كرنفال في البيوت والأحياء.. هكذا يتهيّأ اللبنانيون لخطاب السيد نصر الله

خطابات السيد حسن نصر الله أصبحت حالة اجتماعية يتفاعل فيها المتلقي مع المخاطِب في كل تفاصيله. ظاهرة تصنع المعادلات وتشكّل علاقة فريدة للناس مع السيد نصر الله، العابر لكل الطبقات الاجتماعية.

0:00
  • علاقة الناس بخطاب السيد.
    كرنفال في البيوت والأحياء.. هكذا يتهيّأ اللبنانيون لخطاب السيد نصر الله

ربما يتخيل القارئ أنّ مبالغة واقعة في هذه الجملة، غير أن المتمشي في عصر يوم خطاب من خطابات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله لو مرَّ بأزقّة بلدةٍ من بلدات الجنوب أو زقاق من أزقة الضاحية أو غيرهما من الشوارع والمناطق، لاستطاع صياغة نصٍّ أدبي عن تعلُّقِ شعبٍ بخطاب قائده، حيث المحال مقفلة والشوارع فارغة، وشاشات التلفزة موحدة إلا في اختلاف درجة الصوت، عالياً أو خافتاً، الأمر سيّان، السيّد حاضر هنا. هذا ينفعل مع انفعالات السيد، وهذا يحلّل، وهذا يهتف، وهذا يترقب، وهذا ينتظر، وهذا يصرخ بالأولاد كي يلعبوا بعيداً، وذاك لا يرد على الهاتف، ما يشبه الكرنفال الشعبي غير المنظم الذي تعيد فيه الناس جمع خواطرها المكسورة في زمن الحرب والمجازر لتضيف لوناً زاهياً على قتامة المشهد.

يصح القول إن جذوة آسرة من لطفٍ بياني ونبرة صوت عميقة وإتقانٍ عربي للغةٍ اختلطت فيها العامية بالفصحى والرسمية بالشعبية والفخامة بالبساطة قد أخذت القلوب في ترحالٍ سياسي المظهر إنساني الجوهر، في حين آيست فيها الشعوب أو كادت تصدق أنَّ الذين يعتلون المنابر "يقولون ولا يفعلون". وإذا بخطابات متقنة المعاني، سلسة التعابير، منمقة الأسلوب، وواضحة المطالب، تنسكب على القلوب انسكاباً، وتصبّ في المسامع صباً، رصينة، متماسكة، صادقة، ودقيقة، تشبه الخلطة السحرية في كيمياء التجمعات وسيكولوجية  الجماهير.

لم يعد غريباً أن نرى محال تُقفل، وموظفين يستأذنون باكراً، وشوارع خالية من السيارات، تزامناً مع خطاب للسيد حسن نصر الله؛ الخطاب الذي يفهمه المواطن العادي صاحب الثقافة المتواضعة، وفي الوقت نفسه المتمرس الضليع صاحب اللغة والمخضرم والسياسي والمحلل الاستراتيجي والمتجه شرقاً والمولي وجهه غرباً. ليس ما يجمع الناس في لبنان في وقت واحد كما يجمعهم خطاب السيد نصر الله، إذ لم يعد الخطاب مناسبة للصحافيين والمترجمين والمحللين للوقوف على مضامينه وقراءة ما بين السطور. لقد تحولت إطلالة السيد نصر الله إلى حالة اجتماعية يبنى عليها في المجتمع اللبناني والجنوبي والمقاوم على وجه الخصوص .

"السيد رح يحكي اليوم؟"، "أي ساعة السيد؟"، "سمعت السيد؟"، تساؤلات أصبحت في صلب الأدب الاجتماعي اللبناني العام والبيئة المقاومة بشكل خاص.

علاقة الناس بخطاب السيد

تحب الناس شخصية السيد نصر الله؛ الناس العاديون على اختلاف مساحات انشغالاتهم وأعمارهم تلبي فيهم هذه الخطابات وصالاً روحياً سامياً وتعانق تلك الحاجة البشرية لقائد أعلى يعالج قضايا الشعب من دون الالتفات إلى الأنا والذات، ومن دون اشتباك النيات واختلاط المصالح.

الشعب من دون تمييز يعتبر نفسه معنياً بالاستماع إلى الخطاب، إن كان يحبّ السيد أم لا. وعلى الرغم من إمكانية إعادته لاحقاً أو حتى قراءة مقتطفاتٍ منه، فإنّ جمهور المقاومة يريدون السيد في وقته، لا قضاءً ولا عمّا في الذمة؛ يريدون التقاط اللحظة، والشعور بأنها جزء من مشروع أكبر وهدفٍ أسمى، فيتجمهروا ليشعروا بحضوره بروح بعضهم بعضاً، ولو لم تجمعهم ساحة واحدة.

وتعبر هذه الخطابات الحدود الطبقية والعلمية والاجتماعية، فكما تُسارع ربة المنزل إلى طبختها وحبال غسيلها وأغراض منزلها قبل موعد الخطاب، كذلك يفعل المثقفون أصحاب الأقلام ورجال الأعمال والدبلوماسيون والسفراء والقادة الأمنيون وشركات الطيران والأستاذ والتلميذ والشيخ والصبي ومختار الحي والباعة المتجولون والمحللون السياسيون وأصحاب القنوات التلفزيونية والإخبارية والأطباء والمرضى، كلُّ بوسيلته، وعبر ما يناسبه، سواء الهاتف المحمول أو راديو السيارة أو شاشة التلفاز أو قنوات التواصل الاجتماعي أو حتى المقاطع المصورة أو المسموعة التي يرسلها الناس بعضهم إلى بعض.

فصل الخطاب 

ربما أكثر كلمة يقولها الناس عن السيد: "الله يطول بعمر السيد"، فالناس يسكنها خوف دائم على حياته. لهذا، إن جزءاً من انتظارهم خطاباته هو للاطمئان على حياته وصحته. هي لحظة تنفس الصعداء تلك التي يطل فيها على الشاشة. الكثيرون يلهجون بالذكر، وآخرون يدعون له الله أن يوفقه في تناول المواضيع الحساسة بكل حكمة، والبعض يفرك يديه قلِقاً لمعرفة كيف سيعبر السيد حقل الألغام، لكن في نهاية المطاف يصل  الجميع إلى خلاصة واحدة، مفادها أن الله استجاب دعوات الناس، وأن فصلاً جديداً بدأ للتو؛ فصلاً جديداً من فصل الخطاب.