"الحزام الإنجيلي" الأميركي: مهد المحافظين.. وموطن 30 مليوناً من الصهاينة المسيحييّن

يدعم المسيحيون الصهاينة بشكل غريب "إسرائيل" على أمل التعجيل بالمجيء الثاني للمسيح. ووفقاً للأكاديمي تريستان شتورم، فإن منطقة "الحزام المقدس" تُعدّ موطناً لأكبر عدد من الصهاينة المسيحيين في العالم - 30 مليون منهم.

  • "الحزام الإنجيلي" الأميركي: مهد المحافظين.. وموطن 30 مليوناً من الصهاينة المسيحييّن

من منّا لم يسمع بمصطلح "المحافظين" الذي لطالما كان مرادفاً ومكمّلاً لكلّ حديث أو خبر أو إشارة إلى الولايات المتحدة، بعدما اكتسب لاحقاً مع الزمن زخماً كبيراً نتيجة تأثير وقوة هذه الجماعة وتغلغلها الراسخ في المجتمع الأميركي، فضلاً عن نيل أفرادها مراكز مهمّة وحسّاسة في مختلف مؤسّسات الحكم، ومشاركتهم الفاعلة أيضاً في صنع سياساته الداخلية والخارجية، ومساهمتهم في هلاك الكثير من الأمم والشعوب. 

تعود نشأة هذه الجماعة المثيرة للجدل، إلى مسقط رأسها في ما يسمى "حزام الكتاب المقدس" الشهير، وهي منطقة يلعب فيها الدين (البروتستانتية الإنجيلية المسيحية) دوراً مهماً للغاية في السياسة والمجتمع والثقافة والحياة اليومية. وتعدّ الأكثر تديناً والأكثر محافظة في الولايات المتحدة، حيث تسود القيم والمعايير المسيحية التقليدية حرفياً، من الناحية النظرية والتطبيقية، في كل جوانب المجتمع الذي يعيشون فيه. وهذا بالتالي يتناقض بشكل صارخ مع منطقة نيو إنغلاند، المعروفة بمستوى الإلحاد المرتفع فيها، على غرار ولاية واشنطن على الساحل الغربي الأميركي.

ظهور مصطلح "حزام الكتاب المقدس" ونطاقه الجغرافي

في الحقيقة، تم صياغة مصطلح "حزام الكتاب المقدس" لأول مرة من قبل الصحافي والكاتب الأميركي الفكاهي الساخر إتش إل مينكين، الذي نشر مقالاً عام 1924 في صحيفة "شيكاغو ديلي تريبيون"، كان يعتزم فيه إلقاء ظلال من التخلف على تلك المناطق، التي يسكنها المسيحيون المحافظون المؤمنون بالكتاب المقدس، حيث ساواهم مع البسطاء الجهلة المتخلفين. وبعد ثلاث سنوات،ادعى مينكين أن هذا المصطلح من اختراعه الخاص، وبدأ استخدامه بانتظام من قبل وسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية الأميركية.

تقع منطقة الحزام في الجنوب الأميركي تحديداً، حيث أعلنت مجلة "Saturday Evening Post" في العام 1948 أن مدينة أوكلاهوما سيتي، هي عاصمة حزام الإنجيل. وفي دراسة أُجريت عام 1961، حددّ الجغرافي الثقافي ويلبر زلينسكي المنطقة بالرقعة التي تهيمن فيها الطوائف البروتستانتية (خصوصاً المعمدانيين الجنوبيين، والميثوديين، والإنجيليين) على المجتمعات المسيحية. 

وفي عام 1978، وصف الجغرافي تشارلز هيتوول "حزام الإنجيل" بأنه منطقة (من الناحية المكانية هي المنطقة نفسها التي حددها زلينسكي)، تسيطر عليها 24 طائفة بروتستانتية أصولية. كما يحدّد المؤرّخون والخبراء الأميركيون الحدود الجغرافية لحزام الإنجيل بشكل مختلف، لكن يمكن القول إنه يشمل بالكامل 12 ولاية وهي: ألاباما، أركنساس، ميسيسيبي، ميسوري، جورجيا، كنتاكي، لويزيانا، كارولينا الشمالية والجنوبية، أوكلاهوما، فيرجينيا الغربية، وتينيسي.

ليس هذا فحسب، هناك ثماني ولايات تابعة للمنطقة جزئياً، وهي: فيرجينيا، تكساس، أوهايو، نيو مكسيكو، إنديانا، إلينوي، كانساس، وفلوريدا. وعليه، إذا جرى دمج هذه الولايات الأساسية، مع الأجزاء في كيان واحد، فإنها ستشكل الولايات المتحدة (المتشددة) المحافظة حيث سيحكم الجمهوريون دائماً.

الموجات الأربع لتشكّل الحزام المقدس

في الواقع، بدأ حزام الكتاب المقدس في التشكل من خلال عملية تاريخية أميركية عُرفت بالصحوة الكبرى التي نجمت عن الانتشار السريع للبروتستانتية الذي حدث في أربع موجات زمنية، من أوائل القرن الثامن عشر حتى أواخر القرن العشرين.

تعود النهضة الأولى إلى ثلاثينيات القرن الثامن عشر وتميزت بزيادة في الوعظ الإنجيلي. آنذاك، سافر الدعاة البارزون مثل جوناثان إدواردز، وجورج وايتفيلد عبر المستعمرات البريطانية (التي ستُشكل فيما بعد الولايات المتحدة)، وألقوا خطباً نارية اجتذبت الآلاف من المراقبين المهتمين. وقد أدّت هذه الحركة البروتستانتية التي أثرت كثيراً على سكان المستعمرات في ذلك الوقت، إلى تأسيس طوائف جديدة، خصوصاً الكنائس الأنجليكانية والأسقفية.

فيما انطلقت الصحوة الثانية، أواخر القرن الثامن عشر، واستمرّت حتى منتصف القرن التاسع عشر. وقد عملت على تعزيز النفوذ الديني في المناطق الريفية، لا سيما في الجنوب والجنوب الغربي، والغرب الأوسط الأميركي. وتميّزت هذه الفترة بالتجمّعات الدينية في الهواء الطلق، واجتذبت مجموعات كبيرة من المؤمنين الحاليين والجدد.

وامتدّت المرحلة الثالثة، من منتصف إلى أواخر القرن التاسع عشر، واشتهرت بالتحضّر والتصنيع، مما أدى إلى انتشار الحركة الإنجيلية في المدن أيضاً. كما ساهمت بتأسيس طوائف جديدة، وجمعيات تبشيرية، ومدارس دينية. وفي القرن العشرين، واستجابة لاتجاهات الحداثة، عزز الحزام المقدّس وجهات نظره الدينية المحافظة.

أما الصحوة الكبرى الرابعة، فحدثت في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وقادتها حركة يسوع الإنجيلية، التي أدخلت تغييرات ثقافية وأثرت على الموسيقى ووسائل الإعلام المسيحية ككل، بما في ذلك الأفلام والمسلسلات التلفزيونية.

الحزام المقدس بالأرقام

وفقاً لاستطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث في العام 2024، جاءت الولايات العشر الأكثر تديُناً في أميركا على الشكل الآتي: ألاباما (77%)، ميسيسيبي (77%)، تينيسي (73%)، لويزيانا (71%)، أركنساس (70%)، كارولينا الجنوبية (70%)، فرجينيا الغربية (69%)، جورجيا (66%)، أوكلاهوما (66%)، ونورث كارولينا (65%). يُشار إلى أن هذه الولايات جميعها تقع داخل منطقة الحزام المقدس.

تأثير الدين على الحياة الثقافية والاجتماعية

تعتمد المجتمعات في هذه المنطقة على معايير اجتماعية محافظة صارمة متجذرة في تعاليم الكتاب المقدس. ويظهر انعكاس ذلك على موقفهم من قضايا مثل الزواج والأسرة والجنس، إذ لا تزال النماذج التقليدية، حيث يكون الرجال هم المعيلون والنساء ربات البيوت، سائدة. وعلى الرغم من أن هذه المعايير تتغير ببطء تحت  وطأة التحولات القائمة بالمجتمع الأميركي الأوسع، إلا أن التأثير الديني لا يزال قوياً هناك.

علاوة على ذلك، يؤثر الإيمان أيضاً على نظام التعليم. ففي العديد من المدارس، يتم تقديم نظرية الخلق كبديل للتطور. كذلك، توجد العديد من المدارس والجامعات المسيحية الخاصة في تلك المنطقة، وهي توفر التعليم الذي يتوافق مع المعتقدات الدينية. ولدى هذه المجتمعات محطات إذاعية وقنوات تبث البرامج والموسيقى الدينية المسيحية المعاصرة، وتحظى بشعبية كبيرة.

وماذا عن التأثير السياسي؟

يهيمن المحافظون الاجتماعيون على الإيديولوجية السياسية بمنطقة حزام الإنجيل، التي كانت معقلاً للحزب الديمقراطي منذ نهاية عصر إعادة الإعمار في عام 1877، حتى ستينيات القرن الماضي. وغالباً ما يُشار إليها باسم "الجنوب الصلب". آنذاك، امتلك الديمقراطيون جميع مفاتيح مقاليد السلطة في الولايات الجنوبية، بحيث حافظوا على هيمنة البيض، وكرّسوا الفصل العنصري، والتمييز ضد الأميركيين من أصل أفريقي، بما في ذلك حرمانهم من حقوق التصويت.

الجدير بالذكر أنه بينما لم تدعم المجتمعات المسيحية في المنطقة العنصرية بشكل صريح، إلا أنها دعمت الفصل العنصري. ففي ذلك الوقت، كانت العديد من الكنائس منقسمة عرقياً، مع تجمّعات منفصلة للعباد البيض والسود، وهو تقسيم لا يزال قائماً في بعض الحالات حتى اليوم.

لكن المشهد السياسي بدأ في التحول في الستينيات عندما تمّ تمرير قانون الحقوق المدنية الليبرالي لعام 1964، تحت قيادة الرئيس ليندون جونسون الذي أسرّ لمساعده بيل مويرز، قائلاً: "أعتقد أننا سلمنا الجنوب للتو إلى الحزب الجمهوري لفترة طويلة مقبلة". وهذا ما حصل فعلاً، إذ سرعان ما تبنّى الجمهوريون خطاباً ميّز مصالح السكان البيض، مقابل إهمال الأميركيين من أصل أفريقي. وبنتيجة مواصلة الديمقراطيين سياساتهم العلمانية الليبرالية، بدأ الناخبون في الحزام بتغيير ولائهم السياسي.

وبحلول انتخابات الرئاسة عام 1964، فاز السيناتور الجمهوري المتشدد باري غولدووتر في ألاباما، وجورجيا، وميسيسيبي، وكارولينا الجنوبية. وكانت هذه أول مرة منذ إعادة الإعمار يهزم فيها جمهوري ديمقراطياً في الجنوب، ولاحقاً تواصل هذا المسار المتباين.

العلاقة بالقساوسة المعمدانيين المؤيدين للصهيونية

في الحقيقة، أعطى تأسيس منظمات مثل "الأغلبية الأخلاقية" في منطقة الحزام، في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين دفعاً كبيراً للمشاركة السياسية للمسيحيين الإنجيليين، بعدما قام الزعماء الدينيون مثل القس المعمداني جيري فالويل بتعبئة الملايين من المؤمنين، لدعم المرشحين السياسيين المحافظين والسياسات التي تتماشى مع معتقداتهم الدينية.

من هنا، كانت هذه المنظمة مسؤولة إلى حد كبير عن فوز الرئيس رونالد ريغان في انتخابات عام 1980. كما صوتت ولايات الحزام، لمصلحة المرشّحين الرئاسيين الجمهوريين في معظم الانتخابات منذ عام 1980. بالإضافة إلى ذلك، أصبح العديد من القساوسة المعمدانيين، بما في ذلك فالويل، من أبرز المؤيّدين للصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة والعالم.

وتبعاً لذلك، يدعم المسيحيون الصهاينة بشكل غريب "إسرائيل" على أمل التعجيل بالمجيء الثاني للمسيح. ووفقاً للأكاديمي تريستان شتورم، فإن المنطقة تُعدّ موطناً لأكبر عدد من الصهاينة المسيحيين في العالم - 30 مليون منهم.

بموازاة ذلك، يحظى السياسيون الذين يعارضون الإجهاض بدعم قوي من ناخبي الحزام، الأمر الذي عزّز الهيمنة الجمهورية في المنطقة. والأمر نفسه ينطبق على "حقوق" الشاذين جنسياً. حيث تلتزم العديد من المجتمعات بوجهات النظر التقليدية بشأن الزواج والأسرة، ويعارضون القوانين التي تسمح بزواج الشاذين وتوسيع "حقوقهم" مثل الحق في تبني الأطفال. إضافة إلى ذلك، يدعم العديد من سكان المنطقة بقوة التعديل الثاني لدستور الولايات المتحدة، ويعارضون أي شكل من أشكال تنظيم الأسلحة.

في المحصلة

تواجه منطقة حزام الكتاب المقدس تحديات اجتماعية كبيرة، فمعدّلات التحصيل العلمي فيها تُعتبر الأدنى في البلاد. زد على ذلك أن أمراض القلب والأوعية الدموية، والسمنة، وجرائم القتل، وحمل المراهقات، والأمراض المنقولة جنسياً، من أعلى المعدلات في البلاد، وتعاني من انتشار الفقر أيضاً.

والأخطر بالنسبة لسكان الحزام هو تخلي الشباب عن معتقداتهم إثر مغادرتهم لها بحثاً عن التعليم والعمل في المدن الأميركية الكبرى، وتأثرهم بالتالي بوجهات نظر مختلفة تبعدهم عن دينهم، وهذا يؤدي بدوره، إلى انخفاض تدريجي في عدد المؤمنين الممارسين.

 المصادر: 

1 ــ wezeradio.com/articles/church/pastors-or-leadership/facts-you-should-know-about-the-bible-belt

2 ــhttps://worldpopulationreview.com/state-rankings/most-religious-states

3 ــ https://www.wildculture.com/article/notes-dark-heart-bible-belt/1084

4 ــ https://www.christianity.com/church/the-bible-belt.html

5 ــ https://www.aag.org/memorial/wilbur-zelinsky/

6 ــ https://hwpi.harvard.edu/files/pluralism/files/the_protestant_movement_0.pdf

7 ــhttps://www.msnbc.com/opinion/msnbc-opinion/truth-many-evangelical-christians-support-israel-rcna121481

8 ــ https://academic.oup.com/socrel/article/79/2/147/4825283

9 ــ https://www.thoughtco.com/the-bible-belt-1434529

10 ــ https://www.businessinsider.com/regions-america-bible-belt-rust-belt-2018-4