السلاح وقوّة الذاكرة: جنوب لبنان يخوض معركة الرواية

يحاول المبعوث الأميركي توماس برّاك ترويج رواية زائفة عن استقبال الجنوبيين للاحتلال عام 1982، في مسعى لتمرير التطبيع. لكنّ ذاكرة الجنوب الحيّة تفنّد مشهد الأرز بروايات الزيت المغلي، والصواريخ، والشهداء الذين لم يتراجعوا حتى بعد "الهدنة".

0:00
  • السلاح وقوّة الذاكرة: جنوب لبنان يخوض معركة الرواية
    السلاح وقوّة الذاكرة: جنوب لبنان يخوض معركة الرواية (تصوير: حسن فنيش)

يحاول المبعوث الأميركي توماس برّاك تزييف ذاكرة المقاومة الشعبية جنوبي لبنان من أجل تمرير التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي بادعاء أنه "بديهيّ" و"له أرضيّة". فقال خلال لقائه مسؤولين لبنانيين يوم أمس في بيروت إنّ "الجنوبيين استقبلوا – عام 1982 - الجيش الإسرائيلي بالأرزّ والورود. فالشعب اللبناني شعب طيّب ويحبّ العيش بسلام ويحب الطعام"، داعياً إلى "اغتنام" الدعوة الأميركية إلى التطبيع. 

يُصوّر برّاك، وكل من ينظر إلى البلاد ويتعامل معها من منطلق استعماري، الجنوبيين على أنهم فئة "مُستنجِدة": نُطلق عليهم النار فيلقون علينا التحيّة لأنّ لا خيار لديهم، ولن نسمح بغير ذلك. هذا الترميز الخاضع المُختلق عن أهالي الجنوب يُريح خيال المستعمرين من وجود نقيضه، فيما النقيض هو الأصل على هذه الأرض.

فهو يعلم، كما يعلم أصحاب الأرض، أن "الجيش" الإسرائيلي لم "يُستقبل" في الجنوب، وحين توغّل جنوده في القرى كانت النساء تقف خلف النار تنتظر أن يغلي الزيت وترميه عليهم، وآخرون كمنوا لهم في الزواريب وأسروهم، ورموهم بالحجارة من مسافات قريبة. حتى انتظم شباب الجنوب على نحو مؤسساتي عسكرياً في حزب الله مع تأسيسه في عام 1982. العام الذي يُسقط عنه برّاك سمة المبادرة والمواجهة؛ مُختلقاً عوضاً منه مشهداً انهزامياً "يرحّب" بقوّة النار التي واجهها أبناء الجنوب بلحمهم الحيّ ودماء شبابه.

لم تكن استعادة عام 1982 إلى الواجهة عبثية، في ظلّ زيارات المبعوث الأميركي إلى لبنان، بهدف الضغط على القوى السياسية اللبنانية لتمرير هدف نزع سلاح حزب الله والتطبيع مع "إسرائيل". يريد أن تنتهي الحكاية من حيث بدأت لكن بتزييف التاريخ وبالسردية التي يريدها. ولم يكن ليختلق مشاهد الأرزّ حينها، التي لم يستقبل بها الجنوبي أحد غير ابن أرضه عام التحرير، إلا لأنه يريد مخاطبة الجنوبيين مباشرة عبر استفزازهم والضغط عليهم.

تتعدد طرق المُستعمر في محاولته فرض أجنداته ومشاريعه، يحاول في البداية أن يلبس دور الوصيّ ثم يمرر تهديداته ضمنياً إلى أن يقلب الطاولة على الجميع. في منطق الجنوبيين، فإنّ السلاح أمر غير قابل للتفاوض. يعرف الناس هناك عدوّهم جيداً، ويعرفون ثمن الـ"لا" أيضاً، والشواهد على الطرق الاستعمارية كثيرة، أوّلها: المحو. يوظّف الاحتلال قوّته العسكريّة في تنميط الصمود وجعله مستحيلاً، عبر إرهاق الناس بالإبادة البشرية والجغرافية، على اعتبار أن الاستنزاف سيولّد انفجاراً اجتماعياً ويقلّب الجنوبيين على المقاومة.

ماذا وجد المُستعمر والمحتلّ في الجنوب؟

بموجب اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 بين لبنان والاحتلال الإسرائيلي، كان لدى القوات الإسرائيلية مهلة 60 يوماً حتى 26 كانون الثاني/يناير للانسحاب من جنوب لبنان، ليعلن بعد ذلك رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي تمديد مهلة انسحاب قوات الاحتلال حتى 18 شباط/فبراير 2025. حينها كانت لا تزال جثامين المقاومين مُمدّدة في العراء في البلدات والقرى، فلم ينتظر أهالي الجنوب دعوة من أحد لينزلوا إلى السواتر التي نصبها جنود الاحتلال عند مداخل عدد من القرى وحرّروا بعضها بلحمهم الحيّ. 

هناك، كانت "إسرائيل" تقاتل البداهة. وهذا أكثر ما ستبقى تستعصيه. سألنا أهالي القرى الذين كانوا يقفون صفاً بالعشرات في سياراتهم عند مدخل بلدة عيترون: لماذا أنتم هنا؟ أردت استجرار مواقف. لكن قبل أن يدلوا بكلامهم، كان يسبقه استهجان عاطفي: بلد مين هي يعني؟ يجيب رجل تستلقي أشعة الشمس الحارقة على جبهته، يجلّس جسده على المقعد ليردّ. بلد مين هي يعني؟ هذه بداهة، وعلى المحتلّ أن يدرك شراستها في أرواح هؤلاء الهائمين في البلاد.

وكما جلوس الجنوبي عند ساتر قريته ليصون بلاده، ينسحب هذا الأمر على الصائنين للسلاح، وللغايات نفسها. فالبلاد بالنسبة إلى الجنوبي الأعزل والمقاوم بلا قوّة تدافع عنها هو استسلام وخيانة للدم. والدليل أنه حتى بعد "انتهاء الحرب" لم تؤجَّل في الجنوب جنازة، ولم يغادر صدور الناس دخان الصدف القاتلة. فمنذ "انتهاء الحرب" وصور المقاومين تُرفع في بيانات النعي، والعالم يشهد على صراخ ونداءات النهايات قبل الصاروخ الأخير، بسبب الاستهدافات الإسرائيلية التي لم تتوقف والقطاف اليومي لرجال الجنوب.

هؤلاء الذين كان يمكنهم بعد العدوان الإسرائيلي يوم 23 أيلول/ سبتمبر 2024، واستهداف عدد كبير من مخازن الأسلحة، أن يقولوا إنه "مغلوب على أمرهم" أمام الانكشاف والطائرات والتكنولوجيا الإسرائيلية، فيتراجعوا في معركة لم تكن على أرضهم في البداية. لكن كان الشاب منهم يُثبّت مدفعيّته ويطلق صواريخها ثم ينكشف في ظلال الأشجار ويستشهد، ثم يتبعه رفيقه الذي لملم أشلاء من مضى، ويُثبّت مدفعيته ويطلق صواريخها ثم يستشهد. آلاف الشباب مضوا في جبهة لم يكن على ترابها احتمال آخر للسقيا غير الدم. هؤلاء الذين أصيبوا في أعينهم وبترت أصابعهم، فنزل من بقي له عين وإصبع، والتحق من نجا حين ارتعد الجحيم في لبنان وارتقى سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله. وها هم اليوم على الحال نفسه، يخرج الواحد منهم في مهمة فيُقتل ويتبعه رفيقه في سياق ما يسمى "هدنة". 

السلاح هنا ليس خياراً يناقشه حزب الله مع الأميركي أو مع أيّ طرف يخطط لإخضاعه، إنما هو قرار في وجه الإبادة. قرار يفعّل رفض المحو. ويعيد للقرى الحدودية سيادة أهلها عليها. قرار يجذّر انتماء الجنوبيين في أرضهم. قرار ينصهر بجلدة الصامدين الذين لم يتخلوا ولم ينقلبوا على المقاومة. قرار يحوّل الأرض والشجر والنهر والثمر والعائدين والنازحين والهانئين في رقادهم الأبدي إلى فعل مقاومة بالجسد وبالنار: معارك الحدود تشهد والأهل عند السلك والدبابة.

اخترنا لك