من قرية نائية إلى العالمية: سيدة إيرانية تحوّل حياكة السجاد إلى فنّ أصيل
آبادان تشي تشي، سيدة إيرانية في السبعينات، حولت حرفة السجاد التقليدية إلى فن عالمي مبتكر، مبدعة سجادة الوجهين المصنوعة من الحرير، التي أصبحت رمزاً للتراث الإيراني.
-
من قرية نائية إلى العالمية: سيدة إيرانية تحوّل حياكة السجاد إلى فنّ أصيل
في إحدى القرى الهادئة عند أطراف الحدود الشمالية الشرقية لإيران، وعلى بعد أربعة كيلومترات فقط عن جمهورية تركمانستان، وتحديداً في قرية "دويدوخ" التابعة لمحافظة خراسان الشمالية، تعيش سيدة إيرانية في السبعينات من عمرها تُدعى "آبادان تشي تشي"، تُعد من النساء القلائل في العالم ممّن تمكّنّ من تحويل الحرفة التقليدية إلى إبداع استثنائي.
في بيتها الريفي البسيط، المحاط بأشجار الجوز ونهر صغير ينساب بمحاذاة الطريق الترابي، ما زالت تفتل أيامها خيطاً بخيط، وتنسج الحياة بيديها على نول خشبي قديم. إنها ليست مجرد امرأة قروية، بل صاحبة إنجاز فني مذهل: "أول سجادة في العالم تُحاك على وجهين، وبالحرير التام وكل وجه يحمل رسماً مختلفاً".
عشاق السجاد والإثارة الذين يرغبون في زيارة تلك القرية، عليهم أن ينطلقوا من مدينة بجنورد مركز المحافظة، عبر طريق جبلي متعرج يستغرق قرابة ثلاث ساعات للوصول.
عند مدخل القرية، مشاهد الحياة اليومية تنبض بروح التراث: نساء يغسلن الخيوط في النهر، وفتيات يحملن سلالاً من الخيوط الملونة على رؤوسهن، وكل بيت تقريباً يحتوي على نول للحياكة.
-
آبادان تشي تشي، تُعد من النساء القلائل في العالم ممّن تمكّنّ من تحويل الحرفة التقليدية إلى إبداع استثنائي.
في بيتها الطيني البسيط والمتواضع، الذي يختصر أعواماً من العطاء والتعب والصبر، تستقبل ضيوفها بابتسامة حنونة وقامة منحنية. وفي غرفة صغيرة، تتوسطها سجادة نصف منجزة، تتراقص فيها ألوان الحرير بدقة تخطف الأنفاس. يبدو للمشاهد من النظرة الأولى أنه أمام لوحة فنية لا يصدق أنها من صنع يد بشرية.
لا تجيد اللغة الفارسية بطلاقة لأن اللغة المتداولة لدى سكان قرية دويدوخ هي اللغة التركمانية، وهي إحدى اللغات التركية، ويتحدث بها أبناء الأقلية التركمانية في إيران، لكن تواصلها الإنساني مع ضيوفها من داخل وخارج إيران كان كافياً.
قالت: "منذ عام وأنا أشتغل على هذه السجادة لوحدي، ولا زال أمامي عام آخر. إن نسج الحرير يتطلب دقة وصبراً، فثلاثة أيام متواصلة قد لا تنتج أكثر من سنتيمتر واحد فقط".
تعلّمت "تشي تشي" حياكة السجاد من والدتها، ومع غياب الزوج الذي توفي منذ سنوات بمرض في القلب، حملت عبء العائلة على عاتقها. أنجبت 9 بنات وولدين، وجميع بناتها تعلمن المهنة وأصبحن نساجات محترفات.
تقول إنها تكفّلت بمصاريف العائلة من خلال بيع السجاد وأولادها وأحفادها ينسجون مثلها، والسجاد الذي تبيعه تستخدم ثمنه لمصاريف الحياة ولم تحتفظ لحد الآن بأي سجادة لنفسها.
-
تكفّلت آبادان تشي تشي بمصاريف العائلة من خلال بيع السجاد
تقول وهي تمسك بخيط حريري بين أصابعها النحيلة: "في البداية، كنت مثل جميع النساء في القرية، أحيك السجاد على وجه واحد، لكنّني ذات يوم قررت تجربة حياكة وجه آخر من الجهة الخلفية للنول. لم أكن متأكدة من النتيجة، لكنّي جربت، ونجحت. ومن حينها وأنا لا أنسج إلا سجاداً ذا وجهين".
كانت البداية مع خيوط الصوف، ثم انتقلت إلى الحرير، وراحت تبدع سجادات ذات وجهين، كل منهما يحمل تصميماً مختلفاً حتى أصبحت سجادة دويدوخ الثنائية الوجه من أفخم وأندر أنواع السجاد في العالم.
تقول آبادان: "كل شيء أقوم به بنفسي، من اختيار الخيوط إلى صبغها بالألوان الطبيعية مثل قشور الرمان وعصارة الجوز، وحتى الحياكة الدقيقة التي قد تستغرق سنتين لكل سجادة".
وأضافت: "أول زبونة أجنبية جاءت إلى القرية بدعوة من طبيب في منطقتنا، كانت سيدة إيطالية تدعى روز ماري، وقد اشترت مني ثلاث سجادات دفعة واحدة. بعد زيارة روز ماري، بدأ اسم قرية دويدوخ ينتشر عالمياً، وأتى الزبائن من اليابان وألمانيا وهولندا وأستراليا".
تحكي حفيدتها "مليحة"، البالغة من العمر 20 عاماً، أنها تتقن الحياكة وتعمل مع والدتها وخالاتها في صناعة هذه السجادات. وتضيف بفخر: "أحد الزبائن الألمان طلب منا سجادة تضم 250 لوناً مختلفاً، وقد بعناها بـ5 آلاف دولار. وطلب منا زبون من روسيا سجادة رسمنا فيها قصر الكرملين وراقصات الباليه الكلاسيكية، وكانت من أجمل ما أنتجناه". تضيف مليحة: "أحياناً نصبغ الخيوط يدوياً، بألوان طبيعية من قشور الرمان أو الجوز، وأحياناً بألوان كيميائية، ثم نبيعها في مدينة مشهد".
لكنّ الفترة التي انتشر فيها فيروس كورونا، أطفأت وهج الزوّار. لم يعد الزوّار يطرقون الباب، والسيدة "تشي تشي" بقيت وحدها، تواصل الحياكة ليس للفن فحسب، بل من أجل العيش. برغم أن أحد أفراد عائلتها سجّل إحدى سجاداتها كتراث عالمي، إلا أنها ما زالت تطالب الجهات الرسمية بتوفير الحماية المادية والمعنوية لهذه الأعمال في قريتها وبقية القرى الإيرانية حتى يستمر هذا الفن، لأنه رمز لهوية البلاد وحضارتها ويرفع اسمها بين الدول العريقة والمتمدّنة.
-
يصبغون الخيوط يدوياً، بألوان طبيعية من قشور الرمان أو الجوز، وأحياناً بألوان كيميائية
وحول السجادة النصف مكتملة على النول، تقول السيدة آبادان مبتسمة: "ربما أنهي هذه السجادة العام المقبل، وربما لا. أنا لا أعدّ الوقت بالأيام، بل بالخيوط. طالما أنا قادرة على الحركة، سأواصل الحياكة".
السيدة "تشي تشي" لا تحتفظ بأي سجادة لها، فكلّ قطعة تُباع هي لإعالة العائلة. لكنها تترك خلفها قصة امرأة ريفية، تجاوزت حدود الخيال، لتنسج من يدها مدرسة جديدة في فنّ السجاد.
لقد نسجت هذه السيدة الحُلم مرتين: مرة أولى حين جعلت من الحياكة مصدراً للرزق وللأيام الصعبة، بعد أن تعلمتها من والدتها وورثتها للجيل الجديد من أبنائها وأحفادها؛ ومرة ثانية حين ارتقت بهذه الحرفة إلى مصافّ الإبداع العالمي، وجعلت من كل سجادة حكاية تُجسِّد كفاحها من أجل البقاء، وإبداعها من أجل الخلود. لقد أثبتت للعالم أن العظمة يمكن أن تبدأ من نول بسيط.. في غرفة متواضعة.. داخل قرية نائية.