الثقافة الغربية.. لماذا لا يجرؤ غير الأوروبي على التغلب على الأوروبي؟

المثلي أو المثلية أو المتحول هو مقبول إذا كان أوروبياً أو يهودياً، أما عند اللزوم فيمكن أن ترمى هذه القضية في وجه من يتحدى الثقافة الأوروبية الغربية لضرب صدقيته.

0:00
  • عن  ازدواجية معايير الثقافة الغربية الليبرالية السائدة.
    عن ازدواجية معايير الثقافة الغربية الليبرالية السائدة.

ضجة كبيرة أُثيرت حول العالم وحملة احتجاج واسعة انطلقت نتيجة لوحة "فنية" من ضمن فعاليات افتتاح أولمبياد باريس 2024. اللوحة "الفنية" تضمنت عرضاً لمثليين ومثليات وتوابعهم متحلقين حول مائدة، في محاكاة للوحة العشاء الاخير للسيد المسيح، والتي رسمها الرسام الإيطالي ليوناردو دافينشي، في القرن السادس عشر.

امرأة يهودية متحولة مكان السيد المسيح

شكلت اللوحة تحديا لكل القيم المتعارف عليها، عبر تقديم مشهد مناقض تماماً للتعاليم المسيحية التي ترفض مجتمع الميم كلياً. وما فاقم الوضع أنه عوضاً من السيد المسيح، الذي يحتل وسط الصورة في لوحة ليوناردو دافينشي، والذي يصوره الرسام الايطالي في صورة رجل وسيم نحيل، وبطبيعة الحال سوي، احتلت وسط الصورة في لوحة الميم المثلية الأولمبية امرأة دميمة وبدينة وسحاقية، ويهودية الديانة. 

هذه المرأة هي منسقة الموسيقى والناشطة الفرنسية في مجال حقوق المثليات، باربرا بوتش، البالغة من العمر 43 عاماً. وفي مقابلات متعددة، زعمت بوتش أن أفراد عائلتها قُتلوا في معسكرات الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية الثانية، وأنها عانت معاداة السامية في أثناء طفولتها، وانضمت إلى الكشافة اليهودية الفرنسية، التي شكلت "مساحة آمنة" مع "أطفال فقراء وأغنياء"، بحيث تعلمت العزف على الغيتار، وبدأت استكشاف حياتها الجنسية.

وهي أعلنت مثليتها الجنسية لعائلتها عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها، ووصفت معاناتها في أول علاقة بامرأة، وهي التجربة التي حفزت جهودها كناشطة حتى يومنا هذا. وهي تصف نفسها بأنها مثلية الجنس، يهودية، بدينة، وفخورة حقاً بكل هوياتها، لأنها تجعلها ما هي عليه كإنسانة. 

حملات الاستهجان والاستنكار قوبلت بحملة تعاطف قوية من المجتمعات الليبرالية الغربية، التي شنت حملة مضادة على قيم "الانغلاق" و"الانعزال" و"رفض الآخر"، مؤكدة أن اللوحة هذه تشكل جسراً لقبول الاخر المغاير.

قضية اللاعبة الجزائرية

كان يمكن لهذا الأمر أن يتم تجاوزه لولا حادثة جرت بعد أسبوع واحد على العرض هذا. ففي الجولة الثانية لوزن 66 كغم سيدات، فازت الملاكمة الجزائرية إيمان خليف على منافستها الإيطالية أنجيلا كاريني، بعد توجيهها لكمة قوية إلى وجهها بعد 46 ثانية على بداية المباراة، لتبدأ الإيطالية البكاء بعد أن رفضت العودة إلى النزال، متهمة الجزائرية بأنها رجل متحول "لأنه لا يمكن لامرأة أن تكون بهذه القوة". 

هنا انبرى الجمهور نفسه، الذي دافع عن لوحة المتحولين والمثليين وغيرهم من أفراد مجتمع الميم، ليهاجم خليف ويطلق ضدها حملة تنمّر تطعن في أنوثتها: "هل هذا شكل امرأة"، ويوجِّه إليها الإهانات والاستهزاء.

الجدير ذكره أن إيمان خليف سبق أن مثلت الجزائر في الألعاب الأولمبية الصيفية 2020 في طوكيو، والألعاب الأولمبية الصيفية 2024 في باريس. وهي نشأت في بلدية السوقر في ولاية تيارت، شمالي غربي الجزائر، في عائلة فقيرة جداً. وعملت في بيع الخردة والخبز حتى تتمكن من دفع تكاليف تدريبها، والانتقال إلى قرية مجاورة لحضور الدورات التدريبية.

وسبق لخليف أن هُزمت في السابق من سيدات في مسابقات السيدات للملاكمة، بحيث احتلت المركز الـ17 في بطولة الاتحاد الدولي للملاكمة للسيدات في عام 2018، والمركز الـ33 في بطولة العالم عام 2019، والتي أُقيمت في روسيا، وهُزمت في دور ربع النهائي في أولمبياد طوكيو في عام 2020. وفي عام 2022، شاركت خليف في بطولة الاتحاد الدولي للملاكمة للسيدات، وأصبحت أول ملاكمة جزائرية تصل إلى النهائي بعد فوزها على الهولندية شلسي هايجن، لكنها هُزمت في النهائي أمام الآيرلندية إيمي برودهرست.

إذاً، في كل هذه المناسبات، لم تُثَر مشكلة أمام مشاركة خليف، حتى جاء عام 2023 حين كانت في طريقها إلى إحراز الميدالية الذهبية بعد فوزها في المباراة النهائية على لاعبة روسية، حين تدخل رئيس الاتحاد، وهو روسي، اسمه عمر كريمليف، ليعلن عدم أهلية خليف نتيجة فشلها في اختبار الأهلية، زاعماً أنها رجل متحول ليمنح الذهبية للاعبة الروسية. والجدير ذكره أن تحقيقات الاتحادات الدولية الرياضية أثبتت فساد كريمليف وقررت سحب رخصة اتحاده. وعلى رغم ذلك، فإن الحملة الدولية على خليف تواصلت على الرغم من جميع الأدلة التي قُدمت، والتي تثبت أنها امرأة، علماً بأن الجزائر لا تسمح بعمليات التحول الجنسي، بل تجرّمه. 

وفي الـ2 من آب/أغسطس 2024، أعرَبت منظمة الأمن العالمية لمكافحة الفساد عن دعمها الملاكمة الجزائرية إيمان خليف بسبب تعرضها لاتهامات لا أساس لها تتعلق بجنسها، الأمر الذي أثار فضيحة خلال الألعاب الأولمبية الصيفية 2024 في باريس. ودانت المنظمة الاتهامات ضد خليف ووصفتها بأنها افترائية وَتمييزية وبلا أساس، ولاسيما الصورة التي نشرتها الملاكمة الهنغارية لوكا هاموري، والتي تصورها على أنها وحش له قرنان، يرتدي بدلة الملاكمة مقابل المُلاكِمة لوكا هاموري.

قضية اللاعبة التايوانية

قضية خليف أُرفقت بقضية أخرى أثارتها لاعبة بلغارية ضد منافستها التايوانية. مرة جديدة، يرفع الأوروبيون فرضية "هل شكل لين هو شكل امرة". فبعد هزيمة اللاعبة البلغارية سفيتلانا كامينوفا ستانفيا، استشاط مدربها غضباً متهماً منافستها التايوانية لين يو تينج بأنها رجل متحول بعد أن فازت البطلة التايوانية، وهي بطلة العالم مرتين، بالإجماع. واحتجّ المدرب البلغاري على لجان التحكيم، مؤكداً أن اختبارات تحديد الجنس، التي أجرتها رابطة الملاكمة الدولية على المقاتلين، كانت معيبة وغير شرعية.

رداً على ذلك، أعلنت وحدة باريس للملاكمة، وهي وحدة خاصة أنشأها المجلس التنفيذي للجنة الأولمبية الدولية لتنظيم منافسات الملاكمة، أنها تقف إلى جانب حكامها وقضاتها. وأضافت أن لديها ثقة بعملية اختيار الحكام والقضاة، الذين سيديرون مباريات دورة الألعاب الأولمبية في باريس 2024، والتي استندت إلى خطوات متعددة، شملت فحص المسؤولين ومعايير الأداء والقرعة العشوائية، علماً بأنه يتم تقييم كل مباراة بصورة مستقلة من جانب شخصين: أحدهما في ميدان اللعب، والآخر في غرفة مزودة بتقنية الفيديو.

ازدواجية معايير الثقافة الغربية

بناءً على ما تقدَّم، ظهرت ازدواجية معايير الثقافة الغربية الليبرالية السائدة. لقد تم الحكم على أنوثة خليف ولين، بناءً على "الشكل"، الذي لا يتوافق مع معايير الأنوثة "الغربية"، كما تم الحكم عليهما، بناءً على اختبارات مشكوك في صدقيتها، ومبنية على أحكام مشوبة بالفساد. لكن الأخطر من ذلك أن قضية أهليتهما أُثيرت لأنهما غير أوروبيتين فازتا على أوروبيتين.

فهل بتنا في زمن "بات غير الأوروبيين يتغلبون على الأوروبيين المتفوقين عرقياً؟". وهذا يعيد إلى أذهاننا موقف الزعيم الألماني أدولف هتلر في أولمبياد ميونيخ 1936، حين انسحب من المنصة احتجاجاً على فوز الأميركي الأسود جيسي أوينز، لأنه تجرأ وفاز على الألمان البيض، المتفوقين عرقياً. إذاً، القضية هي في الأساس أنه لا يجب أن يتجرأ غير الأوروبي على التغلب على الأوروبي. 

أمّا القضية الثانية، فتكمن في القيم الجديدة، التي يحاول الغرب تعميمها، وتناقض هذه القيم. فالمثلي أو المثلية أو المتحول هو مقبول إذا كان أوروبياً أو يهودياً، أما عند اللزوم فيمكن أن ترمى هذه القضية في وجه من يتحدى الثقافة الأوروبية الغربية لضرب صدقيته حتى لو لم يكن من مجتمع الميم، الذي يعلي الغرب من شأنه فقط حين يريد. إذاً، هو تناقض المفاهيم الغربية، الذي لا نجد له قاسماً مشتركاً إلا من أجل العداء تجاه من هو غير غربي.