خلفيات التوتر "الصاروخي" ومآلاته بين واشنطن وإسلام آباد
الخطوة الأميركية الأحدث، تجاه البرنامج الصاروخي الباكستاني، تُعَدّ، من حيث الشكل، "جرس إنذار" أكثر تصعيداً، في وجه إسلام آباد من جانب واشنطن.
في خضمّ استعدادات البيت الأبيض الأميركي لاستقبال الإدارة الأميركية الجديدة، فوجئت الأوساط العسكرية الدولية بنبأ فرض وزارة الخارجية الأميركية عقوبات مالية على أربع مؤسسات باكستانية مرتبطة بالبرنامج الصاروخي لإسلام آباد، وهو نبأ لم يكن مفاجئاً في حد ذاته - بالنظر إلى بعض المؤشرات التي طرأت خلال العامين الماضيين - إلا أن توقيته كان بمنزلة مؤشر إضافي على توجهات الإدارة الأميركية الجديدة حيال بعض الدول "الحليفة".
العقوبات المالية الأميركية شملت، بصورة أساسية، "المجمع الوطني للتنمية"، وهو إحدى الأذرع الأساسية التي تستخدمها إسلام آباد لتوفير المواد الخام اللازمة لعمليات الإنتاج والتطوير الخاصة بالبرنامج الباكستاني للصواريخ الباليستية متوسطة/بعيدة المدى، وخصوصاً سلسلة صواريخ "شاهين".
يضاف إلى هذه المؤسسة ثلاث مؤسسات اخرى، تعمل جميعها أيضاً في دعم البرنامج الصاروخي الباكستاني. وبموجب هذه العقوبات، تم تجميد أي ممتلكات أميركية تابعة للشركات المستهدفة، وحظر أي تعامل بين الشركات الأميركية وبينها، بموجب الأمر التنفيذي رقم 13382، الذي يستهدف "الأطراف المتورطة في أسلحة الدمار الشامل ووسائل إنتاجها".
تعديل مسار العقوبات الأميركية على البرنامج الصاروخي الباكستاني
من حيث الشكل، تأتي هذه العقوبات في سياق خطوات أميركية مماثلة تم اتخاذها خلال الفترات الماضية ضد شركات باكستانية وغير باكستانية، مرتبطة ببرامج تطوير الصواريخ الباليستية بعيدة المدى.
وتم، منذ عام 2021، تنفيذ ست حزم من العقوبات الأميركية ضد شركات متعددة مرتبطة بالبرنامج الصاروخي الباكستاني، لكن اللافت في هذه الحزم أن جوهر الشركات المستهدفة من خلالها كان الشركات الصينية وليس الباكستانية، مثل حزمة العقوبات، التي تم فرضها في نيسان/أبريل الماضي، واستهدفت ثلاث شركات صينية وشركة واحدة من بيلاروسيا، وحزمة العقوبات التي تم إعلانها في أيلول/سبتمبر الماضي، واستهدفت ثلاث شركات صينية وشركة باكستانية واحدة.
بالنظر إلى ما سبق، يمكن القول إن العقوبات، التي تم الإعلان بشأنها الشهر الجاري، ضد الشركات الباكستانية، تُعَد الأولى من نوعها، التي تشمل، بصورة "حصرية"، شركات تابعة لإسلام آباد، وهو ما يعني أن احتمالات كبيرة لتغير المنظور الأميركي لمستقبل البرنامج الصاروخي الباكستاني بدأت تتصاعد بصورة مطّردة مع مجيء الإدارة الأميركية الجديدة.
ففي المراحل السابقة، التي طبقت فيها واشنطن عقوبات على شركات ترتبط بالبرنامج الصاروخي الباكستاني، كان من الواضح أن التركيز الأميركي منصب بصورة كبيرة على استهداف "العلاقة" بين بكين واسلام آباد، وعلى محاولة الحد من التبادلات الفنية والتقنية بين الجانبين، وخصوصاً على المستوى العسكري، بهدف الحد من تقدم أي برامج مشتركة بين الجانبين. وبالتالي، كأن بكين في خانة التصويب الأميركية أكثر من إسلام آباد.
لكن، في المرحلة الحالية، تبدو المخاوف الأميركية "أكثر جدية" من وتيرة تطور البرنامج الصاروخي الباكستاني، وخصوصاً بعد أن بات من الواضح أن محاولات واشنطن الحد من تأثيرات العلاقات العسكرية الإيجابية بين بكين وإسلام آباد، لم تسفر عن نتائج معتبرة، وبالتالي لم يمكن مفاجئاً - من حيث المبدأ - أن تشير تقييمات وزارة الدفاع الأميركية الأخيرة إلى أن باكستان تسعى عملياً للانضمام إلى قائمة صغيرة من الدول - تشمل روسيا وكوريا الشمالية والصين - تمتلك القدرة على استهداف أراضي الولايات المتحدة الأميركية بالصواريخ الباليستية، وهذا عبّر عنه، بصورة واضحة مؤخراً، نائب مستشار الأمن القومي الأميركي، جون فينر، الذي قال إن استمرار وتيرة التقدم الحالية في برنامج الصواريخ الباكستانية طويلة المدى سيوفر لإسلام آباد القدرة على ضرب أهداف أبعد من جنوبي آسيا، بما في ذلك الولايات المتحدة.
وعلى الرغم من "وجاهة" المخاوف الأميركية، فإن بعض التحليلات يشير إلى عدم "واقعية" التحذيرات الأميركية - على الأقل في المرحلة الحالية - في ظل تراجع العلاقات الأميركية - الباكستانية بالتدريج خلال الأعوام الأخيرة، وعدم مبادرة الولايات المتحدة إلى معالجة المخاوف الباكستانية من حالة التصاعد الكبيرة في حجم البرنامج الصاروخي الهندي وقدراته، والذي يبدو أن واشنطن تمنحه فسحة كاملة من الوقت. واقع الحال أن حالة "التعادل" التي كانت سائدة بين الهند وباكستان، على مستوى معادلة الردع العسكري، باتت عملياً غير مسيطَر عليها، وهو ما شكل سبباً رئيساً لباكستان كي تلجأ إلى الصين، من أجل سد الفجوات التي تكونت في هذه المعادلة، وخصوصاً على مستويَي البحري والصاروخي.
مؤشرات التخوف من القدرات الصاروخية الباكستانية
من حيث المبدأ، المخاوف الأميركية من البرنامج الصاروخي الباكستاني تُعزى بصورة أساسية إلى حجم المحركات الصاروخية، التي يتم إنتاجها بالتعاون بين إسلام آباد وبكين، والوتيرة المتزايدة لعمليات الإنتاج، وهو الأمر الذي بات ملاحَظاً بصورة مبدئية منذ عام 2017، وهو العام الذي شهد الاختبار الأول لصاروخ "أبابيل"، متوسط المدى، والذي تَزَوَّدَ للمرة الأولى بتقنية تسمح له بإطلاق "مركبات إعادة الدخول" - المعروفة باسم MIRVs - وهي تقنية متفوقة يمكن من خلالها إطلاق عدة رؤوس حربية نحو أهداف متعددة، انطلاقاً من خارج الغلاف الجوي، وحينها أصبحت باكستان أول دولة في جنوبي آسيا تمتلك هذه التقنية، إلى أن لحقت بها الهند لاحقاً.
اللافت في هذا المسار أن بكين أعلنت، في آذار/مارس 2028 - بصورة غير معتادة - في الموقع الإلكتروني للأكاديمية الصينية للعلوم، بيع نظام تتبع بصرى متقدم لباكستان، متخصص بتحسين قدرة الصواريخ الباليستية على إطلاق رؤوس حربية متعددة، وبصورة محدَّدة صواريخ "أبابيل"، التي أجرت باكستان، أوائل العام الجاري، ثالثة تجارب الإطلاق لها، علماً بأن هذا النوع من الصواريخ يصل مداه الأقصى إلى 2200 كيلومتر، ويمثل عصب البرنامج الصاروخي الباكستاني، مع الصاروخ الباليستي، ذي القدرات النووية، والعامل عبر الوقود الصلب، "شاهين - 3"، والبالغ مداه 2700 كيلومتر، والذي تم إجراء أحدث اختبار على إطلاقه في آب/أغسطس الماضي.
بطبيعة الحال، لا يمثل مدى الصواريخ المذكورة خطراً داهماً أو حتى قريباً بالنسبة إلى الأراضي الأميركية، مقارنة مثلاً بالصواريخ الهندية، لكن وتيرة التطوير، التي لاحظتها واشنطن، نتيجة التعاون بين بكين وإسلام آباد، تُعَدّ مصدر القلق الأميركي الأساسي، وهو ما يشمل، بصورة محدَّدة، البحوث الباكستانية، التي تتم حالياً لإنتاج صاروخ عابر للقارات تحت اسم "تيمور"، يصل مداه إلى 7000 كيلومتر.
وعلى الرغم من أن البحوث الباكستانية ما زال أمامها حيز زمني طويل للوصول إلى نتائج في هذا الصدد، تجد باكستان، في المقابل، أنه لا يتم توجيه أي ضغوط إلى الهند فيما يرتبط بعمليات التطوير الصاروخي، وخصوصاً أن العام الحالي شهد عدة محطات مهمة للبرنامج الصاروخي الهندي، بداية من تنفيذ اختبار ناجح جديد لإطلاق صاروخ باليستي بعيد المدى، من نوع "أجني - 5"، مزوَّد بتكنولوجيا مركبات إعادة الدخول، مروراً باختبار أول صاروخ هندي فرط صوتي بعيد المدى، وصولاً إلى اختبار إطلاق صاروخ باليستي من على متن غواصة هندية عاملة بالطاقة النووية.
خلاصة القول أن الخطوة الأميركية الأحدث، تجاه البرنامج الصاروخي الباكستاني، تُعَدّ، من حيث الشكل، "جرس إنذار" أكثر تصعيداً، في وجه إسلام آباد من جانب واشنطن، من أجل دفع باكستان إلى تحجيم اندفاعتها الحالية والمستمرة منذ أعوام نحو الصين، وهي اندفاعه لا يرجَّح أن تتنازل عنها باكستان إذا استمرت المقاربة الأميركية "غير المتوازنة" منذ أعوام للإجراءات التي تتخذها كل من باكستان والهند على مستوى الردع الصاروخي، لكن في الوقت نفسه لا يمكن عدّ حالة التوتر الحالية بين الجانبين بمنزلة تعديل جذري في التموضع الإقليمي الحالي لباكستان، بقدر عدّه رسالة أميركية "استباقية" نحو الصين، استعداداً لرسائل أكثر كثافة بعد وصول الإدارة الجديدة إلى البيت الأبيض.