الحروب تُعمّق الشرخ في "إسرائيل".. مجتمع متصدع ومتعارض
تقف "إسرائيل" اليوم على مفترق طرق حاسم. تصاعد التصدّعات السياسية، الاجتماعية، والدينية يعكس أزمة وجودية تهدد استقرارها ومستقبلها.
وسط المشهد الدموي الذي صنعته حكومة بنيامين نتنياهو خلال العام الماضي، والذي شهد تكتل شريحة كبيرة من الإسرائيليين خلف سياساته الدموية ضد الفلسطينيين في غزة ولبنان، يبرز مشهد آخر أكثر قتامة، وهو تصدعات المجتمع الإسرائيلي على مستوى غير مسبوق. هذه التصدعات لم تعد مجرد أزمات سياسية عابرة، بل تعكس خللاً جوهرياً في العقد الاجتماعي الذي تأسست عليه "إسرائيل"، ما يهدد بتفكيكها من الداخل.
انقسامات سياسية ودينية عميقة
تشهد "إسرائيل" اليوم تصدعات بنيوية تضعف تماسكها ككيان سياسي. في قلب هذه التصدعات، تقبع الخلافات بين مكونات التحالف الحكومي بقيادة اليمين الصهيوني وحلفائه من الأحزاب الدينية. الصراع الأبرز يتمثل في محاولات نتنياهو تقويض استقلال القضاء لتعزيز قبضته على السلطة، وهو ما قوبل بمعارضة واسعة من قبل مؤسسات الكيان السياسية والأمنية والعسكرية. هذه الخطوات ليست مجرد خلافات سياسية، بل هي مؤشر على أزمة أعمق، تهدد العقد الاجتماعي الذي يقوم على توازن هش بين القوى المختلفة داخل المجتمع الإسرائيلي.
من أبرز مظاهر هذه الأزمة هو التوتر بين الحكومة والمجتمع الحريدي. يتحدى الحريديم الخدمة العسكرية استناداً إلى اعتقادهم بأن دراستهم الدينية تمثل خدمة قومية، ما يعمق التناقض بين متطلبات "الدولة" الحديثة ومتطلبات الهوية الدينية. قرار المحكمة العليا بإلغاء إعفائهم من الخدمة العسكرية لم يكن كافياً لحل هذا التوتر، بل زاد من تأزيم العلاقة بين الحكومة وحلفائها الدينيين، وهو ما يعكس تناقضاً بنيوياً يهدد استقرار "إسرائيل" على المدى الطويل.
وتعيش "إسرائيل" اليوم في ظل مجتمع منقسم إلى درجة غير مسبوقة. التوترات بين المستوطنين المتشددين، الذين يعتبرون الفلسطينيين تهديداً وجودياً، وبين الليبراليين العلمانيين، الذين يرفضون سياسات نتنياهو وتحالفاته مع الأحزاب الدينية، تعمق الانقسام الاجتماعي. في المقابل، يعيش الفلسطينيون في أراضي 48 المحتلة تحت وطأة سياسات تمييزية تزيد من شعورهم بالاغتراب. هذه الانقسامات الاجتماعية تجعل "إسرائيل" أقرب إلى الانفجار الداخلي، حيث يهدد هذا الشرخ المتنامي بانهيار العقد الاجتماعي الذي يربط بين مكوناتها المختلفة.
عزلة "إسرائيل" المتزايدة
لم تقتصر التحديات على الداخل الإسرائيلي؛ فنتنياهو وجد نفسه في مواجهة المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرات توقيف بحقه وحق وزير دفاعه السابق يوآف غالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب. هذا التطور أضاف طبقة جديدة من التعقيد للأزمة الإسرائيلية، حيث انقسمت الآراء الداخلية بين دعم الحكومة واتهام المجتمع الدولي بالتحيز، وبين دعوات لإعادة تقييم السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. العزلة الدولية المتزايدة لـ"إسرائيل" تتجلى أيضاً في التباين بين الرواية الإسرائيلية الرسمية والرؤية الدولية للأحداث. بينما تقدم وسائل الإعلام الإسرائيلية روايات "البطولة العسكرية" المزعومة، يركز الإعلام الدولي على معاناة الفلسطينيين والدمار الذي خلفته الجرائم الإسرائيلية.
تقف "إسرائيل" اليوم على مفترق طرق حاسم. تصاعد التصدّعات السياسية، الاجتماعية، والدينية يعكس أزمة وجودية تهدد استقرارها ومستقبلها. إدارة هذه التحديات أصبحت ضرورة وجودية بالنسبة لـ"إسرائيل"، إلا أن استمرار السياسات القائمة على العنف والقمع يعمق من جراحها الداخلية والخارجية. هذه الانقسامات البنيوية قد تتحول إلى شرارات تهدد بانهيار الكيان على المدى الاستراتيجي، مما يجعل مستقبل "إسرائيل" أكثر ضبابية من أي وقت مضى.