استدارة الإدارة الأميركية إلى الداخل.. هل تدفع لندن إلى إعادة حساباتها الاستراتيجية؟
انعدام الثقة ين لندن وواشنطن، فضلاً عن توجهات الرئيس الأميركي المنتخب في الانعزال والاهتمام بالشأن الداخلي الأميركي قد يفرض على الحكومة العمالية البريطانية التقرب أكثر من الجار الأوروبي.
إنها المرة الأولى منذ ونستون تشرشل التي يشارك فيها رئيس وزراء بريطانيا ذكرى نهاية الحرب العالمية الأولى إلى جانب الرئيس الفرنسي في باريس. صورة رئيس الحكومة البريطانية كير ستارمر إلى جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تنبئ بحجم التحديات الاستراتيجية والدولية التي يستشرفها قادة الدول الأوروبية بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
ويمثل فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية أبرز التحديات لبريطانيا لما يمثله الرئيس المنتخب من أفكار ورؤى تصادمية مع الأولويات الاستراتيجية البريطانية في عدد من الملفات الداخلية والخارجية. وليس خافياً على أحد أن حزب العمال الحاكم في بريطانيا كان يفضل فوز الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأميركية، وقد سعى وفق ما نشرته حملة ترامب من خلال إرسال ناشطين من حزب العمال لمساعدة حملة كامالا هاريس في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
ولعلّ أخطر ما تواجه لندن وباريس هو تنفيذ ما تعهد به الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بإنهاء الحرب الأوكرانية، الأمر الذي قد يعرض وفق ما يراه قادة الدول الأوروبية الأمن القومي لبلدانهم للخطر. وترى هذه الدول أن سياسة ترامب في إنهاء الحرب الأوكرانية ستمنح موسكو اليد الطولى في أوروبا. فبريطانيا وفرنسا انخرطتا على مدى عامين إلى جانب كييف في المجهود العسكري والاقتصادي والأمني ضد روسيا، ما تسبب بتكلفة مالية هائلة، كما تعرض اقتصادهما بسبب التضخم لأزمة اقتصادية خانقة. وتشهد الدول الأوروبية حراكاً دبلوماسياً وأمنياً واسعاً لدرء خطر إقفال الملف الأوكراني لمصلحة موسكو.
وفي هذا السياق، يرى مراقبون إن مشاركة كير ستارمر إلى جانب الرئيس الفرنسي في إحياء مراسم نهاية الحرب العالمية الأولى في باريس هدفها تكثيف الجهود بين البلدين لإقناع الرئيس الأميركي جو بايدن باستخدام صواريخ ستورم شادو ضد روسيا، وهو صاروخ بريطاني -فرنسي من فئة كروز يصل مداه إلى نحو 250 كلم، قبل نهاية عهده في مسعى منهما إلى توريط الإدارة الأميركية الجديدة في أوكرانيا، وإفشال مخطط ترامب في التقرب من روسيا على حساب أوروبا.
لا تمثل الحرب الأوكرانية الخلاف الوحيد لبريطانيا مع إدارة ترامب الجديدة، بل تبرز قضية حلف "الناتو" والضغط الذي يمارسه الرئيس الأميركي المنتخب على الأعضاء فيه بزيادة موازنة الدفاع بنحو اثنين ونصف في المئة، وهذه المسألة ربما تعدّ الأكثر تعقيداً لبريطانيا نتيجة تردي أوضاعها الاقتصادية.
إن ما يحمله الرئيس دونالد ترامب من توجهات اقتصادية قد تكون المملكة المتحدة في مرمى نيرانه، والتي ستكون الأكثر وطأة على الاقتصاد البريطاني في حال فرض التعرفة الجمركية بنسبة قد تصل إلى عشرين في المئة على السلع المستوردة من المملكة المتحدة، إذ تقدر قيمة العلاقة التجارية لبريطانيا مع الولايات المتحدة الأميركية كأكبر شريك تجاري لها بأكثر من 300 مليار جنيه إسترليني سنوياً. الحرب التجارية الأميركية إذا أصابت الاقتصاد البريطاني ستفتح فصلاً جديداً في العلاقة بين البلدين، وقد تضع الحكومة البريطانية في موقف صعب في اتخاذ إجراءات لمواجهة الحرب الاقتصادية الأميركية.
ولا يبدو بحسب ما يظهر من مواقف رسمية أن بريطانيا ستحذو حذو أوروبا في فرض تعرفة على الواردات الأميركية؛ لأن هذه المواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية، بحسب المراقبين، ستكون لها انعكاسات سلبية جداً على الاقتصاد البريطاني. وتشير الأرقام الاقتصادية إلى احتمال خسارة بريطانيا نحو ثلاثين مليار دولار في حال فرض ترامب التعرفة بنسبة عشرين في المئة ضد الواردات البريطانية، فضلاً عن ارتفاع التضخم بنسب عالية جداً، وأن أكثر القطاعات المعرضة للخطر هي تلك المتعلقة بالتأمين والعمليات المصرفية والاستشارات وغيرها من المواد التجارية.
ويرى المعهد الاقتصادي والأبحاث الاجتماعية أن تأثير التعريفات الجديدة على الاقتصاد البريطاني سيخفض الناتج القومي بنسبة صفر فاصل ثمانية في المئة في العام المقبل، ما قد يزيد من الفجوة الاقتصادية التي تصل إلى ما يقارب 22 مليار جنيه إسترليني.
العقبات الأميركية الجديدة أمام الحكومة العمالية في لندن
العلاقة بين لندن وواشنطن لطالما وصفت بالتاريخية والمميزة، وهو توصيف دأب عليه الساسة البريطانيون منذ رئيس الوزراء الأسبق ونستون تشرشل. ومع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، قد تشهد العلاقة بين البلدين تباعداً، وربما توتراً، نتيجة الخلافات في عدد من الملفات، لا سيما في السياسة الخارجية. قد تكون العلاقة الشخصية أو الكيمياء المفقودة بين حكومة العمال والحزب الجمهوري هي أهم عقبة بين البيت الأبيض والدوانيينغ ستريت لتطوير العلاقة بينهما.
حاول ستارمر مع وزير خارجيته خلال زيارتهما الأخيرة إلى واشنطن ترطيب العلاقة بعد اللقاء الذي جمعهما مع ترامب، لكن ذلك لا يبدو أنه قادر على إزالة تلك الالتباسات والمواقف السلبية بينهما. وقد شهدت ولاية ترامب الأولى توتراً كبيراً مع قادة حزب العمال البريطاني. ففي عام 2017 على سبيل المثال، وقع عدد من نواب حزب العمال البريطاني على عريضة ترفض أن يلقي الرئيس الأميركي دونالد ترامب خطاباً في البرلمان، وبعض هؤلاء النواب أصبحوا وزراء في حكومة ستارمر الحالية.
أما وزير الخارجية البريطاني الحالي ديفيد لامي فكان قد اتهم الرئيس ترامب في تغريدة سابقة له بالفاشي والعنصري والنرجسي، وتعهد بتقييد نفسه أمام مكتب رئاسة الوزراء لمنعه من الدخول إلى الدوانينغ ستريت. ناهيك بالإشكال الكبير الذي وقع بين الرئيس ترامب وعمدة لندن صادق خان المحسوب على حزب العمال.
ورغم تراجع وزير الخارجية البريطاني لامي وبعض الوزراء عن مواقفهم بشأن سياسة ترامب، فإنها لا تكفي لترطيب الأجواء بين البلدين في ظل مواقف سابقة صدرت أيضاً عن وزراء في إدارة ترامب الجديدة. الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب نفسه كان قال يوماً إن البرلماني اليمين نايجل فاراج هو الشخصية الأمثل لتسلم السلطة في لندن، وكذلك نائبه الجديد فانس قال يوماً إن بريطانيا ستتحوّل إلى دولة إسلامية في ظل حكومة عمال، ناهيك بآلون ماسك الوزير الجديد في إدارة ترامب الذي حذر من حرب أهلية في بريطانيا، واصطف إلى جانب اليمين المتطرف في أعمال الشغب الأخيرة.
يبدو أن انعدام الثقة بين العمال والإدارة الأميركية الجديدة قد يفيد زعيمة حزب المحافظين كيمي بادينوك في إعادة الثقة إلى حزبها أمام الرأي العام البريطاني، متخذة من مسألة الفتور بين العمال وإدارة بايدن ورقة انتخابية في اتهام الحكومة العمالية بتدمير العلاقة المميزة مع أهم حلفاء بريطانيا على مر التاريخ.
وقد فعلت ذلك في أول ظهور برلماني لها خلال جلسة المساءلة البرلمانية، الأمر الذي أحدث إحراجاً كبيراً لرئيس الوزراء كير ستارمر، خصوصاً عندما تجنّب الاستجابة لطلب زعيمة المحافظين كيمي بادينوك في الاعتذار من الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بشأن مواقف وزرائه ونوابه منه.
إن انعدام الثقة والانسجام ين لندن وواشنطن، فضلاً عن توجهات الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في الانعزال والاهتمام بالشأن الداخلي الأميركي قد يفرض على الحكومة العمالية البريطانية التقرب أكثر من الجار الأوروبي، والتخلي عن بعض قيود "البريكست" من خلال عقد اتفاقات اقتصادية وأمنية وعسكرية مع الاتحاد الأوروبي من أجل التعويض عن ما خسرته بلاده من منافع اقتصادية وسياسية من جراء "البريكست" وأخرى لمواجهة تداعيات المتغيرات الدولية المتمثلة بالحرب الأوكرانية والتوجهات الاقتصادية الأميركية الجديدة.