنسوب يهددان شريان الهرمل
يُشكّل نهر العاصي شريان الحياة لأهالي مدينة الهرمل في البقاع اللبناني، فهو ثروة طبيعية ومورد اقتصادي وسياحي وزراعي. وظل العاصي على مدى قرون مصدراً للمياه والري والثروة السمكية، كما شكّل عنصراً أساسياً في جذب السياحة الداخلية والخارجية. غير أن هذه الثروة باتت اليوم مهددة بسبب تراجع منسوب النهر وارتفاع نسب التلوث، ما ينذر بخسارة مورد حيوي يختزن إرثاً طبيعياً واقتصادياً لا يُعوّض.
تراجع منسوب العاصي
ينبع نهر العاصي من هضبة بعلبك في محافظة البقاع، من مجموعة ينابيع أبرزها عين الزرقا ومنابع اللبوة واليمونة، قبل أن يتجه بعكس معظم أنهار لبنان من الجنوب إلى الشمال، وهو ما منحه اسمه "العاصي". يمتد النهر على طول 571 كيلومتراً، منها 46 كيلومتراً في لبنان و525 كيلومتراً في سوريا وتركيا، ليصبّ أخيراً في البحر الأبيض المتوسط قرب لواء الإسكندرون.
يعاني نهر العاصي اليوم من ضغوط مائية كبيرة، إذ انخفض متوسط تدفّق نبع عين الزرقا، المغذّي الرئيسي للنهر في منطقة الهرمل، من نحو 76.636 مليون م³ سنوياً إلى حوالى 56.219 مليون م³، أي بانخفاض يقارب 27% عن غزارته الأصلية. وعلى الرغم من أن عين الزرقا لا تزال من أغزر ينابيع لبنان، فإن هذا التراجع يثير القلق بشأن حوض العاصي. كما تراجع تدفق النهر من 11 متراً مكعباً في الثانية إلى نحو 3 أمتار مكعبة، وجفت العديد من الينابيع والبرك الطبيعية الممتدة من رأس بعلبك إلى الفاكهة واللبوة واليمونة.
أما أسباب هذا التراجع فتعددت بين تغيّر المناخ وانخفاض الهطولات المطرية، الاستنزاف الجائر للمياه الجوفية، التزايد السكاني، الضغط الناتج عن النزوح السوري، وسوء إدارة الموارد، لتصبح المنطقة أمام تهديد حقيقي للزراعة ومياه الشرب والأمن الغذائي.
مزارع السمك مهددة
يجري نهر العاصي في وادٍ ضيق، لذلك المساحات الزراعية على ضفتيه محدودة، تتراوح بين 50 و200 متر تقريباً. قبل التسعينيات، كان النهر يُستثمر أساساً في الزراعة النباتية، وخاصة الذرة للاستهلاك المحلي والعلف الحيواني. مع مرور الوقت، تحوّل جزء من هذه الأراضي تدريجياً إلى تربية الأسماك، خصوصاً أسماك الترويت، التي وجدت في مياه النهر بيئة مناسبة للنمو.
إلا أنّ هذا القطاع بدأ يواجه تحديات كبيرة نتيجة انخفاض منسوب المياه وارتفاع درجات الحرارة، ما ساعد على تكاثر الطحالب التي استهلكت الأوكسجين الحيوي وأسهمت في نفوق أعداد كبيرة من الأسماك. فيصل سلهب، صاحب مسمكة ومؤسسة "Captain River Salmon"، يوضح أنّ إنتاجية النهر انخفضت إلى ثلاثة آلاف طن فقط بعدما كان يغطي السوق المحلية ويصدّر إلى الخارج، ويقدّر خسائره وحده بعشرين طناً من الأسماك.
يضيف سلهب: "الحرارة المرتفعة ونقص المياه ساعدا على انتشار الأمراض بين الأسماك، ومع ذلك لا نجد أي دعم حكومي أو رقابة على جودة الأعلاف"، مشيراً إلى أنّ تراكم الديون أصبح يثقل كاهل المزارعين الذين دفعوا ثمن الأعلاف لأسماك لم تصل إلى السوق. ويؤكد أنّ الضرر لا يقتصر على الخسائر المالية فقط، بل يمتد إلى سمعة ترويت العاصي عالمياً، التي كانت تُعتبر من الأفضل.
السياحة المائية في تراجع
منذ مطلع الألفية، تحوّل نهر العاصي إلى وجهة سياحية بارزة مع انتشار رياضة الرافتينغ التي جذبت آلاف الزوار. فقد نشأت على ضفافه أكثر من مئة مرفق سياحي، بين مطاعم وشاليهات ومنتزهات، تعمل معظمها على مدار السنة.
محمد صعب، صاحب منتزه "جنة العاصي"، يشير إلى أنّ السياحة في الهرمل نجحت سابقاً في جذب نحو مليون زائر خلال الموسم، إلا أنّ الأزمات الاقتصادية والوضع الأمني أدّيا إلى تراجع النشاط السياحي بشكل ملحوظ. ويرى أنّ التحديات كثيرة، أبرزها غياب الخدمات العامة، حيث تقع مسؤولية الطرق والكهرباء والصرف على أصحاب المشاريع أنفسهم.
ويضيف للميادين نت أنّ "المنطقة مهمّشة برغم أنّها تضم معالم تاريخية مثل قناة زنوبيا التي تعود إلى 4500 سنة، لكنها مغيّبة عن أي برنامج سياحي رسمي". كما يشير صعب إلى مشكلة التلوث الناتج عن بعض المطاعم التي لا تملك شبكات صرف صحي، إذ تفرغ مواد تنظيف ضارة في النهر، لكنه يعتبر أنّ مستويات التلوث لا تزال "مقبولة نسبياً" بفضل قدرة العاصي على تنظيف نفسه، ومبادرات محلية تعكس وعياً متزايداً بأهمية الحفاظ على النهر.
نور الدين إسكندر، مدرب رياضة الرافتينغ وعضو لجنة حماية العاصي، يوضح أنّ الدولة غائبة تماماً عن تنظيم هذه الرياضة على طول النهر. "لا تنظيم، ولا رعاية، ولا دعم"، يقول إسكندر، مؤكّداً أنّ أي سائح يلاحظ ذلك بسهولة. ويشير إلى أنّه يوجد حوالى 60 نادي رافتينغ على طول النهر، لكن اثنين أو ثلاثة فقط تحمل ترخيصاً رسمياً، أي أنّ معظم النوادي تعمل دون أي متابعة رسمية، ما يهدد سلامة الرياضة والمشاركين. ويضيف أنّ الدولة يُفترض أن تؤمّن رقابة وخدمات أساسية، مثل الطرق الآمنة ووضع قواعد سلامة للاعبين، لكن غياب هذه الرقابة يترك المخالفات والتعديات على مجرى النهر بلا متابعة.
تقاذف مسؤوليات
يربط رئيس بلدية الهرمل، علي طه، انخفاض منسوب نهر العاصي بالتغيرات المناخية العالمية، إضافة إلى الضغط الناتج عن النزوح السوري. ويشير إلى أنّ البلدية لجأت إلى الآبار الجوفية لتأمين حاجات السكان، مع خطط لاستخدام الطاقة الشمسية لضخ المياه، لكنه يقرّ بوجود هدر وسوء توزيع وتعديات متزايدة على النهر.
ويستعيد طه مشروع سد العاصي الذي توقّف عام 2006، موضحاً أنّ إنشاء السدود يشكل ضرورة للريّ وتوليد الكهرباء، لكن الأوضاع الاقتصادية الحالية لا تسمح بتمويل مشاريع بهذا الحجم. ويؤكد أنّ "البلدية لم تتسلّم أي أموال من الصندوق البلدي المستقل"، فيما تبقى الأولويات مقتصرة على المياه والصرف الصحي والطرقات الداخلية. ويختم بالقول: "لا يوجد اهتمام رسمي من أي وزارة، وما نقوم به لا يتعدى جهوداً فردية كتعاوننا مع نوادٍ محلية لتنظيف مجرى النهر".
وعند التواصل مع الجهات الرسمية، أوضح محافظ بعلبك - الهرمل خضر بشير، أنّ مشكلة نهر العاصي تتجاوز صلاحيات المحافظات، مشيراً إلى أنّ الجهة المعنية هي وزارة الطاقة.
تحديات بيئية خطيرة
الصحافية سعدى علوه، والتي تابعت ملف نهر العاصي على مدى سنوات، تعتبر أنّ مسؤولية حماية النهر تتوزع بين وزارات الطاقة والبيئة والصحة، إضافة إلى البلديات والمحافظة، وتشدد على أنّ "العاصي هو النهر الوحيد في لبنان الذي يجري صيفاً وشتاءً، والمطلوب ألا يُدمَّر فيتحول إلى ليطاني ثانٍ". وتلفت إلى أنّ منسوبه تراجع هذا العام بنحو 30% بسبب شح الأمطار، غير أنّ الأخطر يكمن في الممارسات البشرية، مثل رمي النفايات والصرف الصحي وتغذية الأسماك بمصارين الدجاج، ما يعني عملياً "قتل النهر".
وتشير علوه إلى أنّ المنطقة تملك ينابيع عديدة، منها نبع رأس المال وأحد عشر نبعاً آخر في الهرمل، تكفي لتأمين الحاجات المحلية، فيما لا تتعدى حصة لبنان من العاصي 21%، وترى أنّ هذه النسبة يمكن استثمارها في مجالات مثل الزراعة والطاقة الكهرومائية وتربية الأسماك، بدل أن تُهدر بسبب غياب التخطيط. وتؤكد أنّ توليد الطاقة الكهرومائية في لبنان فشل نتيجة توقف معظم المعامل، مشددةً على أنّ الاستمرارية والاستدامة أهم من إقامة مشاريع عشوائية.
ويطالب الناشطون البيئيون بإنشاء محطات معالجة للنفايات، وضبط مخالفات المسامك، وتأمين أعلاف صديقة للبيئة، إلى جانب تنظيم القطاع السياحي العشوائي. فهم يعتبرون النهر ليس مجرد مجرى ماء، بل شريان حياة للزراعة والسمك والسياحة. حماية نهر العاصي اليوم مسؤولية مشتركة، فهي السبيل لضمان استدامة الموارد الطبيعية والاقتصادية للأجيال المقبلة.