صدمة العودة.. لا منازل تؤوي السودانيين في ولاية "الجزيرة"

برغم الدمار الذي لحق بولاية الجزيرة وعاصمتها مدينة ود مدني، يستمر النازحون في العودة طواعية من ولايات البلاد الشرقية، وهم يهربون من واقع قاس في الملاجئ ظلوا يعايشونه لأكثر من عام، إلى وضع ربما يكون أشد قسوة في بلداتهم.

0:00
  • صدمة العودة.. لا منازل تؤوي السودانيين منازلهم في
    صدمة العودة.. لا منازل تؤوي السودانيين منازلهم في "الجزيرة"

حزم يوسف إبراهيم أغراضه من مخيم للنازحين في مدينة القضارف شرقي السودان، وغادر إلى مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة وسط البلاد، وهو ممتلئ ببهجة غامرة لكونه سيعانق منزله مجدداً بعدما هجره قسراً لفترة تجاوزت العام، لكن لم يدر بمخيلته أن صدمة كبيرة في انتظاره، من جراء ما لحق ببيته خلال فترة الحرب. 

تغير كل شيء، حتى ملامح المكان، فوجد يوسف منزله خالياً من كل محتوياته بما في ذلك الأبواب والنوافذ، وآثار اللهب تكسو الجدران، فتحوّل لونها إلى سواد داكن يوازي ظلام واقعه الجديد، فتبددت فرحة العودة إلى الديار، ودخل في موجة حزن على ما وصل إليه حال البيت، وفقدان كامل حصاد عمره، وفق ما يرويه إلى الميادين نت

ومع حالة اليأس بدأ يُنقّب في منزله الخاوي لعله يجد بعضاً من مقتنياته الثمينة التي تركها خلفه قبل عام مضى، أو حتى ذكريات مثل الصور والشهادات العلمية والتقديرية والأوراق الثبوتية، لتخفف آلامه، فلم يعثر على أي شيء، وبعدها لم يكن أمامه خيار غير بحث سبل حياة جديدة تحت أنقاض الحرب التي دمرت كل شيء في بلدته.

يروي يوسف إبراهيم واقع آلاف النازحين العائدين إلى منازلهم في ولاية الجزيرة الواقعة في وسط السودان، بعد تمكن الجيش السوداني والفصائل المسلحة المساندة له من استعادة السيطرة عليها، وطرد قوات الدعم السريع التي كانت قد استولت عليها في كانون الأول/ديسمبر من العام 2023، ووجد هؤلاء السكان مدنهم طالها دمار كبير بما في ذلك البنى التحية للمرافق الخدمية، مما أدى إلى انعدام كل في سبل الحياة.

وبرغم الدمار الذي لحق بولاية الجزيرة وعاصمتها مدينة ود مدني، يستمر النازحون في العودة طواعية من ولايات البلاد الشرقية، وهم يهربون من واقع قاس في الملاجئ ظلوا يعايشونه لأكثر من عام، إلى وضع ربما يكون أشد قسوة في بلداتهم الأصلية التي تفتقد حتى الآن لسبل الحياة، في ظل غياب الكهرباء والرعاية الطبية الأساسية ووسائل المواصلات.

عودة إلى الصفر

وبعد اجتياح قوات الدعم السريع لولاية الجزيرة في العام الماضي، نزح أكثر من نصف مليون شخص من منازلهم، إلى المناطق الآمنة في شرق وشمال السودان وفق حصيلة الأمم المتحدة، وبعد أسابيع قليلة من استعادة الجيش السيطرة على المنطقة، عاد ما لا يقل عن 10 آلاف نازح إلى ديارهم، بحسب تقديرات غير رسمية.

ومن بين العائدين مبكراً يوسف إبراهيم، الذي لم يجد أسِرّة للنوم عليها، ويفتقد حتى الأواني للطبخ عليها والأكل فيها، وتلك التي تستخدم لجلب وتخزين المياه للشرب والأغراض الأخرى، بينما يعيش وكأنه في العراء نتيجة لنهب أقفال الأبواب والنوافذ، وإحداث دمار جزئي للسور الخارجي لمنزله، في واقع قاس يروي تفاصيله المحزنة إلى الميادين نت.

ويقول: "أشعر بأسى شديد، وأنا أبدأ حياتي من الصفر، فقدت نهب مسلحي قوات الدعم السريع كل حصاد وشقى عمري، لقد كان منزلي غنياً بالممتلكات والأثاث الفاخرة، والآن كل أملي إيجاد أسِرة ننام عليها مع أولادي، إنها خسارة كبيرة، لكني قادر على النهوض مجدداً وإعادة تعمير بيتي مثلما فعلت في السابق".

ويضيف: "برغم حزني على كل ما فقدته، لكنّي سعيد بالعودة إلى منزلي، وتوقف الحرب في منطقتي. أشعر بالأمان والطمأنينة حالياً وأنا داخل بيتي، رغم خلوه من كل شيء تقريبا، أطفالي يشعرون بسعادة وحرية كبيرة، بعد أن كانوا مقيدين داخل مركز إيواء النازحين الذي يشهد نقصاً في الطعام ومياه الشرب والرعاية الطبية، سوف ننهض ونحن أغنياء بأهلنا وجيراننا، ومجتمعنا الذي عشنا وسطه عشرات السنين".

مشاعر مشتركة

ويشاركه في هذه المشاعر كمال آدم الذي عاد إلى منزله في مدينة ود مدني هذا الأسبوع، بعد رحلة نزوح صعبة استمرت لأكثر من عام كذلك، ولم يجد غير الجدران في منزله بعد أن نهب المسلحون كل محتوياته بما في ذلك أسِرّة النوم وأواني الطبخ، ومع ذلك فهو سعيد بمعانقة بيته من جديد، فرائحة التربة وحدها قادرة على تخفيف آلامه، حسب وصفه.

ويروي آدم إلى الميادين نت، أنه عاش أسوأ وأصعب أيام حياته في مركز إيواء النازحين في ولاية كسلا شرقي السودان، بعد أن اضطرته الحرب قبل عام الهروب إلى هناك، "فمهما كان الوضع الذي وجدته في ود مدني عقب عودتي إليها سيئاً، فلم يكن أقسى وأسوأ من واقع النزوح، لذلك سنتعايش مع هذا الحال المؤقت".

ووجد هذا المواطن سيارته التي أفنى جل سنوات عمره للحصول عليها، مفككة وأجزاؤها متناثرة في محيط منزله، حيث استخدمها المسلحون كقطع غيار لسياراتهم الأخرى بعدما فشلوا في تشغيل محركها، فلم تعد تصلح حتى للبيع في محلات "الخرد"، مما زاد الحزن والأسى في نفسه، كما يقول.

ولم تتوقف محنة النازحين إلى ولاية الجزيرة عند فقدان ممتلكاتهم المنزلية، لكن موجة التدمير طالت البنى التحية للمرافق الخدمات الأساسية، مثل محطات الطاقة الكهربائية ومياه الشرب، والمستشفيات والمراكز الطبية، بالإضافة إلى الأسواق والمراكز التجارية، وهو ما أدى إلى شلل تام في هذه الخدمات الحياتية الهامة، وسط مساعي حثيثة من السلطات الحكومية لإعادتها.

ويقول الطيب عبد الرحيم وهو نازح عاد إلى منزله في مدينة ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة، إن المدينة شهدت دماراً هائلاً، فما يزال التيار الكهربائي منقطعاً، وعاد الإمداد المائي بشكل جزئي في المنطقة، كما توجد أزمة في وسائل الحركة والمواصلات الداخلية، لكن المواطنين والسلطات الحكومية يعملون بجهد بهدف إعادة الحياة إلى سابق عهدها.

مصاعب كبيرة

ويضيف عبد الرحيم الذي تحدث مع الميادين نت: "عشت صدمة كبيرة عندما شاهدت منزلي وهو خال من كل محتوياته التي تركتها، بما في ذلك ملابسنا الشخصية التي تركناها خلفنا بعدما نزحنا العام الماضي، وقتها لم نتمكن من حمل شيء بسبب الهجمات العشوائية والاستهداف الذي قام به مسلحو قوات الدعم السريع".

وتابع: "عشنا عاماً من المآسي، والآن نواجه مصاعب كبيرة في التكيف مع حياة جديدة في منزلي الذي لم يعد كما هو في السابق، وكذلك مدينتي تدمرت وغابت معالمها الرائعة، فطوال التاريخ كانت تسمى ود مدني الجمال، لكن الأمل ما زال موجوداً في أن تعود إلى سيرتها الأولى، ويتبدل حزننا الحالي، بالفرح والفرج قريباً".

وبدأت الحياة تعود تدريجياً إلى الأسواق الرئيسية في مدينة ود مدني، برغم الدمار الذي لحق بالمحال التجارية، بينما وصلت شاحنات البضائع والسلع بكميات كبيرة، مما أسهم في خلق وفرة في المواد التموينية وانخفاض الأسعار إلى أقل من المناطق الآمنة الأخرى في شرق السودان، وذلك بحسب ما أفاد به رئيس اتحاد أصحاب العمل في ولاية الجزيرة محمد المشرف الميادين نت.

ويقول: "تم فتح أسواق جديدة داخل الأحياء السكنية في مدينة ود مدني لتلبية الاحتياجات الطارئة للمواطنين، كما عاد التجار بشكل جماعي، وشرعوا في إعادة تأهيل محالهم التجارية في الأسواق الرئيسية، رغم الحجم الكبير في الخسائر، والتي تبلغ نحو 500 مليون دولار في الأسواق والمراكز التجارية، بينما تصل الخسائر في كل القطاعات في ولاية الجزيرة نحو 3 إلى 4 مليارات دولار أمريكي حسب تقديري".

ويشير المسؤول إلى أن الأزمة التي تواجه سكان ود مدني العائدين في التنقل هي بسبب نهب كل المركبات التي كانت في قطاع المواصلات في المدينة، والتي تقدر بنحو 60 ألف تكتوك، و15 ألف عربة أمجاد، و3 آلاف حافلة كبيرة، لكن سيعود القطاع بقوة قريباً، كما تقرر إعادة تشغيل عدد 12 محطة خدمة بترولية، وسوف تعود الحياة إلى ولاية الجزيرة بعد المآسي التي عاشها سكانها.