غزة و"منطق الجحيم" الإسرائيلي: الفلسطيني الجيّد ليس ميتاً

الغزيون لم يدخلوا قلب "إسرائيل" الجغرافي من قبل إلا كعمال، إلا أنهم دخلوا إلى عقلها ووعيها في السابع من أكتوبر بشكل لم يتوقعه الإسرائيليون.

0:00
  • غزة واختراق عجرفة الخيال: الفلسطيني الجيّد ليس ميتاً
    غزة واختراق عجرفة الخيال: الفلسطيني الجيّد ليس ميتاً

حين يبتسم المخيَّم تعبسُ المدن الكبيرة - محمود درويش

الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت - رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن

***

في تحليله لغزة كمكان وصورة مُتخيّلة في الحيز الإسرائيلي، يتوقف عموري بن يهودا عند حادثة عاشها بنفسه في "إسرائيل" عام 2015. يقول عموري: "كنت أسير نحو السوبرماركت لشراء الحاجيات، ورأيت مجموعة من الشبيبة – الذكور والإناث – يركضون باكين في شارع كيرن هَيسود، وهم في طريقهم عائدين من مسيرة الفخر التي مرت من هناك. واتضح أن حادثة طعن وقعت هناك قُتلت فيها إحدى المشاركات، وهي شيرا بنكي (16 عاماً). في الغداة، استيقظت على خبر جديد: مقتل عائلة كاملة في قرية دوما الفلسطينية بعدما احترق أفرادها في بيتهم حتى الموت". المفارقة أنه، وعندما أخبر رفيقه الألماني بالأمر، ذُهل من رد فعله بعدما قال: "يا للفظاعة والحزن، لماذا لا يقومون ببساطة بإرسال كل هؤلاء المتطرفين إلى غزة، ومواصلة العيش بهدوء؟".[1]

في واقع الأمر، قليلة هي الدراسات التي تناولت غزة كشخصية ثقافية في الخيال الجماهيري الإسرائيلي. وغير نص عميرة هَس "شرب البحر في غزة: أيام وليالٍ في أرض تحت الحصار" (1996)، لم ترد غزة في أدبيات الإسرائيليين إلا من باب الجحيم الممتثل أرضاً وجغرافيا.

يتنبه عموري بن يهودا إلى الأمر في ثنايا المقولة العبرية التي يرددها الإسرائيليون: "لِخ لِعازه" (اذهب إلى غزة)، المرادفة لعبارة "اذهب إلى الجحيم" في العربية. غزة هي الجحيم الممتثل أرضاً وشعباً في خطاب الهيمنة الكولونيالي، وفي منطق السيطرة الإسرائيلية.

لقد كانت غزة مركزاً للمقاومة الفلسطينية منذ عام 1948، وكانت منطلق الانتفاضة الأولى ومكان إقامة رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات من قبل. باختصار، كانت غزة بمنزلة الهيتروتوبيا (hetrotopia) الإسرائيلية [2]، ثم كانت، باستعارة من أرئيلا أزولاي، "موقع اعتقال – consentration place" تتجسد فيها وضعية الطوارئ التي لا يكاد الإسرائيلي يراها إلا في وضعيات التطرف الاستثنائية. غزة تمثل المعسكر والخيمة؛ قرِينَي السياسة الدولية في عالم اليوم.

جغرافيا لا يريد الإسرائيلي رؤيتها

لم تكن غزة في خيال الجيش الإسرائيلي غير "معبروت" معاكس[3]. أدبيات الجنود المشاركين في حرب 1956 (العدوان الثلاثي) كلها كانت وثيقة الارتباط بهذا المفهوم. إنها جغرافيا انتشار مخيمات استيعاب الآخر ليس إلا. وبالرغم من دخول غزة ضمن اقتصاد مدن التطوير من خلال نقل عدد من معامل الصناعات النسيجية والخرسانية إليها فترة السبعينيات، فإنها لم تَؤُل يوماً لتكون "مفكراً فيه" إسرائيلياً. في فيلمه "إغلاق" (2002)، يقدم المخرج الإسرائيلي رام ليفي حالة القطاع من خلال بطل الفيلم محمد سلطان الذي قُطعت رجلاه بسبب عدم قدرة والديه على إيصاله إلى مستشفيات "إسرائيل".

كان محمد يركض بطيارته الورقية عندما أطلق عليه جنود إسرائيليون النار خلال الانتفاضة الثانية. المفارقة أن مفهوم الطائرة الورقية كان حاضراً خلال عملية "أمطار الصيف" (2006)، التي شنتها "إسرائيل" على قطاع غزة بعد تنفيذها خطة فك الارتباط مباشرة، فقد حدث أن استيقظ مستوطنو سديروت مرة على أمطار من نوع مختلف. كانت المنشورات الدعائية باللغة العربية التي نزلت إليهم من السماء تحذر بلغة شديدة اللهجة سكان القطاع من المكوث بجوار "الإرهابيين". وبدلاً من أن تنزل المنشورات على الأحياء الشمالية لقطاع غزة، حملتها الريح إلى سديروت. وفي تبريرها للمستوطنين، سمّت الحكومة آنذاك هذا الفعل "إرهاب الطائرات الورقية". وكان المستوطنون يقرؤون النص بفرح لما في فكرة الطائرات الورقية من نوستالجيا طفولية. محمد سلطان وطائرته الورقية كانت مادة مرآوية معكوسة لدى الإسرائيليين. هم يرونه ولا يرونه في الآن نفسه. و"الطائرة الورقية" واحدة من التركيبات/ الاستعارات اللغوية التي تلجأ إليها "إسرائيل" لحجب رؤية مجتمعها عن معاناة الفلسطينيين.

 7 أكتوبر: اقتحام غزة للوعي الإسرائيلي

يعد فيلم حاييم بوزاغلو "زواج زائف" (1988) واحداً من أكثر الأفلام "الكيتونية" (نسبة إلى مبتكر السينما الصامتة "باستر كيتون - Buster Keaton") دلالة في "إسرائيل". الفيلم الذي يعرض قصة مدرس مقدسي يهودي يذهب رحلة إلى "تل أبيب"، ومنها إلى غزة، يعرض الجسد الفلسطيني في تمثلاته المخيالية الإسرائيلية.

في الفيلم، لا يمر الفلسطيني إلا كعامل جاثم على ركبتيه. إلداد (بطل الفيلم) الصامت الذي يجوب غزة كشاهد عليها، يعود في نهاية الفيلم إلى أسرته. تركز الكاميرا على بيته العربي (المسلوب حتماً)، وعلى طفله الجاثي على ركبتيه مثل العمال الفلسطينيين في غزة. طرح فيلم بوزاغلو الكثير من الأسئلة من خلال تصويره الوحدة الاستيطانية "للبطل اليهودي" في القدس:

ما معنى أن يجثو ابنه على ركبتيه لاعباً مثلما يجثو العمال الفلسطينيون؟ هل يعاني اليهودي في "إسرائيل" المظالم نفسها التي يعانيها الفلسطيني بالمحصلة؟ أم هل يأتي يوماً يجثو فيه هذا الطفل على ركبتيه مثل العمال الفلسطينيين بعدما يتناوب الفلسطينيون والإسرائيليون الأدوار؟ لم يُحسم الأمر في "إسرائيل"، لكن الأكيد أن مشاهد الجنود الإسرائيليين الجاثين على ركبهم في السابع من تشرين 2023، كان فيها الإجابة والكثير من الدلالات. لقد جثا الرجل الإسرائيلي على ركبتيه عندما دخل رجال غزة وفتيتها إلى قلب "إسرائيل".

المسألة ليست مسألة عسكرية فحسب؛ للأمر الكثير من الأثر في الوعي الإسرائيلي. الغزيون لم يدخلوا قلب "إسرائيل" الجغرافي من قبل إلا كعمال، إلا أنهم دخلوا إلى عقلها ووعيها في السابع من أكتوبر بشكل لم يتوقعه الإسرائيليون. هذا ما لا تريد "تل أبيب" رؤيته، وهذا بعض مما يفسر سلوك نتنياهو في الحرب. لا يريد نتنياهو إخراج غزة من الهيتروتوبيا الإسرائيلية. يصر الرجل على التعاطي مع غزة باعتبارها سجناً لـ"أمة من الإرهابيين". ومن أجل الحفاظ على وعي الإسرائيليين هذا، لن يألو الرجل جهداً في إعادة إنتاج قواعد الحرب وغاياتها من جديد، ولو كلفه الأمر حرباً إقليمية كبرى. 

***
 
[1] https://www.madarcenter.org/index.php?preview=1&option=com_dropfiles&format=&task=frontfile.download&catid=2152&id=2003&Itemid=1000000000000

[2]  الهيتروتوبيا مفهوم كوفوي (نسبة إلى ميشال فوكو) لوصف الأماكن والمساحات التي تعمل بمعزل عن نظم الهيمنة أو بضغط منها. إنها فضاءات اللاهنا واللاهناك، وهي فضاءات مادية وعقلية وخطابية في الوقت نفسه. استعار فوكو الهيتروتوبيا من علم الطب ليعارض به اليوتوبيا التقليدية، فإذا كانت اليوتوبيا محض تصور في ذهن المثاليين، فإن الهيتروتوبيا تشير إلى ما هو موجود بالفعل، كالمدارس والجامعات والسجون والمستشفيات ودور الرعاية الصحية، وكلها أماكن وجغرافيات تتواكب مع المراحل التي تمر بها الحياة الإنسانية، وتخضع لخطابات قانونية وسياسية وثقافية مكثفة، بغية ممارسة الإكراه والإخضاع لها.

[3]  المعبروت هي مخيمات استيعاب المهاجرين اليهود في السنوات الأولى لتأسيس الكيان.