ما الذي تفكّك بالفعل؟ ما لا يُحكى عنه في مستوطنات الشمال

يتنبأ الباحثون الإسرائيليون أن استمرار الحرب في الشمال سيفقده 10% من مستوطنيه كل شهر، وأن التركيبة الاجتماعية والعرقية للجليل والشمال لن تعود يوماً إلى سابق عهدها، لا سيما مع كيان فقد ردعه وهجومه وتفوقه وحسمه إلى الأبد.

  • ما الذي تفكّك بالفعل؟ ما لا يُحكى عنه في مستوطنات الشمال
    ما الذي تفكّك بالفعل؟ ما لا يُحكى عنه في مستوطنات الشمال

في الثامن عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أطلق الاحتلال أكبر عملية إخلاء في تاريخه، شملت 28 مستوطنة في شمال فلسطين المحتلة، تبعد ما بين 2-5 كيلو متراً عن الحدود اللبنانية، في خطوة تهدف إلى تقليل الخسائر البشرية تحت وطأة صواريخ المقاومة وضرباتها، والتركيز عسكرياً ولوجستياً على الجنوب.

عملية الإخلاء تزامنت مع حرب الاحتلال على قطاع غزة، وتوقع المستوى السياسي والعسكري لكيان الاحتلال أن تكون موقتة بارتباطها بما ظنه قدرة حسمٍ سريعة لجيشه في غزة، لينتج عنها أحد أبرز التغيرات الاجتماعية والديموغرافية في تاريخ كيان الاحتلال، لا سيما مع إطالة أمد الإخلاء الذي طاول العشرة أشهر، من دون وجود سقفٍ زمني محددٍ لأي عودةٍ مرتقبة.

وتكمن أهمية التغييرات في عمق تأثيرها على ما يقرب من 15% من المستوطنين، هم نسبة مستوطنو اللواء الشمالي، حيث يقدر عددهم بأكثر من مليون ونصف. وتسبب الإخلاء وصواريخ المقاومة بتهجير 125 ألفاً منهم على أقل تقدير، وبإيقافٍ كامل لقطاعات صناعية وزراعية وإنتاجية.

لكن الأبعاد الاقتصادية لاستمرار حالة الحرب والاستنزاف على الجبهة الشمالية ليست إلا جزءاً يسيراً من تأثيرات الحرب، التي امتدت لتطال بنية المجتمع الإسرائيلي في شمال فلسطين المحتلة، وتحدث فيه خللاً واضحاً انعكس من خلال موقف رؤساء مستوطنات الشمال، ودعوتهم إلى تحقيق انفصالٍ أحادي عنها من خلال إعلان "قيام دولة الجليل" مطلع أيار/مايو الماضي.

فيما كشفت أعداد المستوطنين التي تعلن رفضها العودة إلى مستوطنات الشمال حتى في حال وقف الحرب عن فشلٍ تأسيسي لمخططات الاحتلال في تهويد الجليل، التي بدأت ستينات القرن الماضي، وكانت آخر خطوات تطويرها تحت مظلة التشريع الحكومي في حزيران/مايو 2023، حين كانت حكومة الاحتلال تستعد لتطوير قانون "لجان القبول" لتحقيق قدرٍ أكبر من السيطرة اليهودية على أراضي الشمال.

اقرأ أيضاً: إعلان "دولة الجليل" في الشمال.. مجتمعات انفصالية تُفكك "إسرائيل"

خط بارليف يسقط من جديد

أمام إحساسٍ دائم بالخطر، اتجه رئيس وزراء الاحتلال ليفي أشكول عام 1964 لاستشعار الحاجة إلى تقليص الأغلبية العربية الطاغية في منطقة الجليل، وقطع اتصالها الجغرافي والاجتماعي مع العرب المسلمين والمسيحيين والدروز في الدول العربية المجاورة، فأشار إلى أهمية زرع وحدات استيطانية في المنطقة تقلب معادلتها الديموغرافية، تحت مسمى الاستيطان القروي والصناعي، فأنشأ مستوطنة "كرمئيل"، وعزز وجودها بإقامة مصنع بلاستيك وآخر للرخام في إضافةٍ تجاريةً وصناعيةً لها.

لكن مساعي الاحتلال لتغيير وجه المكان اتخذت بُعداً آخر مع حرب تشرين 1973، حين وجدت منظومة الاحتلال نفسها أمام هاجس فقدان الجليل لمصلحة الدول العربية المحيطة بها "عسكرياً وقانونياً"، لا سيما مع كثافته العربية الكبيرة، وارتباطه الديني والإثني بالعرب في لبنان وسوريا والفلسطينيين ممن هُجروا خلال النكبة، وغياب حاجزٍ جغرافي أو بشري يحول دون انفصال الجليل عن كيان الاحتلال، وهو ما قد يدعم مطالب المستوطنين القانونية في الانفصال والتمرد مستقبلاً.

إثر ذلك، توجه السعي الاستعماري لإعادة رسم خططٍ استيطانية خاصة بمنطقة الجليل، تهدف إلى تقويض الكثافة العربية ومحاصرتها، من خلال إنشاء حزامٍ استيطاني أشبه بخط بارليف ديموغرافي من الوحدات والكيبوتس والموشاف الإسرائيلية، تحيط بالمناطق العربية، وتعيق أي امتداد جغرافي أو سكاني يربطها بالبلاد العربية، يتكون من خمسين مجمعاً استيطانياً تحمل مسميات وأهدافاً مختلفة.

في هذا السياق، انطلق مصطلح "الاستيطان الإقليمي" عام 1975، في خضم جهدٍ إسرائيلي متجدد لـ "تهويد الجليل"، بمسمى بالغ التحضر هو "تطوير الجليل"، وبمجموعة إجراءات من بينها مصادرة الأراضي العربية بحجة بناء محميات ومنتزهات "وطنية"، أو بحجة استخدامها لأغراض عسكرية، كما شملت الإجراءات شق طرقٍ من داخل البلدات العربية، منها الطريق السريع 85، و90 و91 و"عابر إسرائيل"، الذي هدف إلى ربط اللواء الشمالي بمنطقتي المركز والجنوب، بما يسهل الاستيطان في الشمال والتوزع السكاني على الكيبوتس والمستوطنات التعاونية، ونتيجةً لهذه الخطوط، تم إلحاق عددٍ كبيرٍ من المناطق العربية والبلديات بمجالس المستوطنات الإقليمية، وربط المجمعات الاستيطانية بالمدن الحضرية مثل حيفا وعكا.

وخلال تلك الفترة، حتى منتصف التسعينات، أنشأ الاحتلال عدداً من المستوطنات التعاونية "موشاف" على طول الحدود مع كلٍ من سوريا ولبنان، منها شتولا، وزرعيت، ونتوعا، وشوميرا، و إيفن مناحيم، وأمون، وكاهال، وبرعام، وأخرى تحيط بالبلدات العربية منها تيفن وسيغف وتسالمون، كما أنشأ المجلس الإقليمي الاستيطاني "مسغاف"، ضاماً له 200 ألف دونم من أرض الشمال، و35 بلدة جماهيرية، و29 كيبوتس، و6 مستوطنات تعاونية.

ووفقاً لبيانات الإحصاء المركزي الإسرائيلي 2022، فقد بلغ عدد مستوطنات لواء الشمال 417 مستوطنة، 332 منها تندرج في إطار المستوطنات التعاونية والجماهيرية والقروية، موزعة على 41 بلدة جماهيرية، و37 بلدة قروية، و3 مستوطنات تعاونية، و131 كيبوتس، و120 موشاف، من بينها 8 تجمعات مختلطة فقط تضم اليهود والعرب في محيطٍ جغرافي واحد، يشرف عليها 61 مجلس محلي، و15 مجلس إقليمي استيطاني.

هذا الحصن الاستيطاني المنطلق من استراتيجية "حوما ومفدال"، أي برج وسور والمعبر عن مرونة الاستيطان الإسرائيلية، باعتباره أساساً لـ"الدولة"، انهار مع صبيحة الثامن من أكتوبر 2023، حين أطلقت المقاومة الإسلامية صواريخها على شمال فلسطين، إسناداً ومؤازرةً للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، واستنزافاً للاحتلال ظهرت تجلياته الفعلية لاحقاً.

وفيما حاولت سلطة الاحتلال التعتيم على حجم الخسائر والأضرار، ومقدار الهزيمة العسكرية والسياسية التي أصابتها بفشل حصنها الاستراتيجي الذي أنفقت الملايين على دعمه وإسناده منذ سبعينات القرن الماضي، وأسست في ضوئه أكثر من 700 منشأة عسكرية وصناعية وإنتاجية وتجارية، وأكثر من 9758 مشروع إنتاجي واستثماري عام 2022 وحده، من أصل 102,074 مشروع قائم سابقاً بهدف تغيير النمط الاستيطاني والديموغرافي في الجليل. في المقابل، كشفت صحيفة "نيوزويك" الأميركية أن عدد الإسرائيليين الذين تم إخلاؤهم يناهز الـ 200 ألفاً، فيما ارتفع عدد التجمعات المخلاة في الشمال لـ 81 تجمعاً، منها 57 تجمع أخليت بشكلٍ كامل.

التوزع الديموغرافي في الجليل

وفي نظرةٍ مقربة على واقع التوزيع الديموغرافي لمستوطني شمال فلسطين المحتلة، وخاصة اليهود الذين تقدر نسبتهم وفقاً للإحصاء الإسرائيلي بقرابة الـ 42.4% من السكان، فإن 292 تجمعاً سكانياً يقل عدد مستوطنيها عن ألف نسمة، فيما يقل مستوطنو 97 تجمع عن 700 نسمة، ما يشي بأن مساحة اللواء الشمالي المقدرة بـ 4473 كلم مربع، إنما هي خاصرة ضعيفة في جغرافية المعارك، لم تستطع مخططات الاحتلال تقويتها، وأن حجم التهجير في الشمال جغرافياً أكبر مما يُعبر عنه ديموغرافياً.

تكشف هذه النظرة أيضاً عن مغزى قلة الخسائر البشرية مقارنةً بحجم القوة النارية التي تلقاها الشمال، فالفراغ الجغرافي وتبعثر المستوطنين ونزوحهم يعد عاملاً مهماً في تقليص الخسائر البشرية التي يحدثها أكثر من 7500 صاروخ و200 مسيرة أطلقتها المقاومة منذ الثامن من أكتوبر، مع إدراك الاستراتيجية العسكرية التي اتبعتها المقاومة في استهدافها، بدءاً بتدميرٍ كامل للمعدات الاستخباراتية والتجسسية على طول الحدود، ومن ثم الانتقال إلى الأهداف النوعية.

يُعبر عن نجاح هذه الاستراتيجية ارتفاع حجم الخسائر ودقة الضربات بالتواتر مع استمرار اشتعال الجبهة، حيث تم تسجيل 1091 استهدافٍ في تموز/يوليو مقارنةً بـ 1000 في أيار/مايو، ونجحت نصف عمليات الاستهداف على الأقل في إحداث أضرارٍ مادية قُدرت مبدأياً بـ4378 موقعاً، كما ساهمت صواريخ المقاومة في كشف الغطاء النباتي في أكثر من 790، بمساحةٍ مقدارها 158 ألف دونم، بعضها كان غطاءً لمواقع استخباراتية وتجسسية مثل موقع الراهب.

بالمحصلة، يجب النظر إلى الجهد المقاوم في شمال فلسطين المحتلة ديموغرافياً باتجاهين؛ الأول هو قدرته على إفشال مخططات تهويد الجليل بسلاسة ومرونة ومن دون الحاجة إلى الدخول في حربٍ مفتوحة، والثانية قدرته على ضرب العمق الإسرائيلي متجنباً الأغلبية العربية الموجودة في الشمال، والتي اعتبرها الاحتلال درعاً بشرياً في أي مواجهةٍ عربية على غرار الوجود العربي في النقب جنوباً، ويظهر ذلك من انتقائية أهداف المقاومة ودقتها.

فحين استهدفت عرب العرامشة، ركزت هجومها على مواقع تأكدت سابقاً من وجودٍ عسكري لقوات الاحتلال فيها، وحين استهدفت عكا أصابت نيرانها جنوداً إسرائيليين بعد جولةٍ مثمرةٍ للهدهد، وهذه الاستراتيجية المتواصلة منذ 10 أشهر تنفي وبشكلٍ قاطع استهداف العرب الدروز في مجدل شمس، وتؤكد أن الجليل فعلاً قد خرج من سيطرة كيان الاحتلال.

تآكل المناعة الاجتماعية

إذا كانت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر قد كشفت عن هشاشة عسكرية وأمنية للاحتلال، فإن الثامن من أكتوبر كشف عن هشاشة عرقية وطبقية وطائفية عميقة، لم تكن بحاجةٍ إلا لمحفزٍ شديد التفاعل مثل صواريخ المقاومة قادرٍ على إشعال فتيلها.

فمن تداعيات عملية الإجلاء الكبرى لمستوطني الشمال ونقلهم إلى منطقة الوسط والمركز، أن فشلت مخططات تخفيف الاكتظاظ الاستيطاني، وتوزيع المجموعات العرقية، وتنظيم المشاريع الزراعية والحيوانية والإنتاجية في الشمال القائمة على جهد موسمي جزئي.

وفيما كانت مخططات التوزيع الاستيطاني لكيان الاحتلال تعمد إلى تقسيم المهاجرين وأبنائهم من مواليد الدولة "الصابرا" على الأقاليم الست، بما يخدم الاستراتيجية الدفاعية والاقتصادية والسياسية، فيتم تركيز الأشكناز ويهود أوروبا الغربية في المركز والوسط، حيث شركات التقنية والحراك السياسي والحكومي، ومنتديات الأعمال، والمراكز الأكاديمية والبحثية المرتبطة بصلاتٍ أكاديمية وعلمية في المجتمعات الغربية.

فيما توزع المهاجرون من يهود الفلاشا وأفريقيا والمغرب العربي على اللواء الجنوبي، حيث المناخ الصحراوي، والأعمال اليدوية والحرفية، والحاجة إلى أيدٍ عاملة فاعلة، بينما تم توجيه يهود أوروبا الشرقية واليهود الشرقيين إلى الشمال وتوزيعهم على الموشاف والكيبوتسات، بما يخدم طبيعة عملهم اليومي في الحواضر الكبرى مثل عكا وحيفا ونهاريا، ويؤمن لهم سكناً منخفض التكاليف مقابل إحياء الاستيطان اليهودي على حدود الشمال، وبأحياء تبعد عن مراكز عملهم بما لا يزيد عن 27 دقيقة.

بينما يستوطن اليهود المتدينون "الحريديم" أحياء القدس وبني براك وبيت شميش، ويتقوقعون على أنفسهم بعيداً من المجتمع العلماني في الساحل و"تل أبيب"، وقريباً من الامتيازات الحكومية والمدارس اليهودية الدينية في القدس والمركز.

صراع طبقي وعرقي وطائفي

هذا التقسيم برغم فعاليته في إدارة الكيان، إلا أنه يعبر عن ثلاثة أشكالٍ من الصراع يخضع لها المجتمع الإسرائيلي بشكلٍ مستمر باعتباره مجتمع مهاجرين، تتراوح بين الصراع العرقي بين اليهود والعرب، والصراع الطبقي بين الأغنياء والفقراء، والصراع الطائفي بين الأشكناز والسفارديم والحريديم واليهود الأثيوبيين ويهود أوروبا الشرقية وغيرهم من الطوائف.

ففيما يتعلق بالصراع العرقي، يمثل الشمال أبرز أقطابه وساحته الأولى، لا سيما مع التنوع الديني والعرقي للعرب من مسيحيين ومسلمين ودروز وشركس، حيث يشكل العرب الفلسطينيون ما نسبته 53% من سكان لواء الشمال، و17% من سكان لواء حيفا، يتوزعون على ثلاث ديانات هي الإسلام 83.6%، والمسيحيين 8.1%، والدروز 8.1%، وتتشابه ظروفهم المعيشية والاقتصادية والاجتماعية بغض النظر عن ديانتهم، حيث تعاني المناطق العربية من أعلى نسبة اكتظاظٍ سكاني نتيجة تركزهم في مناطق جغرافية محددة، وحرمانهم من التوسع وتطوير المرافق الحكومية والمدنية، على حساب توسع العرق اليهودي الذي يتوزع مستوطنوه بنسبة 318.7 فرد لكل 2 كلم.

هذا التوسع الذي أوقفته حرب الشمال، وتسببت في إخلاء المستوطنون اليهود، وتراجع أعمالهم وأنشطتهم التجارية، وتفكك مجتمعهم وروابطهم وفق المنظور التهويدي الإحلالي، على حساب بقاء العربي الفلسطيني بمختلف طوائفه وأديانه، بل وهجرته من المركز إلى الشمال، إنما تعبيرٌ عما أشار له بعض رؤساء المجالس الإقليمية بالقول إن "المجتمع الإسرائيلي في الشمال قد تفكك".

أما الصراع الطائفي فهو يظهر واضحاً بين المستوطنين اليهود الذين يقدر عددهم بـ 647,500 يهودياً  في لواء الشمال، حيث ينقسم المجتمع اليهودي في لواء الشمال وحيفا إلى قسمين؛ مهجرين ومؤسسين، فأما المؤسسين "يهود مرحلة الانتداب" فهم يتمركزون في 9 تجمعات استيطانية، حيث اختلط معظمهم اجتماعياً مع سكان أوروبا الغربية، وأما المهجرين فيتوزعون على المستوطنات الجماهيرية والزراعية والتعاونية والموشاف، وتعود أصول بعضهم إلى الاتحاد السوفياتي وأوروبا الشرقية، وبينهم وبين يهود أوروبا الغربية عدم وفاق ظاهر، فيما تم توطين الجزء الآخر من المهجرين بعد سلسلة تاريخية من الإخلاء، بدأت بإخلاء مستوطنات سيناء عام 1979، ومن ثم مستوطنات غزة عام 2005، وهناك قلة قليلة من اليهود الشرقيين من المغرب العربي والعراق ومصر.

هذا المزيج الإثني يخوض صراعات متعددة المستويات، بدءاً من مشاعر التمييز والتفرقة الطبقية والعنصرية، مروراً بالوضع التعليمي والمستوى المعيشي المنخفض لمستوطني الشمال، حتى بين غير العرب مقارنةً بمستوطني الوسط والمركز، ما انعكس على تصنيفهم الطبقي في المجتمع، وفرص التوظيف المتاحة لهم، وبالتالي اعتُبر نزوحهم إلى المركز والوسط تطوراً اجتماعياً واقتصادياً، برغم حالة الاكتظاظ الاستيطاني الكبيرة هناك.

ناهيك عن تجربة الإخلاء المتعدد التي مروا بها، والتي رسّخت لديهم شعوراً بالتخلي وعدم الأمن والاستقرار، وهو ما دفع أكثر من 40% منهم للتصريح بعدم الرغبة في العودة إلى الشمال، وقد يكون لهذا القرار دوافع تتجاوز الحرب إلى الرغبة في الانخراط بعمق المجتمع الإسرائيلي في كلٍ من "تل أبيب" والقدس، والتحول من نظام عمل المياومة - السائد للمعظم شمالاً - مقارنةً بنظام العمل الاعتيادي.

ينعكس هذا أيضاً في ميدان الصراع الطبقي، حيت ترتفع نسب الفقر بين العائلات اليهودية في الشمال لتبلغ 15.5%، وهي ثاني أعلى نسبة في عموم المناطق مقارنة بالعائلات اليهودية في جنوب فلسطين، فيما تبلغ نسبتها بين العائلات العربية 38.8%، ما يحول الشمال ذو الأغلبية العربية التي لا يخدم مسلموها في الجيش، وبنسبه المرتفعة من الفقر، والمستوى الأكاديمي العام المنخفض مقارنةً بالوسط والمركز، إلى عبء اقتصادي على كيان الاحتلال، تزيد وطأته باستمرار الحرب وخسائرها.

ويبدو من خلال تتبع هذا الصراع أن إخلاء الشمال سارع في تأكيده، حيث أظهرت بيانات المجالس الإقليمية الاستيطانية في شمال فلسطين انخفاضاً في عدد العائلات اليهودية الشابة مع نهاية عام 2022، وغياباً للعنصر الفتي في 18 مستوطنة تقع ضمن المجلس الإقليمي لمرج بن عامر والمجلس الإقليمي مسغاف، ما تسبب في إغلاق رياض الأطفال وعددٍ من المدارس نتيجة غياب الفئة المستهدفة.

وفيما كانت "لجان القبول" قد أرجعت هذا الضمور في العائلات اليهودية الشابة، وارتفاع سن السكان اليهود في لواء الشمال، لتكلفة الاستيطان المرتفعة والحاجة إلى دعم الحكومة "للأقلية اليهودية" في ظل الحصار الديموغرافي، والهجرة المتزايدة من المستوطنات الجماهيرية إلى الوسط، فإن بيانات الإحصاء الإسرائيلي تشير إلى أن معدل النمو الاستيطاني الطبيعي "المواليد الجدد"، آخذٌ بالانخفاض نتيجة ارتفاع سن الزواج، وعمل المرأة، وتكاليف المعيشة، باستثناء طائفة الحريديم التي لا توجد في منطقة الشمال.

يضاف إلى ذلك أن المستوطنات الجماهيرية والتعاونية في الشمال تندرج في إطار "العناقيد المتوسطة والدنيا" في تصنيف الحالة الاقتصادية والاجتماعية لمستوطني كيان الاحتلال، حيث يحصل 44% من المستوطنين على أقل من الحد الأدنى للأجور، و23% منهم يحصلون على أجر أعلى من الحد الأدنى، ما يحولها من تجمعات استيطانية غنية إلى تجمعات ميسورة، تعتاش على الأعمال الموسمية التي لا تحمي من الفقر، والتي تشمل الزراعة والسياحة وتنشيط المزارات الدينية والبيئية.

يعزز ذلك ما أظهرته بيانات "بنك إسرائيل" من أن نسبة النمو في المستوطنات الشمالية خلال العشر سنوات الأخيرة كانت أقل بكثير مما توقعه مشروع تطوير الجليل، ومما هي عليه الحال في مستوطنات الجنوب والنقب، وكانت المفاجأة أن المستوى التعليمي للمستوطنين في الشمال منخفض أكثر من الجنوب، وأن نوعية وفرص العمل المتوفرة لمستوطني الشمال اليهود أسوأ من تلك المتوفرة لمستوطني النقب.

عموماً، يدرك المراقب للمجتمع الإسرائيلي أن الحرب الحالية شمالاً وجنوباً أسهمت بشكلٍ واضح في تعميق انقساماته وتظهيرها، وفي انكشاف فئاته وصراعاته على بعضها البعض بما لا يدع مجالاً للمواربة والشك، فالجهد الحضري الواضح في تشكيل جبهةٍ جغرافية أمام أي اتصالٍ عربي في الشمال سقط مع أول قذيفةٍ اهتز على إثرها الجليل، وحالة الانسجام التي سعى قانون يهودية الدولة لتأكيدها وإخضاع المكان لسطوتها انحسرت أمام الهجرة العكسية، وتآكل الشمال والجنوب سياسياً وديموغرافياً واجتماعياً.

يتنبأ الباحثون الإسرائيليون أن استمرار الحرب في الشمال سيفقده 10% من مستوطنيه كل شهر، وأن التركيبة الاجتماعية والعرقية للجليل والشمال لن تعود يوماً إلى سابق عهدها، لا سيما مع كيان فقد ردعه وهجومه وتفوقه وحسمه إلى الأبد.