كيف دمّرت الحرب سلة سوريا الغذائية؟

من الاكتفاء الذاتي إلى الاعتماد على الواردات والمساعدات.. كيف دمرت الحرب سلة سوريا الغذائية؟  

  • كيف دمّرت الحرب سلة سوريا الغذائية؟
    كيف دمّرت الحرب سلة سوريا الغذائية؟

 تتصدّر  أزمة  الأمن  الغذائي  من جديد مشهد الأزمات في سوريا، مهددة ملايين الأفراد في بلد كان قبل العام 2011 مُكتفياً ذاتياً في مجال الزراعة وإنتاج المواد الغذائية، وأحد  أكبر  مُصدّري  الحبوب  في  المنطقة. لكن  سنوات الحرب القاسية  دمّرت بشكل كبير جوانب عدة في القطاع  الزراعي، وحوّلت  البلاد  إلى  أحد أكبر الدول المستوردة للقمح والمواد الغذائية الأساسية، بعد أن كانت من أوائل الدول المصدّرة لها.

فقد  أعلنت  الأمم  المتحدة  عن  فجوة  مالية  ضخمة  تُقدر بـ500  مليون دولار تضع واقع تدهور الأمن الغذائي، وزيادة الفقر والهجرة، في مواجهة مستمرة مع عقوبات اقتصادية وحصار زاد إلى جانب الأثر الواضح للتغير المناخي، من تفاقم  هذه  الأزمة، وجعل منها واحدة من أكثر امتدادات الحرب ضرراً وتهديداً، ما عزّز  الفوارق الاجتماعية وزاد من الضغوط المعيشية على المواطنين السوريين، خاصة في المناطق الأكثر تضرراً من الحرب.

تقارير ودراسات تشير إلى أنّ الحرب والعقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا أدت إلى تدهور القطاع  الزراعي وتراجع إنتاج المحاصيل الأساسيّة. وفاقمت التغيرات المناخية من هذه الأزمة وزادت من صعوبة الحصول على الغذاء والمواد الأساسية، وجعلت من الخطط الحكومية ضرورة مُلحّة لمواجهة هذه التحدّيات للتخفيف من تداعياتها، وضرورة وجود دعم ودور واسع للمنظمات الدولية.

واقع الأمن الغذائي قبل الحرب

قبل  اندلاع  الحرب،  كانت  سوريا  تعتبر  نموذجاً  للاكتفاء  الذاتي  في  مجال  الزراعة وإنتاج المواد الغذائية، وشكّل القطاع  الزراعي ركيزة  مُهمة  للاقتصاد  السوري،  ما جعل من  البلاد أحد  أكبر  مُصدّري  الحبوب  في المنطقة، ضمن سياسة حكومية واضحة شكّلت فيها الجهود المبذولة في  تطوير القطاع الزراعي أولويّة قامت عليها السياسة العامة للدولة طوال سنوات ما قبل الحرب، لكنّ الدمار  الهائل  الذي طال القطاع الزراعي  نتيجة  للحرب  والحصار تسبب بخسائر  كبيرة تجاوزت 16  مليار  دولار  أميركي، مما  أدّى إلى تراجع إنتاجية القطاع الزراعي، وتحويل البلاد إلى مُستورد صافٍ للقمح والمواد الغذائية الأساسيّة.  

فقد كانت سوريا  بلداً  غنياً بأراضيه الخصبة  التي  تشكّل حوالى  32.8% من  مساحتها  الإجمالية. ما جعل من القطاع  الزراعي  مصدر  رزق  لأكثر  من  20%  من  الشعب  السوري، وعزّز مكانة سوريا في إنتاج مُختلف  المحاصيل الزراعية، من الحبوب والخضار  والفاكهة إلى الزيتون والقطن.

وتُشير  التقارير إلى أنّ قيمة الأضرار التي أُلحقت بالأصول الزراعية ووسائل الإنتاج  تُناهز 3 مليارات دولار أميركي، بينما تُقدّر خسائر إنتاج المحاصيل بنحو 6.3 مليار  دولار  أميركي. وتُقدر خسائر  قطاع  الماشية بنحو 5.5 مليار دولار أميركي وحوالى 80 مليون دولار أميركي في قطاع  تربية الأسماك.

تأثير الحرب على الأمن الغذائي

أدت الحرب السورية  إلى تدمير كبير في  القطاع  الزراعي وتراجع  إنتاج  المحاصيل الرئيسية، بسبب تأثير الحرب المباشر على مواسم الحصاد والزراعة، وتراجع مقدرة الدولة على دعمها، إلى جانب منع العقوبات والحصار من وصول المعدات والمواد الأساسية لدعم هذا القطاع، وارتفاع تكاليف الإنتاج مع نقص حاد في توفر الوقود والمبيدات الحشرية والأسمدة اللازمة، الأمر الذي جعل من الاحتياطيات الاستراتيجية من القمح بحالة تناقص مستمر، وترك البلاد بحالة نقص واضحة جعلت منها تعتمد بشكل كبير على الواردات الغذائية واستيراد المواد الأساسية كالقمح.  

وتُشير التقارير الرسمية في سوريا إلى أن الحرب أدّت إلى تدمير  البنية التحتية الزراعية بشكل كبير، بما في ذلك قنوات الريّ  والصوامع  والمصانع  الزراعية، وتضاؤل كبير في مساحة الأراضي  المزروعة.

تأثير العقوبات والحصار

تُعدّ العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على  سوريا أحد  العوامل الأساسية التي أثّرت على القطاع الزراعي، وأدّت  إلى  تدهور الوضع  الاقتصادي  في  البلاد، حيث تُشير  تقارير رسمية ودولية إلى أنّ العقوبات أدت إلى صعوبة الحصول على الأسمدة والوقود، وكذلك المعدّات الزراعية، بعد تعرّضها إلى تلف كبير طال الآلاف منها، مع عدم مقدرة الفلاّحين على تحمّل  تكاليف الصيانة بسبب نقص الموارد وارتفاع أسعار قطع  الغيار. وأدّى تراجع الثروة الحيوانية إلى ضرر كبير، حيث شهدت نسبة ملكية الأسر للماشية انخفاضاً مقارنة بما قبل الأزمة، إلى جانب ذلك عانى القطاع الزراعي من مشكلة نقص مياه الري بشكل كبير بسبب انقطاع التيار الكهربائي، وارتفاع أسعار المحروقات التي تُستخدم في تشغيل مُولدات الكهرباء، وتحكّم دول الجوار والفصائل المسلحة بمصادر المياه في كثير من المناطق، خاصة المنطقة الشمالية في دير الزور والحسكة، مما  أثّر  على  إنتاجية  القطاع  الزراعي.

يقول محمد كشتو، رئيس اتحاد غرف زراعة دمشق، في حديث للميادين نت، إن الحرب العسكرية وإن انتهت فالاقتصادية لم تنته فالعقوبات الاحادية الجانب المفروضة على الشعب السوري إضافة للقيود خاصة على قطاع المصارف والنقل تحد من تامين مستلزمات الإنتاج الزراعي مما يزيد من صعوبات تسويق المنتجات الغذائية لتصديرها خارجياً.

وأضاف كشتو: "جزء كبير من الأراضي السورية لا يزال خارج سيطرة الدولة السورية ومحتلة من عصابات إرهابية، أكثر من 65% من إنتاج القمح يقع في مناطق شرقي الفرات ومحافظة إدلب وقسم من ريف حلب، وهذا يعدّ مشكلة كبيرة. أمّا في المناطق التي تقع تحت سيطرة الدولة السورية فكلّ الإجراءات الممكنة تُتّخذ لإنتاج أكبر كمية من القمح".

التغير المناخي

تُواجه  سوريا  تحدياً  كبيراً  إلى جانب التحديات الأساسية كـالحرب والحصار، وهي ظاهرة التغير  المناخي التي أدّت إلى زيادة  مُعدّل الجفاف في المنطقة، ما زاد من النقص الحاد في كميات الماء الُمتاحة للزراعة، وانخفاض مُعدلات الإنتاج الزراعي والموارد  الغذائية، خاصةً المناطق الصحراوية الجنوبية والشرقية من سوريا، والذي انعكس بشكل واضح من خلال من انخفاض الهطولات المطرية وارتفاع درجات الحرارة بشكل استثنائي، مع غياب توفير المياه الصالحة للشرب وتناقص الأحواض المائية.

وتُبيّن إحدى الدراسات العلميّة أنّ احتمال وقوع الجفاف في المنطقة كان قبل ظاهرة التغير المناخي مرة كل 250 سنة، ويزداد ليصبح مرة كل عشر سنوات عند ازدياد الحرارة 1.2 درجة مئوية، وقد يصبح احتمال حدوث الجفاف مرة كل خمس سنوات عند وصول ازدياد الحرارة إلى 2 درجة مئوية، ما أدى بطبيعة الحال إلى انخفاض معدلات الإنتاج الزراعي والموارد الغذائية، وبالتالي زيادة تكلفة الغذاء وقلة توافره. الأمر الذي أدى إلى عدم الاستقرار وازدياد معدلات الهجرة، خاصة في الأجزاء الشرقية من سوريا إلى المدن الكبرى، كدمشق وحلب ودرعا، وما تبعه من أثر واضح على التوازن الزراعي في البلاد.

الجهود الحكومية

تؤكد الحكومة  السورية أنها تحاول التغلب على كل هذه التحديات من خلال تقديم الدعم للمُزارعين والاستثمار في القطاع  الزراعي عبر تقديم الحوافز  للمُزارعين وإطلاق بعض المشاريع لتطوير القطاع الزراعي.
  
في وقت يحتاج القطاع الزراعي السوري اليوم إلى استثمارات كبيرة لإعادته إلى ما كان عليه، وتقدر التكلفة المبدئية حسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة (FAO) لإعادة بناء قطاع الزراعة بنحو 10.7 إلى 17.1 مليار دولار أميركي في المجمل. وبرغم التحسن في الوضع الأمني مقارنة مع عام 2015، حيث أصبح المزارعون أكثر قدرة على الوصول إلى أراضيهم، لا تزال سوريا بعيدة عن تحقيق مستوى الأمن الغذائي الذي ساد قبل الأزمة.

فقد بيّن برنامج الأغذية العالمي إن نحو 12.1 مليون شخص في سوريا، أي أكثر من نصف عدد السكان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي، ما يجعل سوريا من بين البلدان الستة التي تعاني من أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم.

2.1 مليون شخص يعانون من انعدام المساعدات 

يعتبر القطاع الزراعي في سوريا عنصراً أساسيًا من عناصر الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في البلاد، وبرغم غياب بوادر تعافي واضحة لهذا القطاع، إلا أنه من المهم الاطلاع على واقع دور المنظمات الدولية والإقليمية في دعم القطاع  الزراعي، وما تقدمه هذه المنظمات من دعم مالي وتقني للمُزارعين.

تُؤكد منظمة الأغذية والزراعة "فاو" أهمية تضافر الجهود المحلية والدولية لمساعدة المزارعين في سوريا، وتوفير الاحتياجات والمشاريع والتدخلات الهادفة إلى تعزيز صمود الأسر والمجتمعات الريفية، حيث أكد جلال حمود مختص الأمن الغذائي في منظمة الفاو في سوريا للميادين نت، أن أكثر من 2.1 مليون شخص في 134 منطقة إدارية في سوريا لم تتلقّ أي نوع من المساعدات منذ بداية العام الحالي، بسبب انخفاض التمويل بشكل كبير، مما يُفاقم من الأزمة الغذائية، ويُهدّد بتدهور الوضع الإنساني في البلاد.

لكن هذه التقارير لا تعكس بطبيعة الحال الدور الحقيقي والأثر الواضح لعمل المنظمات، خاصة أن الوضع المعيشي وواقع الأمن الغذائي في عموم البلاد في تراجع مستمر، من دون أن تتمكن هذه المنظمات من تحقيق تغير واضح أو تقديم دعم ينهي الواقع القاسي، خاصة في المناطق الأكثر ضرراً كمدينة الحسكة والقامشلي ودير الزور، والتي ترى فيهم الحكومة السورية تبايناً في الدور والأثر، بسبب معطيات سياسية أبقت ملايين السوريين تحت ضغط وتجويع العقوبات والحصار .
 
يبقى واقع الأمن الغذائي في سوريا صورة من صور الحرب الأشد قسوة لاتساع دائرة الأثر الكبير لها على كافة مفاصل الحياة، فيما يغيب الأثر الواضح لأي تغير حقيقي، إذ لم تتمكن جهود حكومية وأخرى أممية من إيقاف واقع تدهور الزراعة حتى الآن، ليبقى انعدام  الأمن الغذائي خطراً يستحق الوقوف عنده، لأثره الكبير خاصة على  الفقراء والأسر الأشد  فقراً، في ظل عقوبات  خانقة لم تتوقف عند تدمير القطاعات الحيوية، بل كان لها الأثر على كل مفاصل الحياة الأساسية للسوريين.