"إسرائيل" تحارب البداهة جنوبيّ لبنان: هذي البلاد بلادنا!

على الركام يقف اللبناني ولا همّ له سوى أن تبقى قدماه على أرضه ثابتة. صورٌ ولقطات عديدة من جنوب لبنان لثائرين بلا رصاص وقفوا أمام الدبابات ساخرين. يسخر أحدهم من الجندي القابع داخل دبابته قائلاً: "بحرّك الفوهة ناحيتنا يمين يسار ليخوّفنا".

  • "إسرائيل" تحارب البداهة جنوبيّ لبنان: هذي البلاد بلادنا!

كالعنقاء تقف على الركام في مواجهة عظمة الميركافاه وأسطورتها الحربية، وبينما تُطوى سيرة كل من واجه الدبابة يومًا بدءًا من المتظاهر الوحيد أمام دبابات تيانانمن، وحتى فارس عودة الفتى الفلسطيني الذي وقف أمام الدبابات الإسرائيلية في وسط قطاع غزة، التقطت الحاجة رباب نعمة بقية عمرها من جديد، لتحكي عن نفسها وعن كل صاحب حق واجه السلاح يومًا فانتصر.

تكتسب الحاجة قوتها من داخلها، ومن انتمائها للأرض فتكمل سيرها نحو بيتها الذي لا يفصلها عنه سوى دبابة لا تعير لها وزنًا، برغم تلويح سائقها بالسلاح في وجه الحاجة وجمع اللبنانيين المتقاطرين من مختلف أنحاء البلاد عائدين إلى مسقط رأسهم، لكن الحاجة تواجهها عزلاء، فخورة بقوتها فتقول: "القوة صناعة محلية"، ثم تستغرب خوف الآخرين، فهذه "أرضنا وبيوتنا" ونحن "الشعب والمقاومة والجيش معنا وإسرائيل ورانا".

"امشوا فوتوا ع بلدكن، فوتوا عليها"، حملت الحاجة رباب على عاتقها تسكين مخاوف المئات وهتفت وتقدمت، فـ "الأرض أرضنا والشهداء شهدائنا، والدمار دمارنا والمقاومة مقاومتنا، وإن تخلينا عنها راح كل شي، وكرمال هالأرض والوصية خلينا نفوت لجوا"، قالت هذا ثم مضت بكل وفاءٍ للمقاومة وسيدها شهيد الأمة السيد حسن نصر الله. هذا هو جانب واحد من الحكاية، الجانب الآخر هو خطٌ طويل من العائدين انطلقوا صباح العودة قبل أسبوع ويوم أمس إلى بيوتهم في الجنوب، ولم يعيروا اهتمامًا لخطابات الناطق باسم جيش الاحتلال، ولا للنداءات الأممية والحكومية للتريث، تمامًا كأنهم في خط سيرهم العادي بعد يومٍ طويل من الأعمال والمشاغل.

تقف على بوابات بلداتهم مجنزرات وآليات إسرائيلية، تواجههم بالرصاص فيواجهونها بالبداهة: هذه الأرض لنا، وهي من بدء الخليقة. لم تكن المقاومة بحاجة للخروج مطالبة جمهورها بالتحرك، بل لم يكن لها أن تهز حبالها الصوتية لتحفيزهم، ولم يكن للأهالي من بوصلة سوى الطريق الذي يطوونه، حينًا بأقدامهم وحينًا بدمائهم حتى وصلوا. يتدارك الإسرائيليون حرارة المشهد فيتراجعون أمامه، ثم يخرج محللوهم للتأكيد على وجه المقاومة المتخفي بين قلوب الأهالي، وعلى الحاجة الماسة لوجودٍ عسكري في لبنان هنا وهناك، خوفًا من أولئك العائدين على بُعد خطواتهم إلى بلداتهم التي تطل على غرف نوم صغار المستوطنين وكبارهم.

يشتكي مستوطنو الشمال كثيرًا وينوحون أمام عظمة المشهد، يرفضون العودة حتى الآن، يتساءل بعضهم عن وعود الاستيطان، والبعض الآخر يتساءل عن الأمن الذي سيشعر به حين يكون اللبناني صاحب المكان قادرًا أثناء احتسائه قهوة الصباح على الإطلال على منازل المستوطنات السليبة، الأمن المفقود أمام زغاريد الأفراح اللبنانية واكتظاظ البهجة، الأمن المفقود أمام أصوات المآذن والمساجد كل صبحٍ ومساء، الأمن ذاته المفقود أمام رائحة مواقد اللحم المشوي الذي سارع أهل الجنوب لإشعالها احتفاءً بعودتهم إلى بيوتهم. على الركام يقف اللبنانيون، يتسامون على حجم التدمير والتجريف من حولهم، مدركين أن وجودهم ووقوفهم على بقعة الدمار ذاتها انكسار للمحتل وهزيمة لما روجه طوال أشهرٍ عن تقهقرٍ شعبي وانكفاءٍ عن المقاومة، وانكشافٍ للمجاهدين ومحاضنهم، وعزوفٍ عن الأرض إلى غيرها.

على الركام يقف اللبناني ولا همّ له سوى أن تبقى قدماه على أرضه ثابتة. صورٌ ولقطات عديدة من جنوب لبنان لثائرين بلا رصاص وقفوا أمام الدبابات ساخرين. يسخر أحدهم من الجندي القابع داخل دبابته قائلاً: "بحرّك الفوهة ناحيتنا يمين يسار ليخوّفنا"، على بعد أمتارٍ قليلة يتجمع جنود الاحتلال، يقول ثائر عائدٌ آخر: "ليك الصهاينة مرعوبين". وحدهم أهل الجنوب تُختزل عندهم دولة الاحتلال بجنودها وحكومتها وسياساتها وساستها في لفظٍ واحد "صهاينة" ولا أكثر، وعلى هدير قولهم وعذوبة لهجتهم الحنون يحق للبنان بأكمله أن يدبك فخرًا.

وقف المحتل عاجزًا أمام خوفه وشجاعة الجنوبيين، ومعه الإعلام العبري الذي وقف مشدوهًا أمام الحراك الشعبي اللبناني في مقابل جمود مستوطني الشمال، واصفًا اللبنانيين بـ "مؤيدي حزب الله"، وبأن تحركهم تجاهل لجيش الاحتلال الإسرائيلي والجيش اللبناني، لكنه لم يلبث أن أعاد التشديد على موقف الجيش اللبناني الذي لم يقف في مواجهة مواطنيه، معتبرًا ذلك "عجزًا"، فيما اعتبر الحراك اللبناني خطرًا على حالة التأييد الأمريكي للموقف الإسرائيلي، وعلى مشاعر "سكان إسرائيل" الذين نزحوا بانتظار الموعد النهائي الذي حددته حكومتهم لعودتهم، في الأول من آذار/مارس المقبل.

الصدمة الإسرائيلية جاءت حصيلة جملة من المتغيرات الإقليمية والدولية التي أعطت لقرارها بتأجيل الانسحاب أريحية إضافية، فعلى المستوى الدولي هناك الإدارة الأميركية الجديدة التي تحمل الأجندة الإسرائيلية في جعبتها وتتبناها وتعمل وفقًا لها، والتي لذلك لم تجد حرجًا من تمديد وجود الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان "حتى إشعارٍ آخر"، بينما تجاهلت توجيه إشعارٍ رسمي إلى رئاسة الحكومة اللبنانية وأجهزتها، لتعاود الإشارة إلى موعدٍ جديدٍ للانسحاب يمتد حتى منتصف شباط/فبراير المقبل.

من جملة المتغيرات هناك الوضع الداخلي السوري، والذي اعتبره الاحتلال نوعًا من الحصار العسكري لحزب الله وترسانته وقطعًا لخطوط الإمداد العسكري واللوجستي له، ما سيجعل الرهان على رد الحزب مستبعدًا، يُضاف إلى ذلك التغيرات الرئاسية والحكومية اللبنانية والتي جاءت لتمحو معادلة "الشعب الجيش المقاومة"، ولتضيف من مساحة التدخل الغربي في لبنان والعبث بأمنه. هذه التغيرات فرضت نفسها جنبًا إلى جنب مع التساؤلات عن 15 شهرًا من الحرب والقصف، وأكثر من 60 يومًا استطاعت فيه آلة الحرب استهداف 62 بلدة لبنانية بالتدمير والتفجير والتخريب، أسفرت عن ارتفاع نسبة الدمار في القرى المحاذية للخط الأزرق.

وبرغم ذلك لم تنجح جميع هذه الإجراءات في دفع الأهالي بعيدًا عن بيوتهم، وللمفاجأة فإن استراتيجية الأرض المحروقة التي اتبعها الاحتلال في جنوب لبنان وقطاع غزة لم تفلح في الحالتين في كسر صمود الأهالي وعزيمتهم، بل كان هناك دائمًا حافزًا للالتفاف مجددًا حول المقاومة. بعض الصحافيين الإسرائيليين أطلق على هذه اللوحة عنوان "خداع الشعب الإسرائيلي لنفسه"، مركزًا على صورة الجماهير العفوية الهاتفة باسم سيد المقاومة، والمهللة فرحًا براياتها الصفراء في درب حريةٍ آخر، يكشف الإعلام الإسرائيلي لجمهوره؛ أنه مهما حاول الجيش الإسرائيلي تأكيد تفوقه، ومهما حاولت الحكومة والمستوى السياسي إثبات سطوته حتى من خلال الاتفاقيات الدولية برعايةٍ "مختارة"، إلا أن صورة تجمعات الأهالي المصممة على الدخول إلى بلداتها كسرت ذلك كله.

في الواقع هذا حقيقيٌ جدًا، فطوال ستين يومًا أجهدت آلة الحرب الإسرائيلية نفسها لاختراق بنود اتفاق وقف إطلاق النار، لتتجاوز الحصيلة 500 خرقًا، ووقع الكثير من الشهداء والضحايا نتيجة ذلك، واستبقت "إسرائيل" الأيام الأخيرة للترويج لأمدٍ لا ينتهي من البقاء العسكري في لبنان، وعودة لن تكون للأهالي في مقابل عودة سكان مستوطنات الشمال، ولكن حين جاءت اللحظة صفر صباح السادس عشر من كانون الثاني/يناير، لم يترك الأهالي مجالًا له ليبرر أو يدعو أو يُحذّر، في الجنوب اللبناني كما في الشمال الغزاوي، فبعد الجولة الثالثة من التبادل في غزة، وقف الفلسطينيون منتظرين ساعة الصفر، فيما يعيد الاحتلال نسج قائمة أطول من ادعاءاته حول حاجته للمزيد من الأرض والوقت ليكتسب الأمن، إلا أنه خسر الأمن والأرض والوقت، وحتى سطوته العسكرية.

حراك البداهة لم يكن بلا ثمن، في مواجهة المحتل هناك دائمًا أثمانٌ غالية، ففي اليوم الأول  من "أحد العودة" جنوبي لبنان ارتقى 22 شخصًا، ارتفع عددهم إلى 24 مع ساعات المساء، أراد الاحتلال أن يرسم على الأرض خطًا بالدماء، يمنع اللبناني من العودة، لكن الجنوبي رأى في خط الدماء بوصلةً نحو عودته، فواصل التدفق مدفوعًا بالألوف ممن أرادوا المشاركة في صناعة يوم الحرية، يوم الوفاء، في اليوم الثاني ارتقى مواطنان، وارتفع عدد الجرحى ليتجاوز الـ196 شخصًا من بينهم النساء والأطفال، لم تخطئ البوصلة حتى حرر اللبنانيون بيدهم 15 بلدة.

وبالكثير من المناشدات، وبمدى زمني كان أطول من أن يُقيد، تم اختصاره إلى أسبوعين، ركن الأهالي إلى عمائر بيوتهم في انتظار صباح الثامن عشر من شباط/ فبراير المقبل، موعد استحقاقٍ آخر ينتزعونه مرةً أخرى باقتدار، وفي الذهن تساؤلٌ يتعاظم: "هل أنتجت المقاومة في لبنان شعبًا يحمل راياتها إذا ارتاحت ويهتف باسمها إذا مالت، ويسند مسيرتها إذا تعثرت؟ أم يُنتج الشعب مقاومةً تقف في وجه محتله إذا بغى وتفي حقه إذا خان غيرها وتحتضن حلمه إذا أسقطه الآخرون؟".