الثدييات المائية ومستقبل التسليح البحري الدولي
برامج الحرب البحرية للثدييات المائية تنطوي على عدة مميزات، تجعلها مرشحة للاستمرار والتطور خلال المدى المنظور، وخصوصاً أن الثدييات البحرية، في مجملها، تمتلك قدرات بقائية وعملياتية فائقة تحت الماء.
في ظلال العمليات العسكرية الدائرة حالياً في عدة مناطق حول العالم، شهدت السواحل النرويجية، الشهر الجاري، حادثة تبدو من حيث الشكل غير مرتبطة بالتسليح البحري او الأنشطة العسكرية، لكنها من حيث المضمون يمكن عدّها مؤشراً مهماً على توجه بدأت عدة دول في التوغل فيه أكثر، لتطوير تسليحها البحري، على نحو يشكل ملمَحاً من ملامح مستقبل القتال في المسارح البحرية المتعددة.
تتلخص هذه الحادثة في عثور السلطات النرويجية على حوت من نوع "بيلوغا"، نافقاً على سطح خليج "ريسافيكا" جنوبي النرويج، في منطقة لا تبعد كثيراً عن المياه الإقليمية الروسية.
هذه الحادثة رسمت نهاية حياة هذا الحوت، الذي اكتشفته السلطات النرويجية للمرة الأولى في نيسان/أبريل 2019، ولفت الانتباه حينها نتيجة أنه كان مزوداً بحزام خاص يمكن أن يثبت عليه معدات متعددة، بينها كاميرا، وهو ما أثار شكوكاً في إمكان أن يكون هذا الحوت "أداة تجسسية" لموسكو من أجل استطلاع السواحل، ثم أطلقت عليه السلطات النرويجية اسم "هفالديمير". الثدييات المائية ودورها أداةَ "قتال" بحرية حقيقة الأمر أن مخاوف السلطات النرويجية في هذا الصدد، لها ما يبررها، فلقد برزت، خلال الأعوام الأخيرة، برامج استخدام الثدييات المائية من جانب بعض القوات البحرية على المستوى الدولي، لأغراض قتالية او دفاعية بحتة، سواء استخدام هذه الكائنات كوسيلة فعالة ومنخفضة التكلفة لحماية الموانئ المهمة والسفن الحربية باهظة الثمن، او استخدامها وسيلةً لتنفيذ هجمات على الضفادع البشرية المعادية، أو حتى تنفيذ عمليات استطلاع أو إزالة للألغام البحرية.
ومن المعروف أن وحدات الثدييات المائية، والتي تشمل الدلافين والحيتان البيضاء وأسود البحر والفقمات، باتت فعلاً أمراً واقعاً في عدد من القوات البحرية الكبرى حول العالم، وتحديداً القوات البحرية للولايات المتحدة الأميركية وروسيا، كما تمتلك دول أخرى برامج لتدريب الثدييات البحرية واستخدامها، لكن في نطاق أصغر، مثل كوريا الشمالية و"إسرائيل".
هناك اعتقاد سائد، مفاده أن برامج الثدييات البحرية الأميركية تركز، بصورة أساسية، على المهمّات الدفاعية، وخصوصاً عمليات رصد الألغام البحرية وإزالتها، وحراسة الموانئ، في حين يبدو أن البرنامج الروسي المناظر هو مهمات هجومية، منها تدريب بعض الدلافين على استهداف عناصر الضفادع البشرية المعادية، وتدريب أسود البحر على الاقتراب من السفن الحربية المعادية، لتفجيرها بواسطة سترة متفجرة، إلى جانب المهمات الدفاعية الأساسية، مثل رصد مواقع الألغام البحرية.
الخصائص الفريدة، التي تتمتع بها الثدييات المائية، وفرت لها قدرات لا تتوافر للعنصر البشري، او حتى القدرات البحرية المسيرة عن بعد، أتاحت لها تنفيذ بعض المهمّات البحرية بصورة فعالة، وعلى رأسها مهمّات البحث عن الألغام البحرية، فالدلافين مثلاً تمتلك سوناراً بيولوجياً يكتشف الألغام البحرية بشكل أسرع وأفضل من أجهزة السونار الحديثة، وتستطيع بشكل سريع العثور على الألغام المربوطة بقاع البحر، أو المستقرة في القاع، أو المدفونة بالكامل في الرواسب، ثم تقوم بإسقاط عوامة تحديد بالقرب من اللغم الذي تم العثور عليه، حتى يتمكن الغواصون من انتشالها وتعطيلها.
كما أن قدرات السباحة والغطس المتفوقة للدلافين وأسود البحر، تتيح لها بشكل فعال التأمين والحراسة للأرصفة البحرية والموانئ والقنوات الملاحية، ضد تسلل عناصر الضفادع البشرية أو المركبات الغاطسة المسيرة، ويمكن لها، بعد التدريب، أن تحدد هوية الهدف الذي ترصده، وتقوم بوضع علامة عليه بصورة يمكن من خلالها تحديد موقعه الدقيق، ناهيك بأنه يمكن تدريبها على الاشتباك معه بصورة مباشرة.
وتشمل هذه المهارات أيضاً عمليات البحث عن الأجسام الغارقة او الأشياء المفقودة تحت الماء، بحيث تتميز أسود البحر برؤية جيدة جداً في الإضاءة المنخفضة تحت الماء، الأمر الذي يمنحها القدرة على اكتشاف أي أجسام تحت الماء ورصدها. من المرجح أن بعض الثدييات البحرية يتم تدريبه على أداء مهمات جمع المعلومات الاستخبارية، عبر حمل الكاميرات أو أجهزة الاستشعار الأخرى إلى مناطق ذات أهمية، مثل السواحل المعادية، أو حتى تنفيذ مهمات فحص البنية التحتية تحت الماء، مثل خطوط الغاز وكوابل الاتصالات.
كما أنها تمتلك القدرة - بعد تدريبات خاصة - على إرفاق ألغام لاصقة بسفن العدو، عبر التسلل إلى الموانئ، أو حتى حمل أجهزة تشويش خاصة تستهدف تحييد أجهزة السونار المعادية، لكن هذه القدرة لم يتم تطبيقها بصورة عملية.
مما سبق يمكن القول إن التطبيقات العسكرية لاستخدام الثدييات البحرية تبدو واسعة المجال، وتستفيد من القدرات البيولوجية لهذه الكائنات مقارنة بالإنسان، فهي تسبح بصورة أسرع، وتذهب إلى أعماق أكبر، ولديها مدى أطول، وتستشعر محيطها بطريقة أفضل، وتتسم بتمويه طبيعي لا يوجد مُناظر له، ولا يمكن استخلاص معلومات استخبارية منها في حالة القبض عليها.
لكن، على رغم هذه المزايا، فإنه توجد ايضاً بعض العوامل التي تحد من قدرات هذه الكائنات في المجال العسكري البحري، منها وعيها المحدود بالمهمات الموكلة إليها، وعدم قدرتها على تنفيذ عمليات برمائية، إلى جانب اعتمادها الكلي في التدريب والإعاشة على البشر، والحاجة في معظم الأحيان إلى وسائط بحرية لنقلها إلى مناطق قريبة من العدو.
البرنامج الأميركي لاستخدام الثدييات في الميدان العسكري على الرغم من تصدر كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا أبحاث استخدام الثدييات وتطبيقاتها على المستوى العسكري البحري، فإن السويد كانت صاحبة ضربة البداية في هذا المضمار، بحيث أنشأت في مطلع أربعينيات القرن الماضي، وحدة بحرية خاصة في جزيرة "جالو"، من أجل البحث في إمكان تدريب الفقمات البحرية على تنفيذ مهمات دفاعية وقتالية، وخصوصاً مهمّات تحديد مواقع الألغام البحرية والغواصات المعادية.
لكن سرعان ما طغت فعاليات الحرب العالمية الثانية على هذا البرنامج، الذي تلقفته بعد ذلك كل من واشنطن وموسكو. حقيقة الأمر أن الثدييات البحرية كانت جزءاً مهماً من سباق التسلح بين الجانبين خلال الحرب الباردة، وكانت واشنطن صاحبة الخطوة الأولى في هذا الصدد، بحيث بدأت البحرية الأميركية، عام 1960، اختبارات على أكثر من 19 نوعاً من الثدييات البحرية، للبحث في إمكان تنفيذها مهمّات بحرية متعددة، منها الكشف عن الألغام، وأختبار الغواصات الجديدة، وتجربة الأسلحة تحت الماء، وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن الدلافين ذات الأنف الزجاجي، وأسود البحر الكاليفورنية، تمثل الخيارات الأمثل في هذا الصدد، فلقد كانت ميزة الدلافين امتلاكها قدرة متطورة على رصد الأهداف تحت سطح الماء، في حين تتميز أسود البحر بقدرات ممتازة على الرؤية تحت الماء.
عقب هذه التجارب، أسست البحرية الأميركية، عام 1964، أول مختبر خاص ببرنامج تدريب الثدييات البحرية، في منطقة "كي ويست" في ولاية فلوريدا الأميركية، لتحقيق هدفين أساسيين، الأول هو تدريب أنواع الثدييات المختارة على المهمات البحرية سالفة الذكر. والثاني هو دراسة ديناميكات الحركة والشكل لجسد بعض هذه الثدييات، من أجل تحسين الخصائص الهيدروديناميكية الخاصة بالغواصات والطوربيدات وتطويرها. وأطلق هذا المختبر أول برنامج تدريبي للثدييات البحرية أواخر الستينيات، تخصص بتدريب الحيتان القاتلة، على استعادة المفقودات الموجودة في أعماق سحيقة، وبالفعل تم تدريب ثلاثة حيتان من نوعين متباينين على هذه المهمات.
منذ ذلك التوقيت، استخدمت البحرية الأميركية، بصورة ميدانية، الدلافين وأسود البحر والفقمات في مهمات بحرية متعددة، بدءاً باستخدام الدلافين في حراسة الموانئ والسفن الحربية خلال حرب فيتنام، مروراً باستخدام الدلافين لحماية محيط سفينة القيادة البحرية "لاسال" في الخليج العربي، خلال الحرب العراقية الإيرانية، وصولاً إلى استخدام الدلافين وأسود البحر في رصد عمليات الضفادع البشرية والألغام البحرية خلال الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
وبات لبرنامج تدريب الثدييات البحرية الأميركي، مقرّ رئيس في مدينة سان دييغو في ولاية كاليفورنيا، إلى جانب مرافق تدريب أساسية في جزيرة هاواي. ويتعدى تعداد الحيوانات المشاركة في هذا البرنامج في الوقت الحالي مئة حيوان، بينها أكثر من 70 دولفيناً. موسكو تتوسع في البرنامج العسكري للثدييات البحرية على رغم أسبقية واشنطن في الولوج لهذه المجال، فإن موسكو بدأت، منذ منتصف ستينيات القرن الماضي - بعد أن رصدت التجارب الأميركية في هذا الصدد - في تأسيس برنامجها الخاص لاستخدام الثدييات المائية في وحدات الأسطول السوفياتي، وافتتح، عام 1965، أول منشأة بحثية لخدمة هذا الغرب، في منطقة "كازاشيا بوختا"، بالقرب من قاعدة أسطول البحر الأسود في مدينة "سيفاستوبول" في شبه جزيرة القرم. وأجرت هذه المنشأة سلسلة من التجارب لتدريب الدلافين لتحديد الأجسام المشبوهة أو الأفراد بالقرب من الموانئ والسفن، فضلاً عن اكتشاف الغواصات أو الألغام تحت الماء.
كما تم تدريب الدلافين القتالية السوفياتية على زرع المتفجرات على السفن المعادية، وتنفيذ مهمات "انتحارية" عبر شحنات متفجرة تقوم الدلافين بحملها والاصطدام بالسفن المعادية. واتسم البرنامج السوفياتي الخاص بالثدييات البحرية بأنه كان موسعاً، سواء من حيث أنواع المهمات التي تم التدريب عليها، أو عدد أنواع الثدييات التي تم إخضاعها للتدريب، بحيث أجرت موسكو تدريبات للحيتان البيضاء والدلافين والفقمات، عبر مختلف أنواعها، بحيث كان البرنامج السوفياتي مقسَّماً بين المياه الدافئة في البحر الأسود، والتي كانت تعمل فيها الدلافين، والمياه الباردة في القطب الشمالي، والتي كانت تعمل فيها الفقمات والحيتان البيضاء. عقب سقوط الاتحاد السوفياتي، ورثت أوكرانيا برامج الثدييات البحرية الخاصة بالبحرية السوفياتية، وقامت بإدارته لمدة 23 عاماً، إلى أن استعادت البحرية الروسية هذا البرنامج بعد ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، ومنذ ذلك التوقيت ظهرت دلائل على عودة هذا البرنامج إلى النشاط الكامل، فقد أدخلت البحرية الروسية عدة دلافين قاعدتها البحرية في ميناء طرطوس السوري، اواخر عام 2018، لمدة عدة أشهر، واتضح أن هذه العملية كانت تدريباً عملياتياً لهذه الدلافين على عمليات حراسة القاعدة ضد عمليات نشر الألغام البحرية أو أنشطة الضفادع البشرية.
وتكررت هذه العملية، مرة أخرى، لكن هذه المرة في المسرح الأوكراني، فلقد بدأ أسطول البحر الأسود، منتصف عام 2022، نشر فرق من الدلافين المدربة، لحراسة مداخل ميناء "سيباستوبول" - وهو القاعدة الأساسية للأسطول -. كذلك ظهرت دلائل إضافية على تفعيل موسكو بصورة أكبر لقاعدة تدريب الحيتان البيضاء والفقمات في القطب الشمالي، والتي تقع بالتحديد في منطقة "أولينيا جوبا"، قرب قاعدة الغواصات الرئيسة التابعة لأسطول الشمال الروسي في شبه جزيرة كولا.
ونشطت، منذ أواخر عام 2019، حيتان "بيلوغا" روسية مدربة في هذه القاعدة، في عدة مناطق في بحر الشمال، وخصوصاً الخلجان الرئيسة مثل "ساديا" و"تونيا"، وترتبط هذه الحيتان - مثلها في ذلك مثل الحوت الذي نفق قبالة الساحل النرويجي - بأحزمة مخصصة بحمل كاميرات التصوير، وتعتقد بعض التحليلات أن هذه الحيتان مخصصة للاستطلاع والمراقبة في القطب الشمالي، بحيث يتم تحديد مواقع سفن التجسس وتحديد هويتها، وخصوصاً تلك السفن التي تكون متخفية في شكل قوارب صيد. بالإضافة إلى موسكو وواشنطن، دخلت خلال الأعوام الأخيرة أطراف اخرى على خط الاستفادة من الثدييات المائية في التسليح البحري، منها كوريا الشمالية وإيران وربما الصين أيضاً، لكن من النقاط اللافتة في هذا الصدد، سعي "إسرائيل" لدخول هذا المجال، وهو ما اتضح من خلال حادثتين تمتا عامي 2015 و2022، وخلالهما عثرت كتائب القسام على دولفينين يحملان تجهيزات خاصة، بينها جهاز قادر على إطلاق أسياخ وسهام صغيرة تستطيع قتل أي إنسان يبحر إلى عمق معين تحت الماء أو إصابته بجروح خطيرة، وهو ما مثل أول دليل على سعي البحرية الإسرائيلية للاستفادة من الثدييات البحرية في تنفيذ مهمات خاصة.
في الخلاصة، يمكن القول إن برامج الحرب البحرية للثدييات المائية تنطوي على عدة مميزات، تجعلها مرشحة للاستمرار والتطور خلال المدى المنظور، وخصوصاً أن الثدييات البحرية، في مجملها، تمتلك قدرات بقائية وعملياتية فائقة تحت الماء، لا تتوافر للعنصر البشري حتى إن تم تزويده بأحدث المعدات. يضاف إلى ذلك أن التطور الذي طرأ على التسليح البحري من جهة، وعلى نظرة القوى الكبرى لأهمية الممرات البحرية والنطاقات التي تحتوي على ثروات غازية او نفطية، تجعل من الضروري للبحريات الكبرى حول العالم أن تحرص على امتلاك بدائل متعددة لتحقيق السيادة تحت سطح الماء.
والثدييات البحرية توفر البديل الفعال والأكثر توفيراً للنفقات والموارد، لتحقيق هذا الهدف، لكنها لا يمكن في الوقت نفسه ان تكون بديلة من العنصر البشري، أو القدرات التقليدية، أو الوسائط المسيرة، لأن لكل منها ميزته ودوره في المسرح البحري الحديث.