المحافظون الجدد و"إسرائيل"!
حتى نعرف أحد أبعاد الصراع القائم حالياً في منطقة الشرق الأوسط، يجب علينا أن نتبحّر في سر العلاقة التي تجمع رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو بجماعة المحافظين الجدد في الولايات المتحدة.
في مقالته العميقة والشاملة عن الدولة العميقة، والتي نشرت في مجلة "أرتكوس"، تحدث الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين عن المحافظين الجدد بصفتهم أحد أركان الدولة العميقة في الولايات المتحدة. ويقول دوغين إن أركان هذه الجماعة كانوا في الأصل من التروتسكيين الذين يكرهون الاتحاد السوفياتي وستالين؛ لأن روسيا، في نظرهم، لم تبن اشتراكية دولية بل " اشتراكية وطنية"، أي الاشتراكية في بلد واحد.
ونتيجة لهذا، في رأيهم، لم يتم إنشاء مجتمع اشتراكي حقيقي، ولم تتحقق الرأسمالية بالكامل. ويعتقد التروتسكيون أن الاشتراكية الحقيقية لا يمكن أن تظهر إلا بعد أن تصبح الرأسمالية عالمية وتنتصر في كل مكان، وتمزج بشكل لا رجعة فيه بين جميع المجموعات العرقية والشعوب والثقافات مع إلغاء التقاليد والأديان. حينها فقط سيأتي الوقت للثورة العالمية.
لذلك، استنتج التروتسكيون الأميركيون أنهم يجب أن يساعدوا الرأسمالية العالمية والولايات المتحدة باعتبارها رائدة لها، في حين يسعون إلى تدمير الاتحاد السوفياتي (وبعد ذلك روسيا، باعتبارها خليفة الاتحاد السوفياتي)، إلى جانب جميع الدول ذات السيادة. لقد اعتقدوا أن الاشتراكية لا يمكن أن تكون إلا على صعيد عالمي، ما يعني أن الولايات المتحدة بحاجة إلى تعزيز هيمنتها والقضاء على خصومها. فقط بعد أن يفرض الشمال الغني هيمنته الكاملة على الجنوب الفقير وتحكم الرأسمالية الدولية في كل مكان، ستكون الظروف ناضجة للانتقال إلى المرحلة التالية من التطور التاريخي.
ولتنفيذ هذا المخطط، اتخذ التروتسكيون الأميركيون قراراً استراتيجياً بدخول عالم السياسة الكبرى ــ ولكن ليس بشكل مباشر، لأن أحداً في الولايات المتحدة لم يصوّت لهم. بل تسللوا بدلاً من ذلك إلى الأحزاب الرئيسية، أولاً من خلال الديمقراطيين، ثم بعد اكتساب الزخم، من خلال الجمهوريين أيضاً.
لقد اعترف التروتسكيون علانية بضرورة الإيديولوجية ونظروا إلى الديمقراطية البرلمانية بازدراء، وعدّوها مجرد غطاء لرأس المال الكبير. وهكذا، إلى جانب مجلس العلاقات الخارجية، تشكلت نسخة أخرى من الدولة العميقة في الولايات المتحدة. لم يتباهَ المحافظون الجدد بتروتسكيتهم، بل أغووا العسكريين الأميركيين التقليديين والإمبرياليين وأنصار الهيمنة العالمية. وكان على ترامب أن يتنافس مع هؤلاء الأشخاص، الذين امتلكوا الحزب الجمهوري عملياً حتى وصول ترامب.
حقيقة تروتسكي
والجدير ذكره أن ليون تروتسكي كان ابناً لعائلة يهودية ثرية، وكان له أقارب من كبار المصرفيين اليهود الأثرياء، وعلى رأسهم المصرفي اليهودي الثري أبراهام جيفوتوفسكي، الذي كان شريكاً للمصرفي اليهودي السويدي أولاف أشبورغ، الذي كان مقرباً من الدوائر المالية اليهودية في فرانكفورت ونيويورك، والذي كان له دور في تمويل الثورة البولشفية.
وفي كتابه يتحدث أنتوني جي ساتون عن دور الدوائر المالية اليهودية في الولايات المتحدة بتمويل الثورة البولشفية في روسيا، على أمل أن يكسر هذا هيمنة الدولة القيصرية على ثروات الإمبراطورية الروسية ويفتح في المجال لتغلغل الرأسمال المالي المتمركز في نيويورك للسيطرة على هذه الثروات.
وقد يكون هذا أحد الأسباب التي جعلت زعيم الثورة البولشفية فلاديمير لينين يقرب تروتسكي منه، على الرغم من كرهه له، لأنه كان يأمل أن يكون تروتسكي وغيره من الشخصيات المرتبطة بالرأسمالية العالمية مثل زينوفييف وبارفوس صلات وصل مع الرأسمالية المالية لتمويل الثورة البولشفية. وقد يكون هذا أيضاً أحد العوامل التي جعلت لينين يقرب منه جوزف ستالين حتى يوازن نفوذ هذه النخبة ذات الارتباطات المشبوهة، وهو السبب نفسه الذي جعل ستالين يصفي هذه النخبة الواحد تلو الآخر بعد استتباب الأمر للنظام السوفياتي، وأيضاً تحسباً لأن يخون هؤلاء الدولة السوفياتية فيما هي على أعتاب مواجهة الغزو النازي في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي.
صعود المحافظين الجدد وعلاقتهم بـ"إسرائيل"
خلال الخمسينيات ومطلع الستينيات، أيّد المحافظون الجدد المستقبليون حركة الحقوق المدنية، والتكامل العنصري، ومارتن لوثر كينغ جونيور. ومن الخمسينيات إلى الستينيات، أيّد الليبراليون عموماً العمل العسكري من أجل منع انتصار الشيوعيين في فيتنام. والجدير ذكره أن عدداً كبيراً من المحافظين الجدد في الأصل من الاشتراكيين المعتدلين الذين ارتبطوا بالتروتسكيين، وعلى رأسهم ماكس شاختمان. وقد رفض المحافظون الجدد اليسار ما اعتبروه اليسار الماركسي الجديد بناء على عداء التروتسكيين مع الاتحاد السوفياتي.
وكان من أبرز المحافظين الجدد الذين برز نجمهم بول وولفويتز ودوج فيث وريتشارد بيرل، والذين أيّدوا انتخاب رونالد ريغن في العام 1981 ونظّمو أنفسهم في معهد "أميركان إنتربرايز" ومؤسسة "هيريتيج". وقد تأثر المحافظون الجدد بفكر الفيلسوف ليو شتراوس (1899-1973) الذي رأى أن "أزمة الغرب تكمن في عدم يقين الغرب بما يتعلق بأهدافه المستقبلية"، معتبراً أن التراث اليهودي المسيحي هو الذي يجب أن يشكل عماد الحضارة الغربية.
ومن أعلام المحافظين الجدد جين كيركباتريك التي دعت الولايات المتحدة إلى قلب أنظمة الحكم المعادية للولايات المتحدة تحت شعار نشر الديمقراطية. وفي ما يتعلق بـ"إسرئيل"، فلقد دعا المحافظون الجدد إلى اعتمادها حليفاً استراتيجياً كم دعوا إلى إعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية وتقسيمها إلى كيانات اثنية وطائفية.
ففي عام 1982، وقبيل الاجتياح الإسرائيلي للبنان، نُشرت ورقة بحثية عُرفت بـ"خطة ينون" تأليف عوديد ينون، المستشار الأول لوزير الدفاع الإسرائيلي أرييل شارون، والتي دعت إلى سياسة جيوسياسية عدوانية تهدف إلى "تقسيم" العراق وسوريا من خلال إثارة الانقسامات الطائفية والاستفادة من الانقسامات القائمة في الشرق الأوسط. وفي العام 1996، نشرت مجموعة من الاستراتيجيين المحافظين الجدد الأميركيين اليهود بقيادة ريتشارد بيرل، بناءً على طلب رئيس الوزراء الإسرائيلي المنتخب حديثاً بنيامين نتنياهو، وثيقة رئيسية لصياغة السياسات المحافظة الجديدة بعنوان "الانفصال النظيف: استراتيجية جديدة لتأمين المملكة (إسرائيل)".
وقد دعا التقرير إلى اعتماد سياسة أكثر عدوانية في الشرق الأوسط من جانب الولايات المتحدة للدفاع عن مصالح "إسرائيل"، بما في ذلك إطاحة صدام حسين في العراق واحتواء سوريا من خلال سلسلة من الحروب بالوكالة، والرفض الصريح لأي حل للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني من شأنه أن يشمل دولة فلسطينية. كما دعا التقرير إلى إقامة تحالف بين "إسرائيل" وتركيا والأردن ضد العراق وسوريا وإيران. وقد تضمن التقرير أفكار المؤيدين لـ"إسرائيل"، مثل دوغلاس فيث، وجيمس كولبير، وتشارلز فيربانكس الابن، وجوناثان توروب، وديفيد وورمسر، وميراف وورمسر، وروبرت لوينبرغ.
بعد ذلك، انطلقت أجندة المحافظين الجدد، خصوصاً مع انتخاب جورج بوش الابن (2001 – 2009) فكان انتهاز المحافظين الجدد لفرصة وقوع هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 لبدء تنفيذهم أجندتهم التي ترجمت اجتياحاً لأفغانستان في العام 2002 ومن ثم العراق في العام 2003، ليليها القضاء على ياسر عرفات في العام 2004 ومن ثم اغتيال رفيق الحريري في شباط/ فبراير 2005 في لبنان؛ تمهيداً لإحداث انقلاب ضد النفوذ السوري في هذا البلد.
وبعد تعثر الجهود الأميركية العسكرية بضمان الهيمنة على العراق وأفغانستان، وتصاعد المقاومة العراقية ومن ثم فشل العدوان الإسرائيلي ضد لبنان في العام 2006، لجأ المحافظون الجدد إلى تحقيق أهدافهم عبر الثورات الملوّنة فكان اندلاع "الربيع العربي" في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا بعد العام 2011.
جولة الصراع الأخيرة!
خلال هذه الفترة كان بنيامين نتنياهو الشخصية الأبرز في "إسرائيل"، إذ إنه كان وكيل تنفيذ سياسات المحافظين الجدد في منطقة الشرق الأوسط. لكن المحافظين الجدد كانوا قد بدأوا يواجهون عقبات في تنفيذ أجندتهم، خصوصاً بعدما تبيّن في العام 2017 أن سوريا لن تنهار. ولقد كان ذلك نتيجة التحوّلات على الصعيد الدولي مع صعود دور روسيا والصين وحلفائهما في مواجهة الهيمنة الأميركية.
لكن، في العام 2020، شكّل انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة فرصة للمحافظين الجدد لترميم أجندتهم فكان أن دفعوا باتجاه تصعيد ضد روسيا في أوكرانيا، وضد الصين في شرق آسيا، وكان أن أطلقوا في العام 2023 مبادرة "الممر الهندي الشرق أوسطي الأوروبي" في محاولة لعرقلة مبادرة "الحزام والطريق" الصينية و"شمال جنوب" الروسية، وفرض نظام إقليمي تكون "إسرائيل" قاعدته عبر لعبها دور صلة الوصل بين الهند من جهة، وأوروبا من جهة أخرى.
حتى تكون القاعدة صلبة، كان على "إسرائيل" فرض هيمنتها على كامل مساحة فلسطين التاريخية، والتخلص من الوزن الديمغرافي الفلسطيني في غزة والضفة الغربية وحتى الأراضي المحتلة في العام 1948. لذا، فإن ما نشهده اليوم من صراع في المنطقة، وخصوصاً في غزة والضفة الغربية وجنوب لبنان، يأتي في سياق محاولة تحقيق هذا الهدف.