موت على مهل.. هكذا تقطع "قسد" شريان الحياة شمال شرق سوريا

أوقفت هيئة المحروقات التابعة لقسد تزويد شركات النقل بالمازوت المدعوم على خط دمشق - القامشلي، ما أدّى إلى توقف حركة النقل البري بشكل تام، لينفّذ الأهالي اعتصامات أمام مقرات "قسد" في المنطقة للمطالبة بإلغاء القرار.

  • موت على مهل.. هكذا تقطع
    موت على مهل.. هكذا تقطع "قسد" شريان الحياة شمال شرق سوريا

على مدى عامين دأب الحاج رضوان المخلف من أهالي منطقة الشدادي، في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا، على مراجعة مشفى "البيروني" في العاصمة دمشق بانتظام، من أجل تلقي جرعات الدواء الكيميائي، بعد إصابته بمرض سرطان الجلد، حيث لا تتوفر المشافي المختصّة بهذا المرض في المنطقة الشرقية من البلاد، لذلك يتوجه المرضى برحلات طويلة تتجاوز 450 كم نحو دمشق للحصول على العلاج.

وبرغم مشقّة الطريق وخطورته في بعض الأحيان، إلا أن الحاج رضوان (65 عاماً) تأقلم مع هذه الرحلة الشهرية باتجاه العاصمة طالما أنه يحصل على العلاج بشكلٍ مجاني في مشفى "البيروني"، لكنه لم يكن يتوقع أن تعمد "قوات سوريا الديمقراطية" التي تسيطر على أجزاء من الجزيرة السورية إلى قطع الطريق البري بين مناطق سيطرتها، ومناطق سيطرة الدولة السورية، وذلك بعد توقف شركات النقل البري عن العمل خلال الأيام الماضية، نتيجة توقف هيئة المحروقات التابعة لقسد عن تزويد الشركات بالوقود، الأمر الذي أدى إلى حالة من الغليان الشعبي، خاصّة في ظل التكلفة المرتفعة لوسائل النقل الأخرى مثل السيارات والطائرة، بما يفوق قدرة الأهالي على تحمّلها.

"لا بيرحموا ولا بيخلّوا رحمة الله تنزل"، يقول الحاج رضوان بحرقة للميادين نت، إذ إنّ "قسد" تعجز منذ سنوات عن توفير الرعاية الصحية والمراكز الطبية المجهزة في المناطق التي تسيطر عليها، برغم حصولها على عوائد مالية فلكية من السيطرة على حقول النفط والغاز شمال شرق سوريا، ووضع يدها على القمح والشعير في المنطقة التي تعتبر خزان سوريا الزراعي والنفطي.

ويوضح أنّ "هذا الطريق هو شريان الحياة لأهالي الجزيرة السورية، ومن يتنقّل عبر هذا الطريق من أبناء الحسكة هو إما طالب جامعي، أو جندي في الجيش السوري، أو مريض يريد تلقّي العلاج في المراكز الطبية داخل العاصمة، لذلك ما تقوم به قسد اليوم يُعتبر جريمة إنسانية بحرمان هذه الفئات من السفر، لا سيما أن أصحاب الأمراض المزمنة لا يستطيعون تأجيل العلاج وعدم السفر يشكّل تهديداً مباشراً على حياتهم".

ويشير الحاج رضوان إلى أنه راجع بعض شركات النقل لمعرفة إمكانية استئناف تسيير الرحلات إلى دمشق، فأخبروه موظفو الشركات أن "قسد" ستعيد المخصصات بشرط رفع الأسعار إلى الضعف، أيّ أن تكلفة الرحلة ستتضاعف مستقبلاً، وهذا الأمر سيزيد من معاناة الأهالي ويفاقم مشاكلهم.

ومن دون سابق إنذار، أوقفت هيئة المحروقات التابعة لقسد تزويد شركات النقل بالمازوت المدعوم على خط دمشق - القامشلي، ما أدّى إلى توقف حركة النقل البري بشكل تام، لينفّذ الأهالي اعتصامات أمام مقرات "قسد" في المنطقة للمطالبة بإلغاء القرار، لكن "القوات" رفضت إلغاء القرار واضطُرّت إلى تزويد بعض الرحلات بكميات من الوقود بأسعار مضاعفة، وبررت ذلك بوجود نقص في كميات الوقود المخزنّة لديها.

مضاعفة سعر الوقود رفعت تكلفة الرحلة للشخص الواحد،حيث عدّلت تعرفة مقعد رجال الأعمال من 185 ألف ليرة سورية (13 دولار أميركي)، لتصبح 350 ألفاً (24 دولار أميركي)، والمقعد العادي من 140 ألفاً إلى 250 ألفاً.

المتضرر الأكبر من هذه الخطوة كان الطلاب وأصحاب الأمراض المزمنة، فالرحلة البرية وإن كانت تتجاوز مدتها 14 ساعة، إلا أنها تبقى أرخص بكثير من النقل الجوي الذي يعادل عشرة أضعاف تكلفة النقل البري.

ومنذ سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" على مناطق واسعة شرق نهر الفرات عام 2014، بدعم من قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، وضعت القوات يدها على 80 بالمئة من حقول النفط السورية الموجودة في محافظتي دير الزور والحسكة، سيما الحقول الكبيرة مثل "الجبسة" و"رميلان" و"العمر" و"كونيكو" وغيرها، والتي تنتج وفق إحصاءات غير رسمية ما بين 150 إلى 200 ألف برميل نفط يومياً.

"قسد" تبيع جزءاً من النفط السوري المسروق إلى شركات تجارية في شمال العراق، حيث يتم تهريبه عبر الطرق البرية التي تربط المناطق الخاضعة لسيطرة "قسد" في إقليم كردستان، أو عبر الطرق النهرية من خلال مدّ أنابيب تقطع نهر دجلة بالقرب من معبر سيمالكا غير الشرعي، والذي أنشأته "قسد" قبل سنوات لتسهيل الحركة التجارية مع الإقليم.

و"قوات سوريا الديمقراطية" ليست الجهة الوحيدة التي تسرق النفط من حقول شرق الفرت، حيث تقوم القوات الأميركية يومياً بنقل كميات كبيرة من النفط عبر صهاريج إلى قواعدها في العراق، بينما تعمد "قسد" إلى بيع جزء من النفط الخام إلى هيئة "تحرير الشام" الإرهابية، والتي تسيطر على إدلب وريف حلب شمال غرب سوريا، وبينما تستفيد "القوات" من العوائد المالية الضخمة لتهريب وبيع النفط الخام، ويعيش مئات الآلاف من المدنيين في شمال شرق سوريا من دون القدرة على تأمين كميات قليلة من المحروقات لسدّ احتياجاتهم الأساسية.

احتكار "قسد" لقطاع المحروقات في شمال شرق سوريا لم ينعكس على قطاع النقل فقط، بل أثّر سلباً على مختلف مفاصل الحياة مثل المياه والكهرباء والزراعة، وهذا بدوره أدى إلى تعاظم الغليان الشعبي والنقمة على "قوات سوريا الديمقراطية"، لذلك شهدت محافظات الرقة والحسكة ودير الزور خلال الأشهر الماضية تظاهرات حاشدة رفضاً لتردّي الأوضاع المعيشية.

في الأشهر الماضية، زادت معدّلات التقنين الكهربائي في مناطق شمال شرق سوريا إلى مستويات قياسية، مع رفع "قسد" سعر الكهرباء إلى الضعف، إضافة إلى إصدار هيئة المحروقات التابعة لقسد مؤخراً قراراً يقضي بتخفيض كميات الوقود اللازمة لتشغيل مولدات الطاقة الكهربائية الخاصّة بالمنازل، على الرغم من ارتفاع درجات الحرارة ووصولها في بعض الأحيان إلى ما يقارب 50 درجة مئوية، وهذا الأمر ترافق مع انقطاع المياه عن الأحياء السكنية، حيث تمنع "قسد" تشغيل محطة "علوك" التي تعتبر مصدر المياه لأكثر من مليون شخص شمال شرق سوريا، لذلك يلجأ الأهالي إلى مصادر مياه غير صحيّة في كثير من الأحيان.

يشير جاسم الكروعي أحد أصحاب المولدات في حيّ "النشوة الغربية" في مدينة الحسكة للميادين نت إلى أن هيئة الطاقة التابعة لقسد خفّضت كميات الوقود التي كانت تمنحها للمولدات بنسبة 25 بالمئة، بحجة عدم وجود كميات كافية من المشتقات النفطية، ما اضطر أصحاب المولدات إلى تخفيض ساعات التغذية الكهربائية من 8 ساعات يومياً إلى 6 ساعات فقط، بينما انخفضت التغذية الكهربائية التي تؤمنها "قسد" للأهالي إلى ساعة واحدة في اليوم.

وتساءل الكروعي: "أين تذهب قسد بالنفط؟ ولماذا تدّعي عدم وجود كميات كافية منه في مخازنها، على الرغم من إنتاج الحقول التي تسيطر عليها لكميات ضخمة يومياً؟ لكن قسد تريد تأمين موارد مالية لأنشطتها العسكرية، ولو كانت تكترث بالمدنيين لكانت أغرقت المنطقة بالمشتقات النفطية وبقي لها كميات لتبيعها، إلا أن قادة قسد لا يفكّرون سوى في تكديس الثروات على حساب الأبرياء والمحتاجين".

قطاع الزراعة هو الآخر لم يسلم من سياسة "قسد" الاحتكارية للوقود شرق الفرات، فالمنطقة التي كانت تعد سلّة سوريا الغذائية وتنتج أكثر من مليون ونصف المليون طن من القمح، ومليون طن من الشعير، ونصف مليون طن من القطن، تجد نفسها اليوم في واقع سيىء للغاية، حيث يعجز المزارعون عن حصاد محاصيلهم نتيجة عدم توفر المحروقات اللازمة لعمل الحصّادات الزراعية، بينما انخفضت مستويات الإنتاج إلى الحدود الدُنيا، كما تعرّض محصول القطن والخضار الصيفي للجفاف نتيجة عدم تزويد المزارعين بالوقود الخاص بتشغيل محركات ضخ المياه من الآبار الجوفية.

وأكد العديد من الفلاحين نيتهم التحول من الزراعة إلى مهن أخرى أو بيع أراضيهم والهجرة خارج البلاد، ومنهم فارس الشيخ علي (أبو عدنان)، أحد أصحاب حقول القمح في ريف الحسكة، الذي عانى خلال الأشهر الماضية لتأمين الوقود اللازم لمتابعة عمله، ولاحقاً خفّضت "قسد" أسعار شراء محصول القمح من الفلاّحين، كما منعت بيع الفلاحين محاصيلهم للحكومة السورية، لتكون خسارة الفلاح المالية هذا العام مضاعفة.

يقول أبو عدنان للميادين نت: "منذ سنوات ونحن نعاني في العمل الزراعي، لكن الأشهر الماضية تحوّل العمل إلى مصيبة بكل معنى الكلمة، فالخسارة المالية التي تعرّضت لها دفعتني للتفكير بالهجرة من أرضي، لأن العمل بالزراعة أصبح مضنياً للغاية، بسبب القرارات اليومية التي تصدرها قسد والإدارات التابعة لها، فالأمر لا يقتصر على المشتقات النفطية، وإنما التضييق وفرض الإتاوات والتهديد الذي يمارسه عناصر الجماعة ضد المدنيين".

على مدى السنوات الماضية احتكرت "قوات سوريا الديمقراطية" كل مفاصل الحياة في الشرق السوري ولم تكترث بمعاناة المدنيين، لكن الأمور بدأت تنقلب عليها تدريجياً، وحالة الاحتقان الشعبي في المنطقة تمهد لانتفاضة شعبية كُبرى، ربما كانت شرارتها الأولى الحراك المسلح من قبل العشائر العربية السورية ضد مواقع "قسد" في ريف دير الزور، والذي من المتوقع أن يأخذ شكلاً تصاعدياً خلال الفترة المقبلة.