سراب "النصر الصعب" … تجدد السردية الإسرائيلية حول حرب أكتوبر 73
"إسرائيل" كانت تحتل سيناء كي تبقى فيها كما بقت في الجولان السوري المحتل حتى الآن، ولم تدخلها - كما لمّح الكاتب - كي تفرض على مصر السلام!
بعد مرور 50 عاماً على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، يلاحظ النشاط غير العادي للمؤرخين والكتّاب الإسرائيليين، في محاولة لإعادة صوغ تفاصيل تلك الحرب، التي مثلت - باعتراف القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين الذين عاصروها - ضربة مباغتة للذهنية الإسرائيلية التي كانت تفترض عدم وجود رغبة أو قدرة لدى القوات المصرية والسورية، في إعادة تصحيح الوضع الذي نتج من نكسة حزيران/يونيو 1967.
وعلى الرغم من أن هذه الضربة المباغتة، قد عبّر عنها بشكل واضح فيلم "جولدا"، خاصة في ما يتعلق بردود فعل القيادة الإسرائيلية على الهجمات التي تعرضت لها حصون خط "بارليف"، فإن هذا الفيلم، بجانب كتاب "18 يوماً في أكتوبر - كيف ساهمت حرب يوم الغفران في تشكيل الشكل المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط"، للكاتب الإسرائيلي أوري كوفمان، قد حاولا الترويج لفكرة أن "الجيش" الإسرائيلي قد حقق في هذه الحرب "نصراً صعباً"، نجا بموجبه من هزيمة ساحقة على يد القوات السورية والمصرية.
حقيقة الأمر أن الكتاب المذكور، والذي يعدّه كاتبه حصيلة مجهود قام به على مدار 20 سنة خلت، لا يقدم بشكل واضح ما يمكن أن نعدّه "نصراً إسرائيلياً ميدانياً حاسماً"، لأن العبرة الأساسية في تحديد هذا الأمر من عدمه - بصرف النظر عن الاعتبارات السياسية - هو ما إذا كانت الأهداف المرحلية والاستراتيجية للأطراف المتحاربة، قد تم تحقيقها أم لا.
الرغبة الواضحة من جانب مؤلف هذا الكتاب، في تصوير حالة "تحوّل الموقف الميداني"، سواء في ما يتعلق بجبهة الجولان، أو ما يرتبط بعبور القوات الإسرائيلية من "ثغرة الدفرسوار"، جعلته يسقط في خضم تناقضات عدة يمكن إضافتها إلى نقاط الضعف التي تعتري السردية الإسرائيلية لنتائج حرب 1973، خاصة أنه يعرض للمشهدين الميداني والسياسي في الجبهتين المصرية والسورية وفي الداخل الإسرائيلي، منذ عام 1968، وصولاً إلى حرب 1973، ثم مرحلة اتفاقيات السلام، والتطبيع الأخير بين بعض الدول العربية و"إسرائيل"، وهي محاولة لطمس النتائج العسكرية الباهرة للقوات العربية في حرب تشرين.
أسلحة مصر النوعية وقلب الحقائق
تناول المؤلف في الفصل الخامس عشر من كتابه، ما يرى أنه "تحجيم إسرائيلي" للتهديدات النوعية التي تضمنتها التكتيكات العسكرية المصرية، خاصة ما يتعلق باستخدام الأسلحة البحرية والبرية.
وذكر أن البحرية الإسرائيلية كانت الفرع العسكري الوحيد في المنظومة العسكرية الإسرائيلية، الذي لم يكن له دور فعال في عمليات حرب الأيام الستة عام 1967، وهي نقطة هامة نظراً لأن انخراط البحرية الإسرائيلية في حرب 1967، لم يكن هامشياً فقط، بل كان كارثياً أيضاً.
ولعل الفشل الذريع الذي طال العملية البحرية الخاصة، التي نفذتها الغواصة الإسرائيلية "تانين"، قبالة ميناء الإسكندرية، أكبر دليل على ذلك، إذ لم تفشل مجموعة الكوماندوز البحرية "شايطيت-13" التي تم إنزالها قبالة ساحل الإسكندرية في تنفيذ مهامها فقط، بل تم القبض على كامل أفرادها، وتعرضت الغواصة "تانين" نفسها لأضرار بالغة، نتيجة إصابتها بقذائف الأعماق التي أطلقتها الفرقاطة المصرية "طارق".
في هذا الصدد، أضاف الكاتب أن عملية الإغراق "الخاطئة" التي قامت بها البحرية الإسرائيلية للسفينة الأميركية "يو أس أس ليبرتي"، وكذا حادثة إغراق المدمرة "إيلات" عام 1967، قد ساهمتا في تعديل التكتيك البحري الإسرائيلي، ودفعت البحرية الإسرائيلية إلى البدء في التخلي عن القطع البحرية الكبيرة، والتركيز على امتلاك قطع بحرية صغيرة وسريعة، مسلحة بقدرات صاروخية مضادة للقطع البحرية، وهو ما أدى - حسب رأي الكاتب - إلى تحقيق "السيادة البحرية"، في المراحل اللاحقة وصولاً إلى حرب أكتوبر، وهو اعتقاد لا يتوافق مع الوقائع الميدانية التي شهدتها الفترة التي تلت عام 1967.
فقد فشلت البحرية الإسرائيلية في إيقاف العمليات المصرية الخاصة ضد ميناء إيلات، الذي تمت مهاجمته ثلاث مرات، ناهيك بتعرض قطع بحرية إسرائيلية عدة لأضرار جسيمة خلال الاشتباكات التي وقعت في حرب الاستنزاف، ومنها مثلاً سفينة الاستطلاع البحري الإسرائيلية التي تم إغراقها في منطقة "رأس بيرون" في أيار/مايو 1970.
"السيادة البحرية" التي تحدث عنها الكاتب خلال حرب أكتوبر، تستند في الأساس إلى نتائج الاشتباكات البحرية بين زوارق الصواريخ الإسرائيلية والسورية قبالة اللاذقية مساء السادس من تشرين الأول/أكتوبر 1973، وخلال الأيام التالية، لكن حقيقة الأمر أن هذا الرأي يغفل بشكل متعمد حقيقة أن البحرية الإسرائيلية لم تتمكن من تقديم المساندة النارية للوحدات البرية الإسرائيلية خلال محاولات الهجوم المضاد التي نفذتها الوحدات نحو خط "بارليف" وحصونه خلال الأيام الأولى لحرب أكتوبر.
ناهيك بتعرض المواقع الساحلية والمنشآت البترولية على امتداد الجانب الشرقي من خليج السويس، لسلسلة من الغارات القوية التي نفذتها وحدات الصاعقة البحرية المصرية خلال حرب أكتوبر، وهو التهديد الذي لم تفلح البحرية الإسرائيلية في تقليل تأثيره أو القضاء عليه طوال أيام الحرب.
وحدات الكوماندوز البحرية الإسرائيلية لم تستطع نجدة القوات الإسرائيلية التي حاصرتها وحدات المشاة المصرية في حصن "كواي" في لسان بور توفيق، وفشلت محاولتها لنجدة المحاصرين هناك، ما اضطر قائد الحصن، شلومو أردنست، إلى الاستسلام للقوات المصرية في الثالث عشر من تشرين الأول/أكتوبر، علماً أن هذا الحصن كان الوحيد الذي لم تتم السيطرة عليه من جانب القوات المصرية، في حين سقطت حصون خط "بارليف" كافة خلال الأيام الثلاثة الأولى للحرب.
وقد كان مشهد تسليم حامية الحصن نفسها إلى القوات المصرية، أحد المشاهد المعبّرة عن سقوط تكتيك "الدفاع الثابت"، الذي استندت إليه "إسرائيل" طوال فترة بقائها في سيناء، وكذا الترويج المبالغ فيه لمناعة هذا الخط الدفاعي وقوته، الذي خارت قواه أمام تدفق مياه قناة السويس من مضخات سلاح المهندسين المصري، الذي ابتكر طريقة بارعة للتغلب على هذا الخط المنيع.
لم يقتصر فشل البحرية الإسرائيلية على المستوى العملياتي، فقد تكرر الفشل الذي شهدته سواحل الإسكندرية عام 1967 مرة أخرى في السادس عشر من تشرين الأول/أكتوبر 1973، حين فشلت محاولة هجومية نفذتها وحدات بحرية إسرائيلية خاصة ضد ميناء بورسعيد، فقدت "إسرائيل" خلالها نحو 20 فرداً، وبعد هذا التاريخ بيوم واحد، فقدت البحرية الإسرائيلية إحدى سفن الإنزال في خليج السويس بنيران وحدات الصاعقة المصرية، بعد أن أرسلتها لمحاولة استطلاع إمكانية الحصول على النفط من الآبار الواقعة على الجانب الشرقي من الخليج.
كذلك لم يأتِ الكاتب على ذكر النقطة الأبرز في ما يتعلق بالعمليات البحرية في حرب أكتوبر 1973، إلا وهي عملية الحصار البحري المصري لمضيق باب المندب، والتي لم يتوفر لـ"إسرائيل" أي قدرات للتدخل فيها، وهو ما يتناقض مع ما ذهب إليه الكاتب حول "السيادة البحرية".
وقد أقرت صحيفة "جيروزاليم بوست" في عددها الصادر بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1973، بنجاعة الحصار البحري المصري، إذ قال بوضوح "منذ اندلاع الحرب، وما تبع ذلك من إغلاق مضيق باب المندب، لم تدخل أي سفينة ميناء إيلات"، وهو تماماً ما يمكن قوله على التحركات البحرية المصرية في البحر المتوسط، حيث لم تسمح البحرية المصرية سوى بعبور السفن التي لا تحمل مواد ذات استخدام عسكري إلى ميناء حيفا.
صواريخ "مالوتيكا" ومعاناة سلاح المدرعات الإسرائيلي
اللافت، أن الكاتب حاول التقليل من فعالية تكتيك ميداني آخر اتخذته الوحدات المصرية المقاتلة - وتحديداً وحدات المشاة - خلال معارك تشرين الأول/أكتوبر 1973، ألا وهو استخدام المقذوفات الموجهة بالسلك المضادة للدبابات "ساجر" المعروفة باسم "مالوتيكا"، إذ تحدث عن أن الأطقم المصرية المضادة للدبابات، اضطرت إلى إطلاق أعداد كبيرة من هذه الصواريخ على كل دبابة إسرائيلية، للتمكّن من إصابتها.
غير أنه في موضع آخر من الكتاب، تناقض مع نفسه حين ذكر أن وحدات الصاعقة المصرية تضمنت مجموعات من أفضل مطلقي الصواريخ المضادة للدبابات، وأن الإحصائيات الإسرائيلية عقب الحرب، أكدت أن نحو 42% من إجمالي الخسائر التي منيت بها الوحدات المدرعة الإسرائيلية، كانت بسبب المقذوفات المصرية المضادة للدبابات "ساجر" و"آر بي جي-7"، وأن الوحدات المصرية المضادة للدبابات، كان لها دور حاسم في تأخير وتعطيل وصول الاحتياطيات المدرعة الإسرائيلية لنجدة القوات المحاصرة في حصون خط "بارليف"، وكذلك كان لها دور مهم في التصدي للقوات المدرعة الإسرائيلية بعد عبورها من ثغرة "الدفرسوار"، وألحقت بها خسائر فادحة، أدت لاحقاً إلى عدم تمكنها من تحقيق الأهداف المرحلية الأساسية التي من أجلها عبرت إلى الضفة الغربية للقناة.
حتى على مستوى سلاح الجو الإسرائيلي، رأى الكاتب أنه - رغم الإقرار الضمني بحجم التحديات والخسائر التي فرضتها كتائب صواريخ الدفاع الجوي المصرية - فقد تمكن خلال المرحلة الأخيرة من الحرب، من التماسك، خاصة بعد تعرض حائط الصواريخ المصري لبعض التعطيل نتيجة عبور الوحدات المدرعة الإسرائيلية من ثغرة "الدفرسوار"، إذ ذكر الكاتب أن المقاتلات الإسرائيلية قد طوّرت من تكتيكاتها وابتعدت بشكل كبير خلال المراحل الأخيرة للحرب عن تنفيذ الهجمات الجوية كثيفة العدد، كما أحجمت هذه المقاتلات عن محاولة تنفيذ عمليات إحباط الدفاعات الجوية، أو ما يعرف بـ (SEAD).
لكن، لم يأت الكاتب على ذكر الفشل الإسرائيلي الكبير في شل فعالية قاعدة المنصورة الجوية يومي الرابع عشر والخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، حيث لم تفلح هجمات أربعة أسراب إسرائيلية، تضم ما مجموعه 120 طائرة في شل هذه القاعدة أو قاعدة طنطا الجوية.
وبالتالي ظلت المطارات المصرية كافة تقدم الدعم للقوات البرية طوال فترة الحرب، بالإضافة إلى عمليات الإغارة المستمرة على القوات الإسرائيلية الموجودة في ثغرة "الدفرسوار" بدءاً من يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر.
هذا الواقع يتناقض مع ما ذكره الكاتب في نهاية الكتاب، حول أن قيادة سلاح الجو الإسرائيلي قد ابتكرت طرقاً للتعامل مع صواريخ الدفاع الجوي المصرية، علماً أن التقديرات الإسرائيلية تشير إلى فقدان نحو ثلث طائرات سلاح الجو الإسرائيلي، خلال حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973.
وعلى الرغم من أن الموقف الميداني في الجبهة السورية قد تدهور بشكل سريع بعد يوم السادس من تشرين الأول/ أكتوبر، وهو ما سمح للمقاتلات الإسرائيلية بضرب العمق السوري، فإن الكاتب أشار إلى نقاط ضعف مهمة في التكتيكات العسكرية الإسرائيلية في هذه الجبهة، تعدّ في حدّ ذاتها بمنزلة مؤشرات على حجم التخبط الذي تسببت فيه الهجمات المصرية والسورية المفاجئة، إذ لم تحاول المقاتلات الإسرائيلية استهداف وحدات الدفاع الجوي السورية، وهو ما يمكن تفسيره بخشيتها من تلقيها خسائر كبيرة مماثلة لما شهدته خلال الأيام الأولى للقتال على الجبهة المصرية.
كذلك أشار الكاتب إلى فشل سلاح الجو الإسرائيلي في تحديد أماكن تحرك القوات العراقية التي بدأت في التقدم نحو الأراضي السورية، مع بداية المعارك، إذ كانت تقديرات "تل أبيب" تشير إلى أن هذه القوات لن تصل إلى مواقعها إلا بحلول يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر، لكن اكتشفت وحدات تابعة للواء الإسرائيلي المدرع 679 - مصادفة - أن طلائع القوات المدرعة العراقية، قد وصلت إلى نطاق الجبهة في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر.
اضطراب القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية
من النقاط اللافتة في هذا الكتاب، التفاصيل التي تضمنها حول حالة الاضطراب والخلافات التي ضربت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، عشية بدء العمليات العسكرية في تشرين الأول/ أكتوبر 1973، خاصة العلاقات بين قائد الجبهة الجنوبية، الجنرال شموئيل غونين، والجنرال حاييم بارليف، وكذلك بين رئيس الأركان العامة، دايفيد اليعازر، ووزير الدفاع موشي ديان، والمثير هنا أن الكاتب أوضح بشكل لا لبس فيه أن هؤلاء كانوا بشكل أو بآخر، يكرهون قائد مجموعة العمليات رقم 143 - الجنرال آرييل شارون - الذي دخل بدوره في خضم تنافس ميداني وخلافات حادة بينه وبين الجنرال أبراهام أدان، قائد مجموعة العمليات 162.
هذه الخلافات كان لها انعكاس واضح على فعالية التحركات الإسرائيلية المدرعة، التي استهدفت تنفيذ هجمات مضادة يومَي 8 و 9 تشرين الأول/ أكتوبر على القوات المصرية المتقدمة من غرب القناة، وامتدت إلى التصارع حول أهداف العبور من ثغرة "الدفرسوار" وتوقيت هذا العبور وآلياته.
إذ ذكر الكتاب أن الجنرال حاييم بارليف، الذي كان ممثلاً لرئيس الأركان في الجبهة الجنوبية، قد عارض عملية العبور نحو غرب القناة، بسبب خشيته من تعرض الدبابات الإسرائيلية للكمائن المصرية، وعدم وجود ما يكفي من معدات هندسية وجسور لعبور الوحدات الإسرائيلية، وهو ما دفع وزير الدفاع موشيه ديان، إلى التوجه يوم 17 تشرين الأول/أكتوبر إلى قرب قناة السويس، لمحاولة تسريع عملية عبور هذه الوحدات، استباقاً لوقف إطلاق النار الذي كانت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي تتفاوضان حوله، وحينها طلب قائد الجبهة الجنوبية، شموئيل غونين، من الجنرال أدان، أن يحرك دبابات فرقته نحو غرب القناة، رغم أنها لم تكن قد أعادت التزود بالوقود والذخائر.
حقيقة الأمر أن الكتاب يمر على معارك ثغرة "الدفرسوار" مروراً عابراً، فيما يركز على دور الجنرال أرييل شارون، من دون النظر إلى حقيقة ما إذا كانت الأهداف التكتيكية والعملياتية التي استهدفت "إسرائيل" تحقيقها من هذه الثغرة قد تحققت أم لا، فقد كان الهدف الأساسي من هذه الثغرة هو إيقاف الزخم الهجومي المصري في شرق القناة، ودفع القوات المصرية للتراجع إلى غرب القناة، بجانب السيطرة على النقاط الرئيسية في غرب القناة، وتحديداً مدينتي السويس والإسماعيلية، لتحقيق نصر معنوي مهم، واستخدام هذه المدن كأوراق تفاوضية.
لكن تحوّل الوجود الإسرائيلي في غرب القناة إلى الجمود الكامل بعد أيام من بدء التحرك نحو الغرب، فعلى الرغم من أن "إسرائيل" نقلت إلى هذا النطاق نحو 7 ألوية مدرعة - (نحو 700 دبابة) - فإن هذه الوحدات والمعبر الوحيد الذي استخدمته، كانت محاطة بقوات معادية من جميع الجهات، وكانت تتعرض للقصف المصري المتواصل بالأسلحة كافة، وأن أي عمليات قصف لهذه القوات الموجودة غرب القناة كانت تحقق إصابات مباشرة؛ نظراً إلى تكدس القوات في قطاع صغير من الأرض.
يضاف إلى ذلك أن الخطط كافة التي استهدفت السيطرة على مدينتي السويس والإسماعيلية، قد باءت بالفشل التام، وهو ما لم يأت الكتاب على ذكر تفاصيله، إذ فشلت مجموعة عمليات الجنرال أدان، التي كانت تتكوّن من لواءين مدرّعين، في السيطرة على مدينة السويس، منذ أن بدأت هجومها عليها صباح يوم 24 تشرن الأول/أكتوبر، وصولاً إلى فك القوات الإسرائيلية الاشتباك مع الوحدات المصرية داخل المدينة، وقيامها بالانسحاب بعد أن فقدت 88 قتيلاً ومئات المصابين، بالإضافة إلى تدمير 28 دبابة ومدرعة. هذا الوضع يطابق ما حدث في مدينة الإسماعيلية، التي فشلت الألوية التابعة للجنرال شارون في احتلالها، رغم أن التحرك نحوها تمّ عملياً بعد قرار وقف إطلاق النار في يوم 22 تشرين الأول/أكتوبر.
دهشة أميركية من الخسائر الإسرائيلية
يذكر الكتاب أيضاً تفاصيل مهمة حول التفاعلات الداخلية في الولايات المتحدة الأميركية خلال الأيام الأولى لحرب أكتوبر، وصدمة وزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر، من الوضع اللوجيستي والتسليحي والميداني الذي وصلت إليه القوات الإسرائيلية في التاسع من تشرن الأول/ أكتوبر، وهو اليوم الذي اجتمع فيه كيسنجر مرتين، مع السفير الإسرائيلي في واشنطن والملحق العسكري الإسرائيلي، وفهم منه أن "إسرائيل" قد خسرت نحو 500 دبابة و50 طائرة خلال أربعة أيام من القتال، وهو ما دفع كيسنجر للتعبير عن دهشته الشديدة من هذا الوضع، الذي يخالف تقديراته التي عبّر عنها خلال محادثة مع السفير الصيني في واشنطن، ومفادها أن "إسرائيل" سوف تهزم القوات العربية خلال 72 إلى 96 ساعة.
وهنا، أوضح الكاتب أن موقف الولايات المتحدة الأميركية من هذه الحرب والدعم العسكري المقدم لـ"إسرائيل"، كان ينطوي على بعض التيارات التي كانت تعارض تزويد "تل أبيب" بأسلحة نوعية، وكان يقود هذا التوجه وزير الدفاع الأميركي، جيمس شيلزنغر، كما أن الولايات المتحدة، في مرحلة متأخرة من الحرب، قد وضعت نصب عينيها تأثيرات سلاح النفط والإجراءات العربية في هذا الصدد، على الاقتصاد الأميركي.
إذاً، في قراءة إجمالية، يمكن القول إن هذا الكتاب يعرض للجوانب الميدانية في حرب أكتوبر، ويربطها بتطورات المشهد في الشرق الأوسط خلال السنوات اللاحقة، لإعطاء انطباع أن هذه الحرب كانت مقدمة لمسار السلام والتطبيع بين "إسرائيل" والدول العربية، وأن النتيجة الميدانية في هذه الحرب لم تكن في صالح الجانب العربي، لكنه رغم ذلك، لا يوفر رواية منطقية تفسر ما جاء على لسان القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين، في ما يتعلق بحرب أكتوبر، واعتبارهم هذه الحرب بمنزلة "هزيمة لإسرائيل".
كذلك، صوّر الكتاب تشكيل لجنة "أجرانات" للتحقيق في ملابسات الحرب، كـ "خطوة سياسية بارعة"، من جانب رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير، لتهدئة الوضع الداخلي بعد الحرب، لكن حقيقة الأمر أن اللجنة الإسرائيلية قد توصلت إلى خلاصة مفادها أن الفشل الإسرائيلي في هذه الحرب لم يكن فقط فشلاً استخبارياً تحمّلته الاستخبارات العسكرية وقائدها الجنرال إيلي زاعيرا، بل أيضاً كان فشلاً ميدانياً تحمّل مسؤوليته رئيس الأركان ديفيد أليعازر.
وهي الخلاصة التي يرى الكاتب أنها لا تتوافق مع "الواقع" الذي يراه في ما يتعلق بـ أليعازر، وكذلك في ما يتعلق بالجنرال حاييم بارليف، الذي صمم الخط الدفاعي الذي يحمل اسمه، والذي لم يمثل سقوط هذا الخط بسهولة ويسر وفي فترة وجيزة، سقوطاً لنظريات "الدفاع الثابت" الكلاسيكية فحسب، بل كان أيضاً العنوان الأكبر للنصر المصري في حرب 1973، لأن "إسرائيل" كانت تحتل سيناء كي تبقى فيها كما بقت في الجولان السوري المحتل حتى الآن، ولم تدخلها - كما لمح الكاتب - كي تفرض على مصر السلام!