فراغ تمثيلي وشرعية مفقودة: أزمة الثقة بالمؤسسات الفرنسية
تعيش فرنسا أزمة سياسية واجتماعية تتمثل في تآكل الثقة بالمؤسسات، صعود اليمين المتطرف، وتزايد الاحتجاجات الشعبية، مما يهدد استقرار الجمهورية الخامسة.
-
فراغ تمثيلي وشرعية مفقودة: أزمة الثقة بالمؤسسات الفرنسية
يلاحظ الناظر إلى النقاش العام في فرنسا وتطوّراته الدقيقة، أن هناك أزمة عميقة ومعقدة تتسع في البلاد، بأبعاد متنوعة لا تقتصر على الاقتصاد والمجتمع، بل تمتد لتشمل الأبعاد السياسية والمؤسسية، مثل صعود اليمين المتطرف وتزايد عدم الثقة بالمؤسسات.
الانعكاسات الاجتماعية لهذه الأزمة تزيد من خطورتها، خصوصاً في دولةٍ تقوم، في جمهوريتها الخامسة، على إرث اجتماعي كبير يمتدّ إلى الثورة الفرنسية. لذلك، فإن تآكل الروابط الاجتماعية والوطنية، الذي يهدّد بتفاقمه، يفتح الباب أمام التفكك الاجتماعي والانكفاء السياسي.
الجمهورية تواجه اختبار الشرعية
تعيش الجمهورية الخامسة منذ منتصف العقد الحالي حالة من الاضطراب المؤسساتي والاجتماعي، يتمثل في تراجع الثقة بالمؤسسات، تصاعد اليمين المتطرّف، توجّس من أداء الدولة، وشعورٍ عميق بأن العقد الاجتماعي يتهاوى.
في هذا السياق، يتم التركيز على عهد الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون كمركز صِدام بين المطالب الشعبية المحتقَنة والتطلعات المتعثرة، ومعالم الأزمات المتداخلة التي تتفاعل في كل اتجاه؛ وهي بمجملها مكونات لأزمة تُعبّر عن تحوّرٍ في علاقة المواطن بالديمقراطية وبالدولة بحدّ ذاتها.
ما يعنيه هذا من منظور اجتماعي كبير ويضحو مع الوقت مصيرياً، كما يتكرر في النقاش الدائر الآن. فحين تتآكل روابط الثقة بين المواطن والدولة بصورةٍ متدرجة ومتصاعدة، يُصبح الفضاء العام ميداناً لهشاشة مؤسساتية، تتوسّع فيه الفراغات، ويصبح المناخ مُهيّأ لبدائل تؤرجح ما بين العزوف، الانسحاب المدني، وصعود قوىٍ تُعدّ نفسها خارج النظام.
أركان عديدة لأزمة كبرى
1- أزمة المؤسسات والشرعية الديمقراطية
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت في 12 تشرين الأول/أكتوبر مقالاً موسعاً حول الموضوع، قالت فيه إن فرنسا تعيش "أزمة في الإيمان السياسي" belief in political faith، حيث يتجلّى انخفاض الثقة في الأنظمة الديمقراطية والتمثيل السياسي.
وإن ماكرون يعتبر نفسه "الدولة" داخل الجمهورية، وإن النظام الرئاسي الفرنسي تحَوّل إلى نظام يُحدّد فيه مركز السلطة نفسه خارِقاً أحياناً منطق التمثيل الشعبي.
تُضاف إلى ذلك ظواهر ملموسة تحولت إلى نمط متكرر مع مرور الأشهر، خلال ولاية ماكرون الحالية: برلمانات معلّقة، حكومات أقلية، أصوات احتجاج متزايدة في الشارع، واستخدام متكرر لمواد دستورية تُحيّد النقاش البرلماني.
ومن هذا المنطلق، تنشأ المسألة الأساسية المرتبطة بعدم اقتناع المواطن بأن المؤسسات تستجيب إلى آرائه وتطلعاته، وشعوره بأن القرار يُتخذ بعيداً من شرعيته، ما يؤدي إلى حالة تنهار فيها قاعدة الألفة الاجتماعية، وتُفتح نافذةً للمآلات الخطيرة المتمثلة بضعف الالتزام بالمؤسسات، صعود الرفض السياسي، وتقليص مشاركة المواطنين في الحياة العامة.
2- أزمة مالية واجتماعية: تعثر دولة الخدمات
على الجانب المالي والاقتصادي، يُواجه النظام غياباً في قدرة الدولة على الاستجابة لمطالب الخدمات والرفاه الاجتماعي، في ظل تراكم الدين، وتراجع النمو الاقتصادي، وارتفاع تكاليف المعيشة. فماكرون وفق وجهة نظر واسعة اليوم بين منتقديه، تحدّى إرادة الشعب حين قرّر الانسحاب من حواراتٍ مجتمعية أو استفتاءات، ما زاد من الإحساس بأن الدولة تجاهلت الواقع الاجتماعي.
هذا الوضع يقود إلى تصدع دور الدولة كمزوِّد للخدمة، فتضعف الحماية الاجتماعية، وتتزايد حالات التهميش، ويُصبح المواطن أقل ثقة بأن الدولة تحقّق له المساواة أو العدالة. فعندما تُقلّص البرامج أو تُجمَّد الإصلاحات بسبب صعوبات مالية أو سياسية، يتعثّر عقد "الدولة – المواطن" ويبدأ الشكّ بالديمقراطية كخيار. وهذا يعزّز الشعور بأن النظام مُعطّل أو غير كافٍ، وهو الشعور الذي يقول كثر إنه بات عارماً في فرنسا.
3- صعود اليمين المتطرّف وتعبير الانسحاب الاجتماعي
في هذا السياق، لا يمكن تجاهل العامل السياسي الذي يطبع اليوم صعود قوى اليمين المتطرف، الذي يمثل استجابة لفراغ تمثيلي ولشعورٍ بعدم قدرة النظام على التحديث أو التمثيل. وهذا يحمل في طياته تحذيراً للحكومات المتعاقبة بأن السلطة المركزية قد تفقد شرعيتها إذا لم تستعد التمثيل المحلي والتشاركي.
من الناحية الاجتماعية، يبدو أن صعود اليمين المتطرف هو أكثر من مجرد تحوّل انتخابي؛ إنه علامة على نزوع اجتماعي، تشعر معه فئات واسعة بأنها لم تُسمع أو أنها محرومة من الفاعلية. هكذا، تبحث هذه الفئات عن وسيلة لتعبيرها من خلال الانخراط في حركات خارج المؤسسات أو العزوف عن السياسة أو دعم حركات تُعتبر خارج الشرعية التقليدية. وكل هذا يصب في مصلحة التيارات اليمينية المتحررة من إرث السياسة التقليدية وأعبائها الثقيلة، التي، من جانب آخر، وفرت لفرنسا وللكثيرين ممن عاشوا فيها خلال العقود الماضية مظلة أمان اجتماعي ورفاهاً مقبولاً إلى درجة عالية.
الأبعاد الاجتماعية للمخاطر
إن انخفاض الثقة بالمؤسسات الديمقراطية، يظهر الدولة أقل قدرةً على خدمة مواطنيها، ويضعف روابطها بالمجتمع، ما يعزّز الانعزال الاجتماعي، والميل إلى الانسحاب أو البحث عن بدائل خارجية أو محلية. هذه الحالة تضعف النسيج الاجتماعي وإحساس الانتماء، وهو ما يُعدّ خطراً أخلاقياً وكذلك سياسياً.
كما أن ضعف المؤسسات يُحوّل النقاش الاجتماعي من "كيف نشارك في البناء" إلى "من يُستثنى؟"، ما يحيل إلى شعور بأن الدولة ليست للجميع. وهنا يتجاوز التفاوت الاجتماعي مسائل الدخل والخدمات، ليطال الاعتراف، والمواطَنة، والشعور بأن الفرد مواطن كامل. ومن ثم، تصبح المؤسسات الاجتماعية مثل التعليم، الصحة، الإسكان، مواقع للنزاع أكثر من كونها فضاءات تماسك.
ثم إنّ فقدان الشرعية يضعف المشاركة الديمقراطية، من الانتخابات إلى المشاركة المدنية والنقابية، ومن الصوت الفردي إلى العمل المجتمعي.
بالمقابل، تؤدي هذه الديناميكية إلى ازدهار الاحتجاجات أو الحركات غير المرخصة أو الحركات المضادة للدولة، إذ إن الفراغ المؤسساتي يوفر فرصة لمنظمات بديلة أو حركات تطالب بالعدالة الاجتماعية خارج المسار التقليدي. وهنا تكمن المخاطرة التي تتحول من بعد سياسي إلى بعد اجتماعي، فيصبح الشارع أو الإنترنت ساحةً للمطالبة، مما يهز الاستقرار الاجتماعي.
في فرنسا، كثير من التحليلات ترى أن ماكرون نفسه يعكس أزمة النموذج الجمهوري، من حيث قوة المركزية، العنف الميداني أو النفسي ضد المواطن العادي، والانفصال بين النخب والمقاطعات.
وهذا يعني من منظور اجتماعي، أن المواطن قد يشعر بأنه ليس جزءاً من الجمهورية بقدر ما هو مستقبِل لقراراتها.
البحث عن إصلاح
ومن منظور التحوّل الاجتماعي، يمكن القول إن المؤسسات الديمقراطية والاجتماعية أكثر من كونها أجهزة بيروقراطية، هي تعبير عن آليات توزيع للعدالة والتمثيل والمواطَنة. وإذا فقدت هذه المؤسسات شرعيتها، فإن ما ينقص ليس فقط الحكم، بل التماسك الاجتماعي.
وهذا له ثلاث نتائج رئيسية:
أولاً: ضعف قدرة الدولة على تحقيق التنمية الشاملة. إذ إن التنمية تحتاج ثقة المواطنين، مشاركة مجتمعية، مؤسسات فعالة، وهي كلّها تتأثر حين تسوء الشرعية.
ثانياً: تزايد المخاطر الاجتماعية، من الفقر إلى البطالة، ومن التهميش إلى العنف أو الوقوع تحت تأثير الحركات المتطرفة.
ثالثاً: تراجع موقع الدولة في النظام الدولي والمجتمع الأوروبي. فرنسا، بكونها قوة أوروبية مركزية، حين تفقد شرعية مؤسساتها، فإن ذلك يضعف قدرتها على المبادرة أو التأثير في أوروبا والعالم.
ما يستحق التأمل
هناك مجموعة من المحطات والظواهر التي تستحق التأمل في المشهد الفرنسي، فهي المركبات الحقيقية للأزمة الكبرى التي تتشكّل، وتتوسع وتتفاعل، لتفضي إلى خطرٍ كبير ليس على ماكرون، بل على الجمهورية، كما يدفع كثر من رموز النخبة الرفنسية اليوم، أبرز هذه الظاهر:
- إصلاح المعاشات ورفع سن التقاعد أثار موجة من الاحتجاجات والنقاشات حول العدالة بين الأجيال والفئات، وأُستخدمت كرمزٍ لعجز المؤسسات في التفاهم مع المجتمع.
- الانقسام البرلماني المتكرّر، إعلان حكومات أقلية، واستخدام مواد دستورية لتمرير المشروعات بمعزل عن البرلمان، كلّها جعلت المواطن يلمس أن إدارة الدولة أصبحت أكثر تقنية من كونها سياسية تمثيلية.
- صعود اليمين المتطرّف (الجبهة الوطنية) باعتباره "بديل الدولة المُعتادة" يُظهر أن جزءاً من الجمهور لم يعد يثق بأن النموذج الجمهوري التقليدي قادر على إصلاح نفسه.
تسير هذه الظواهر في مسارات دائرية، مما يحول السياسة الفرنسية والمجتمع إلى حلقات متكررة تعيد الحكومات المتعاقبة إلى طاولة ماكرون، وتعيد ماكرون إلى لهيب النقاش الشعبي، والشعب إلى صناديق الاقتراع، ثم تعود الدائرة من جديد. لكن مرحلة ماكرون، كما يقول المتابعون، استهلكت فرصها بالكامل، والدائرة بدأت تضعف، بل إنها أصبحت قابلة للكسر.