الاقتصاد في مواجهة البيئة.. من يدفع فاتورة المستقبل الأخضر؟
تتسارع السياسات المناخية في العالم، لكنّها تواجه اليوم موجة متنامية من "الرفض الأخضر" الذي يكشف انقساماً اجتماعياً واقتصادياً حول كلفة التحوّل البيئي وعدالته.
-
الاقتصاد في مواجهة البيئة.. من يدفع فاتورة المستقبل الأخضر؟
في الأسبوع الأخير من أيلول، استضافت نيويورك أسبوع المناخ في أوسع وأكبر نسخة له حتى الآن، بالنظر إلى عدد الفعاليات، وبمشاركة غير مسبوقة من الشركات، والمنظمات غير الحكومية، والمستثمرين، وروّاد العمل المناخي.
وقد تزامن الحدث مع انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، واستُخدم كمنصّة سنوية تجمع الفاعلين العالميين الذين يسعون إلى عرض الإنجازات، وتبادل الأفكار، واستشراف السياسات، وتحفيز الاستثمارات في الطاقة النظيفة والتقنيات الصديقة للبيئة.
إلا أنّ هذه التعبئة الضخمة تأتي في سياقٍ من التراجع أو التشكيك في التزام بعض الحكومات، من بينها الولايات المتحدة، ببعض سياسات المناخ، من خلال تخفيض تمويل البحث العلمي، وتراجع الضوابط البيئية، أو الحديث عن أنّ الإجراءات الخضراء تُشكّل "عبئاً مكلفاً" أو تهديداً للتنافس الاقتصادي.
الرفض الأخضر: النشأة والأسباب والأشكال
ينطلق "الرفض الأخضر" للسياسات المناخية من منطلقٍ اجتماعي وسياسي مركّب، يتكوّن من مجموعة واسعة من الدوافع التي تفسّر عدم تناغم هذه السياسات مع سياسات التنمية المستدامة، ومع الهويّات والمجتمعات وحقوق الأجيال المقبلة في التمتّع بحصتها من التنمية.
ومن بين أهم هذه النقاط:
- الأثر الاقتصادي المباشر: زيادات محتملة في تكاليف الطاقة والتنقل والتدفئة، خصوصاً للمستهلكين المنزليين، ما يشكّل عبئاً مالياً على الميزانيات الأسرية أو على الصناعات المُكثّفة للطاقة.
- الخوف من فقدان المنافسة الاقتصادية: بين الدول أو بين الشركات والمناطق داخل الدولة، خاصة حين يتطلب الانتقال الطاقي استثمارات كبيرة أو تغييرات في البنية الصناعية والهيكل الإنتاجي.
- الهوية الثقافية والمقاومة تجاه التغيير: بعض السياسات الخضراء تُترجم إلى تغييرات في أنماط الحياة، وعادات التنقّل، والاستهلاك، مما يثير مقاومة لدى الفئات التي ترى أنّ التغيير يُفرض عليها أو يُضرّ بنمطها المعيشي.
- التشكّك الإعلامي والسياسي: استغلال المعلومات المضلّلة، وبثّ الشكوك حول مصداقية الأهداف المناخية، والاعتماد على روايات تقول إنّ الهدف "مبالغ فيه" أو أنّ الأضرار المحتملة من التغير المناخي لا تبرّر التكاليف المرتفعة.
أشكال الرفض في عام 2025
تظهر في السنوات الأخيرة تجليات متزايدة لهذا الرفض، من خلال جدلٍ في مراكز التفكير ووسائل الإعلام، يسلّط الضوء على أبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
فقد نشر معهد كارنيغي تقريراً أشار إلى تزايد الاحتجاجات والمقاومات السياسية تجاه عناصر "الصفقة الخضراء الأوروبية" (Green Deal). ففي شباط/فبراير 2025، جرى تمرير قانون شامل أزال أو خفّف بعض متطلبات الاستدامة للشركات في الاتحاد الأوروبي، بضغط من دول ومؤسسات اقتصادية تخوّفت من "تكلفة المنافسة" وآثارها على الصناعات التقليدية.
كما تُبيّن دراسات أكاديمية أخرى أنّ السياسات التي تُفرض فجأة أو تُلزِم قطاعات واسعة بكلفة ملموسة، غالباً ما تثير ردود فعل قوية إذا لم تُرافقها تعويضات وتواصل مجتمعي وتقديم منافع ملموسة.
وفي مسارٍ موازٍ، تشير منظمات مثل تحالف الاقتصاد الأخضر إلى أنّ العديد من الانتقادات للقوانين المناخية تُصاغ من منظورٍ يرى أنّ تلك السياسات "باهظة التكلفة"، وأنها تخدم النخب الحضرية وأصحاب الدخل المرتفع أكثر مما تخدم المواطن العادي.
اندفاع اجتماعي للتغيير في مقابل مقاومة اقتصادية وسياسية
بينما يمكن تلمّس قوة دافعة متزايدة من القطاع الخاص والمجتمع المدني والمنظمات العالمية، بما يعكس إدراكاً بأنّ التحرك المناخي لم يعد خياراً بل ضرورة، تظهر مقاومة متنامية من فاعلين اقتصاديين وسياسيين يرون في هذه السياسات تهديداً لمصالحهم أو يخشون تبعاتها على الكلفة المعيشية.
في المقابل، يتسع المسار الاجتماعي المؤيد للتحول، إذ تنشط الفئات الشبابية، والمنظمات البيئية، والمجتمعات المتضرّرة من الفيضانات والحرّ والتدهور البيئي، مطالبةً بـ"العدالة المناخية" و"التحول العادل" والاعتراف بالتفاوت في التأثر.
كما يلحظ التزام متزايد من شركات كبرى تعلن مواعيد صافية لانبعاثات الكربون واستثمارات في الطاقة المتجددة وتقنيات الحياد الكربائي، ما يُعدّ مؤشراً على أنّ بعض قوى السوق نفسها ترى في المستقبل الأخضر خياراً اقتصادياً مجدياً لا مجرد واجب أخلاقي.
الاتجاه المقاوم
يقابل تلك الاندفاعة الاجتماعية تيارٌ مقاوم، عماده قطاعاتٌ استفادت تاريخياً من ارتفاع معدلات الإنتاج وضعف الضوابط البيئية، واعتادت قياس النمو بأرقامٍ منفصلة عن الاستدامة.
من أبرز هذه القطاعات: الطاقة التقليدية (النفط والفحم) التي تخشى خسائر ضخمة في أرباحها وتطالب بتعويضات أو استثناءات أو تأجيل تطبيق القوانين البيئية.
إلى جانبها، القطاعات الصناعية الثقيلة التي تعتمد على الطاقة المكثّفة، وتخشى من أن تتحوّل السياسات الخضراء إلى عبءٍ مالي كبير ما لم تتلقَّ مساعدات.
كما تقف كارتيلات إعلامية وسياسية تروّج لمخاوف المستهلك من الغلاء وضغط الفواتير، وتضخّم سردياتٍ تزعم أن السياسات البيئية تُضرّ بالمواطن البسيط أو تُستخدم كأداة سياسية لخدمة النخب.
الأثر على بنية المجتمع
هذا التفاعل بين التعبئة المؤيدة والمقاومة المعارضة لا يمرّ من دون آثارٍ عميقة في أنسجة المجتمع، في كيفية تصوّر المستقبل، وفي التوزيع الاجتماعي للثقة والسلطة والقيم.
فالفئات ذات الدخل المنخفض والمتوسط غالباً ما تشعر أنّ الأعباء المناخية تقع عليها أكثر: ارتفاع فواتير الطاقة، تكاليف التدفئة، والنقل. بينما الفئات الثرية قادرة على تأمين مساكن أفضل، وطاقة شمسية، وسيارات كهربائية.
وتبرز أيضاً الفوارق الجغرافية، إذ تتأثر المناطق الريفية والبلدان النامية أكثر من غيرها بالسياسات التي تُصمَّم في المدن الكبرى.
ومع مرور الوقت، تتحوّل قضايا المناخ إلى محورٍ انتخابي تستخدمه الأحزاب المعارضة بوصفها ضرائب خضراء تضرّ بالاقتصاد، في حين تتبنّاها الأحزاب المؤيدة باعتبارها واجباً أخلاقياً نحو الأجيال المقبلة. وتغدو وسائل الإعلام ساحةً رمزية لهذا الصراع بين صور الأمل الأخضر ومخاوف الغلاء والبطالة.
وإذا نُفّذت السياسات المناخية بدون مراعاةٍ للتوزيع العادل للتكاليف والمنافع، فإنّ ثقة الناس بالحكومات والمؤسسات العلمية قد تتراجع، ما يُفضي إلى انسحابٍ من الالتزام أو إلى رفضٍ واسع للحقائق البيئية.
الاتجاه المحتمل
مع تراكم هذه الديناميات، تتبلور مسارات متعددة: بعضها مشرق وبعضها مقلق، لكنها جميعاً تعكس إعادة تشكيلٍ في بنية المجتمع.
فإذا ترافقت السياسات المناخية مع إجراءاتٍ تعويضية كدعم ذوي الدخل المحدود، وتحديث البنى التحتية، وبرامج تدريب مهني لنقل العمال من الصناعات التقليدية إلى الخضراء، يصبح التكامل الاجتماعي ممكناً.
كما يمكن أن تؤدي سياسات تشجيع الطاقة النظيفة إلى تحوّلٍ في موازين القوة الاقتصادية، من شركات الوقود الأحفوري إلى شركات الطاقة المتجددة، ومن الصناعات الثقيلة إلى النظيفة.
وفي المستقبل، قد تُقيَّم المجتمعات أداءها البيئي كجزءٍ من الكرامة والمواطنة، ويُنظر إلى الاستهلاك الواعي والتخفيف من الهدر كقيمٍ اجتماعية جديدة.
لكنّ المخاطر تبقى قائمة: فاستمرار "الرفض الأخضر" بدون معالجةٍ عادلة قد يُعمّق الانقسام بين فئةٍ ترى في التحول الأخضر واجباً أخلاقياً، وأخرى تراه عبئاً لا يُطاق، ما قد يُستخدم انتخابيًا لتأخير التنفيذ أو لإضعاف الالتزام الجماعي.
وهكذا، تقف المجتمعات أمام اختبارٍ مزدوج: اختبار العدالة واختبار الشرعية، أي ما إذا كانت السياسات المناخية تُدار كشأنٍ مشترك يُراعي الجميع، لا كعبءٍ مفروض من الأعلى دون مشاركةٍ شعبية حقيقية.