المقايضة وسيلة لقهر الفقر والجوع في شمال غزة

قطاع غزة يعاني حالة اقتصادية مزرية، بعد إطالة زمن الحرب، وفقدان الكثيرين وظائفهم، واشتداد وطأة الجوع التي تعانيها منطقة شمالي القطاع، فأصبح سكانه يبحثون عن أساليب بديلة من دفع النقود التي لا يملكونها.

0:00
  • سكان قطاع غزة يبحثون عن أساليب بديلة من دفع النقود التي لا يملكونها.
    سكان قطاع غزة يبحثون عن أساليب بديلة من دفع النقود التي لا يملكونها.

لم تكن السيدة اعتدال مطر تعلم، وهي تُعِدّ وجبة الغداء، بأن ما لديها من ثوم مجفف نفذ فعلاً، لأنه لم يعد متوافراً في السوق من أجل شراء القليل منه. خطرت في بالها فكرة العودة بالزمن إلى الوراء كثيراً، حين كانت تعاملات الناس تتم بمقايضة أي سلعة في مقابل أـخرى، لتقترح على جارتها وتوافق بالفعل.

توضح السيدة الخمسينية "للميادين نت": منذ أيام، انخفض سعر الملوخية إلى ما يقارب دولارين ونصف دولار للكيلو الواحد، فطلب إليّ أحد أبنائي إعدادها بدلاً من الأطعمة المعلبة التي أتلفت أمعاءنا منذ نحو 10 أشهر. فانصعت لأمره، وأعددتها من دون لحم أو دجاج، لكني اصطدمت بنفاد الثوم المجفف البديل من الطازج، فسألت نفسي: لماذا لا أقايض الجارة بشيء تحتاج إليه فعلاً، وأنهي المشكلة؟

تقول السيدة اعتدال إن بيوت غزة قبل الحرب كانت جميعها بيوت كرم وعز، لكن اليوم، بسبب ضيق الحال، تخشى طلب شيء من دون مقابل له. وكانت الجارة عبّرت عن معاناتها نفاد الحطب، فقايضت معها الثوم في مقابل الحطب. فتحققت حاجة كلتيهما بناءً على اتفاق مُرضٍ بين الطرفين.

لكن اللافت في الأمر أن السيدة اعتدال لم تكن الحالة الوحيدة التي تعاملت بتلك الطريقة. يروي محمد دياب: " كنت حصلت على حصة غذائية، وذهبت كي أستلمها، لكن المسافة بين البيت ومقر التسليم كبيرة، ولا يمكنني المشي تحت حرارة آب اللهاب من دون وسيلة نقل ولو كانت دابة"، لافتاً إلى أنه لم يكن يمتلك في جيوبه أي نقود، لكنه كان يأمل أن ينقذه الله عبر فكرة ما.

وفعلاً، لمعت في ذهن محمد تلك الفكرة: "لماذا لا أستغني عن شيء ما من تلك الحصة الغذائية في مقابل إيصالي"، فتوقفت عربة يجرها حمار بعد 10 دقائق من الانتظار أو ربما أكثر. كان قد جهل تحديد المدة بسبب الحر الشديد وندرة وجود وسائل النقل في مدينة الحرب بسبب نفاد الوقود، عارضاً على السائس أن يعطيه كيساً من الطحين في مقابل إيصاله إلى منزله الكائن على بعد عدة كيلومترات.

أكمل محمد حديثه إلى "الميادين نت"، وصوت ضحكته بدا مجلجلاً في الأرجاء. وما جعله يبدي ردة الفعل تلك أنه لم يكن يتوقع على الإطلاق أن حيلته ستفيده، لتنفض عن كاهله ذلك العناء الذي كان سيكسوه مع المشي على قدميه مدة نصف ساعة أخرى، حاملاً على كتفه ما وزنه 50 كيلوغراماً، وربما أكثر.

وفي قصة أخرى كانت المقايضة على كيس من الثلج. ربما يٌعَدّ ذلك الأمر تافهاً، لكن مع انقطاع الكهرباء بصورة تامة، منذ عشرة أشهر، عن شمالي القطاع، أصبح شرب المياه البارد حلماً لكثيرين من المواطنين. فمن يمتلك ألواح طاقة شمسية لم يُعدمها الاحتلال بنيرانه وحده يمكن له شربها لتكون عوناً له في تلك الأجواء.   

تتحدث مرام الشاعر: "تمتلك جارتي عدداً من ألواح الطاقة على سطح منزلها، كانت نجت من عدة اجتياحات برية للمنطقة، الأمر الذي مكّنها من تشغيل الثلاجة، فكنت أطلب منها بعض الماء البارد للأطفال في مقابل إعداد بعض الفطائر الشهية لها عبر مكوّنات بسيطة تمنحها لنا الحرب على استحياء".

 تضيف مرام أنها لا تدري إن كانت الجارة تحتاج إلى تلك الفطائر أم تأخذها منها كي لا تُشعرها بالإحراج، لكنها تحاول في كل مرة تنويع ما تقايض من أجله. فمرة تكون فطائر وأخرى تكون حلويات، وربما يفي طبق المفتول بالغرض، لتشاهد على وجه أطفالها الصغار تلك الفرحة التي تعم المنزل، عندما يتناول كل منهم كوب الماء الخاص به ويهمّ بشربه.

من الجدير ذكره أن قطاع غزة بات يعاني حالة اقتصادية مزرية بعد إطالة زمن الحرب وفقدان الكثيرين وظائفهم وحِرَفهم في ظل الدمار الشامل، الذي مسح كل شيء، واشتداد وطأة الجوع التي تعانيها منطقة شمال القطاع، فأصبح سكانه يبحثون عن أساليب بديلة من دفع النقود التي لا يملكونها، لتكون عوناً لهم في التغلب على شظف تلك الحياة القاسية، في محاولة للعيش إن أخطأتهم الغارات الإسرائيلية الهوجاء.  

ودفعت الحاجة الشاب وائل قاسم إلى العمل ضمن نظام المقايضة. وقال إنه طلب منه شخص حراسة محله التجاري طوال الليل في مقابل سلة غذائية يمنحه إياها ليعود إلى عائلته في كل يوم بما يسد رمق أطفاله من الجوع، لافتاً إلى أنه على الرغم من خطورة هذا العمل فإنه لا يملك حلاً آخر إلى أن تتوقف رحى تلك المجزرة الفظيعة.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.