"حرب ضد الدولة.. والله".. ما خلفيات رفض الحريديم تجنيدهم؟

إن استمرار الغضب والخطاب الرافض للتجنيد في "جيش" الاحتلال، في ظل قدرة المؤسسات الحريدية على الاستقلال عن تمويل الكيان التعليمي، يحظى بتأييد ودعم كبيرين لدى مجتمع المتدينين اليهود.

  • العلاقة المرتبكة بين الوجود والفناء: تجنيد الحريديم
    العلاقة المرتبكة بين الوجود والفناء: تجنيد الحريديم "حرب ضد الدولة.. والله"

خلال الأشهر الستّة الأولى من العام الحالي، كان الاحتلال يعيش أزمة متجددة، تُضاف إلى عملية السابع من أكتوبر، والاستنزاف المتعاظم في المواجهة مع المقاومة الإسلامية في لبنان شمالاً، وحصار القوات المسلحة اليمنية، وضربات المقاومة العراقية، وتصاعد العمل العسكري في الضفة الغربية، لتضاف إلى جعبة نكباته أزمة ضم اليهود المتدينين، "الحريديم"، رسمياً، إلى الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال. 

المتباين في هذه الأزمة عما سبقها عدة عوامل، تبدأ بكينونتها الداخلية، كونها من قلب الكيان وأساسه وتمس عصبه العلماني والمتدين، مروراً بعامل توقيتها المتدحرج بين الظهور التاريخي منذ عام 1998، والمستقبل المصيري لقدرتها على تجديد بنية الجيش والتحكم في ميزان القوى فيه، وصولاً إلى عامل حسمها، والذي يتخذ أبعاداً مفتوحة تتجاوز قدرة المجتمع الإسرائيلي على الجزم، ولاسيما أنها تتعلق بأكبر المجموعات اليهودية الاستيطانية، وأكثرها تناقضاً مع قرارات المستويات السياسية في "دولة" الكيان.

بغضّ النظر عن الطبيعة المرتبكة للمجتمع الإسرائيلي، منذ "إنشائه" على أنقاض فلسطين، والتي تضم مجموعات شديدة التنوع والتناقض، بين العلمانيين والحريديم، وتفرعاتهم من أشكناز وسفارديم، وما يرتبط بكل اتجاه من مجموعات أخرى تحكمها منطلقات متعددة، وما يظهر بين الفينة والأخرى من خلافات مفصلية بين هذه المكونات، إلا أن تجنيد الحريديم ظل دائماً مهدِّداً لقومية "الدولة"، ويهوديتها، وقانونها الأساس القائم على مبدأ المساواة، حتى في الخدمة العسكرية.

تمردٌ تحت السطح

في التاسع من تموز/يوليو، صادق وزير الأمن في حكومة الاحتلال، يوآف غالانت، على بدء المنظومة الأمنية إرسالَ أوامر الاستدعاء والتجنيد إلى المتدينين اليهود، بدءاً من آب/أغسطس، مبرراً ذلك بـ"الاحتياجات العملياتية"، وبوجود توافق معهم على زيادة عدد المنتسبين إلى الجيش بنسبة 5% سنوياً، من أجل الوصول إلى 50% خلال 5 أعوام.

لا تقتصر الاحتياجات العملياتية على إضافة مزيد من المجنّدين إلى جيش الاحتلال، بل تطال التكاليف الاقتصادية للتجنيد الإلزامي في مقابل استدعاء الاحتياط، والتي قدّرت أن تجنيد ألف حريدي سيوفر نحو 358 مليون دولار سنوياً من ميزانية وزارة الأمن، مقارنةً بتمديد الخدمة الاحتياطية، والتي تتجاوز تكاليفها 2.76 مليار دولار سنوياً.

وعلى رغم الوصول إلى توافقٍ ظاهري لحل أزمة تجنيد الحريديم، فإن مظاهر التعقيد بقيت شديدة الوضوح، فبينما تم إعداد قانون مستعجل، في القراءتين الثانية والثالثة، بشأن اتفاقٍ مع ائتلاف جماعات الحريديم، ينص على تجنيد 3 آلاف حريدي خلال عام، وزيادة تدريجية في هذا العدد، وفق متوسطٍ سنوي يقدَّر بـ 1800 مجند، فإن الواقع على الأرض عكس استحالة ذلك، وفقاً لثلاثة أصعدة. فعلى الصعيد العملياتي، وفي ظل التشتت العسكري الذي يعانيه الاحتلال في أكثر من جبهة، تبدو قدرة جهاز الإعداد والتجنيد الحالية أقل من استيعاب هذا العدد، وهو ما يحاصر آمال المنظومة الأمنية بشأن تجنيد كل الشبان الحريديم في سن التجنيد، والذين يقدَّر عددهم بأكثر من 60 ألفاً.

أما على الصعيد الديني، فإن استمرار الغضب والخطاب الرافض للتجنيد في الجيش، في ظل قدرة المؤسسات الحريدية على الاستقلال عن تمويل الكيان التعليمي، يحظى بتأييد ودعم كبيرين لدى مجتمع المتدينين[1]. فوفقاً لتصريحات "مجلس حكماء التوراة في إسرائيل"، عُدّت محاولات التجنيد "اضطهاداً متزايداً وخطوة فاضحة ضد حَمَلة التوراة"، داعياً أعضاء المجتمع الديني إلى عدم الرد على أي تجنيد أو أمر استدعاء، ولا حتى يالنسبة إلى الأمر الأول منه، انطلاقاُ من أن ما تقوم به المحكمة العليا والبيروقراطية إنما هو "حرب ضد الله، وسعي لفصل أهل التوراة عن تلمودهم"، وأن "الدولة"، التي تُجند طلبة مدارسها الدينية، "لا تستحق الوجود".

على الصعيد السياسي، ومع توسع سلطات الأحزاب الدينية وتمثيلها في الكنيست، خلال الأعوام السابقة، وقدرتها في الضغط والتأثير في شكل النظام السياسي، فإن جهود الأجهزة الحكومية الأخرى تتضاءل بشأن تحقيق أي اختراقٍ أو دفع لمجتمع الحريديم نحو الخضوع لأوامر التجنيد والتقيّد بها.

هذه الأصعدة الثلاثة يدركها ساسة الاحتلال، بصورة جيدة، وهو ما دفعهم إلى الانطلاق في خطة التجنيد في اتجاهين، أولهما الموازنة والثاني التهديد. فوفقاً لصحيفة "يسرائيل هيوم"، تدرك المنظومة الأمنية أن موازنة هدف تجنيد الحريديم خلال عام 2024 تقوم على تدرجه من خلال عدة مراحل في الخطوة الأولى، وثانياً إرسال عددٍ كبيرٍ من أوامر التجنيد من أجل الوصول إلى الهدف الأساسي، بحيث وجدت منظومة الاحتلال الأمنية أن تحقيق هدف تجنيد 3 آلاف حريدي قد يبدو معقولاً من خلال إرسال أوامر تجنيد إلى أكثر من 12 ألفاً منهم، مفترضةً أن ربع الفئة المستهدفة ستوافق على أوامر التجنيد.

أمّا على مستوى التهديد، فأكد جيش الاحتلال أن من يخالف أوامر الحضور والتجنيد سيحصل على سجل جنائي، وسيصدر بحقه أمر منع سفر ومغادرة، وهي خطوة استباقية لمواجهة تهديدات المجتمع المتدين بالهجرة من "إسرائيل"، رداً على أوامر التجنيد.

في عمق الحريديم

في نهاية عام 2023، أصبح عدد اليهود المتدينين في كيان الاحتلال مليوناً و335 ألفاً، ما نسبته 17.2% من "المجتمع" الإسرائيلي، بينما تبلغ نسبة الذكور في سن التجنيد لديهم مجو 12%، وتزداد هذه النسبة في ضوء الزيادة الطبيعية العالية في مجتمعهم، بحيث يتزوج 5 آلاف حريدي تقريباً سنوياً، وينجب كل زوج 7-9 أطفال، بمعدل ولادات سنوية تصل إلى 35 ألف ولادة، بينما تشكل فئة الشباب 60% من مجتمعهم. ونتيجةً لذلك، توقع خبراء الإحصاء والسكان أن تبلغ نسبة الحريديم من إجمالي المجتمع الإسرائيلي 25% بحلول عام 2040.

تكتسب هذه الأرقام أهمية متزايدة، بحيث تشير إلى زيادة مستقبلية في تمثيل الأحزاب الدينية في الحكومة على حساب الأحزاب الأخرى، كما أنها تعني تغيراً في بنية "الدولة" واتجاهها، من العلمانية نحو الدينية المتطرفة. وبالنظر إلى طبيعة "مجتمع" الحريديم وعمقه، فإن حجم الزيادة الطبيعية، وارتفاع نسبة فئة الأطفال والشبان فيه، والتزامه ثلاثَ سمات أساسية، هي الانعزال والتكاثر العائلي والاستعلاء على الآخرين – بمن فيهم اليهود من المجموعات الأخرى - ستمثل معضلةً تكوينية بدأت مظاهرها تزداد وضوحاً بعد الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة عام 2022.

وبينما يُفترض أن تشير أرقام التكاثر الاستيطاني و"المجتمع" الفتي إلى قوة اقتصادية متزايدة وضخ عسكري متجدد، إلا أن واقع "المجتمع" الحريدي يؤسس العكس من ذلك كله، انطلاقاً من رؤية "حكماء المجتمع الحريدي" إلى التعليم والعمل والجيش، بحيث ينحصر التعليم لديهم في التوراة وأحكامها، وترتفع سن التعليم حتى تصل إلى 40 عاماً، بحيث تُعلي قيم المجتمع المتدين من التعليم الديني، على حساب أي نشاطٍ آخر. ويقتصر التعليم على المواد الدينية التلمودية فقط.

نتيجةً لذلك، ترتفع نسب البطالة والفقر في المجتمع الحريدي، الذي يعيش معظمه على الضمان الاجتماعي والمنح التعليمية الدينية، بحيث وصلت نسبة البطالة، عام 2022، إلى 46.5%، وهو أمر يعني أن المكون العلماني - الذي سيتضاءل حجمه مستقبلاً - سيكون مسؤولاً عن إعالة المكون الحريدي، بمن فيه عائلاته الكبيرة ورجاله العاطلون من العمل، بحيث يُتوقع أن ينتج من ذلك خسارة نسبتها 13% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي، بينما ستضطر الحكومة إلى رفع الضرائب بنسبة 16%.

لا يقتصر العبء الحالي والعبء المستقبلي على عدم التساوي في توزيع الثروة والسلطات والضرائب بين المكونين العلماني والحريدي، بل يتطاول ليصل إلى عبء "الدفاع"، والذي تعبر عنه المنظومة الأمنية عبر ضرورة تجنيد الحريديم، وتحقيق المساواة بين أفراد جميع المكونات بشأن الانخراط العسكري من أجل "الدفاع" عن "دولتهم".

محاولة مرصودة بالفشل

بعد أيامٍ قليلة على السابع من أكتوبر، رصدت المنظومة الأمنية ارتفاعاً في عدد المتطوعين من مجتمع الحريديم في صفوف الجيش، بحيث تقدم أكثر من ألفين منهم بطلب الانضمام والمشاركة في الحرب على قطاع غزة، ما عُد تطوراً إيجابياً في العلاقة بين أطراف "المجتمع" الإسرائيلي وجيشه، ولاسيما بعد أعوام من النأي بالنفس والتناقص، حتى إن عام 2020 شهد أداء 1200 شاب حريدي فقط للخدمة العسكرية.

لكن هذا التطور كان آنياً وسريعاً، ولم يلبث أن تلاشى مع إطالة أمد الحرب، وجسامة الخسائر البشرية. وعاد الجيش إلى سياسته الأولى، في محاولة دفع المتدينين إلى التجنيد الإلزامي داخل صفوفه، بدءاً بمداولاته مع الأحزاب الدينية وتياراتها، "الليتائيم" و"الحسيديم" و"السفارديم" ، مروراً بإعادة ترويج وحدات خاصة منسجمة مع "المجتمع" الحريدي وخصائصه، مثل الكتيبة العسكرية "نيتسح يهودا"، التي تخلو من النساء، وبرنامج شاحار لليهود الحريديم المتزوجين. وتعتمد هذه الوحدات على منع الاختلاط، والطعام "الحلال"، وحرية أداء الطقوس الدينية، واحترام قدسية يوم السبت.

ومؤخراً، أعلنت المنظومة الأمنية دورة تدريبية خاصة بالحريديم تسبق الخدمة العسكرية، تنطلق في مضامينها من الأساس الأرثوذكسي الصارم للمجتمع الحريدي، كما ستتزامن مع إنشاء معهد لاهوتي، في محاولةٍ لدمج الحريديم بصورة أكثر سلاسة في الميدان العسكري.

حتى الآن، لا يبدو أن حظوظ الحكومة أو عسكرها كبيرة في تجنيد الحد الأدنى من الحريديم. وذكرت مصادر عبرية، منتصف آب/أغسطس المنصرم، أن 30 شاباً فقط، من أصل 600، أُرسلت إليهم أوامر التجنيد، حضروا إلى مكاتب الحكومة، بينما يتوقع أن هذا الرقم قابل للتضاؤل مع استئناف عددٍ منهم لأوامر التجنيد تحت حجج وأعذارٍ متعددة. وهو ربما ما يفسر قرار الحكومة الأخير تمديد تجنيد قوات الاحتياط لأكثر من عام. ونتيجةً لذلك، سيواصل أكثر من 350 ألف جندي من المكون العلماني أداء خدمتهم في جيش الاحتلال حتى نهاية عام 2024.


 
[1] بعد إعلان "دولة" الاحتلال، اعترف بن غوريون باستقلال جهاز التعليم التابع لـ"أغودات إسرائيل" (التيار الحريدي الأم)، وتنازل هذا التيار عن جزء من التمويل الحكومي من أجل المحافظة على استقلاليته، بحيث يتم تغطية النقص في الميزانية من تبرعات يهود الشتات، وخصوصاً الجالية اليهودية في نيويورك. وكان مناحيم بيغن عرض تمويلاً حكوميّاً كاملاً للمؤسسات التعليمية الخاصة بالحريديم، لكن الحاخام شاخ رفض ذلك بهدف تأكيد استقلاليتها.