واشنطن والعدوان على الدوحة: تواطؤ أم خديعة؟

هل فعلاً لم تكن القيادة المركزية الأميركية بكامل إمكانياتها الاستطلاعية والاستخبارية على علم مسبق بالتحضيرات الإسرائيلية للعدوان على الدوحة؟

  • أسئلة تحتاج إلى إجابات من واشنطن والدوحة وآخرين..
    أسئلة تحتاج إلى إجابات من واشنطن والدوحة وآخرين..

في البدء، سارع البيت الأبيض إلى نفي معرفته مسبقاً  بشأن الهجوم الذي تعرضت له قطر يوم 9 أيلول/سبتمبر الجاري، إذ "لم تُخطر إسرائيل الجيش الأميركي بالهجوم إلا قبل دقائق من التنفيذ"، بينما "رصدت أجهزة استشعار فضائية أميركية مسار الصواريخ نحو الدوحة"، بحسب تقرير مفصل نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال"، 13 أيلول/سبتمبر الجاري.

في التنفيذ، سادت الضبابية والتباس في المعلومات الأولية علّها تخدم سردية معينة رمت إلى استبعاد الإشارة إلى مسار تحليق سلاح الجو المعادي مخترقاً أجواء دول عربية، مشيرة في بداياتها إلى اختراق أجواء الأردن وسوريا والعراق والسعودية لقطع مسافة 1800 كلم نحو الدوحة، لترسو على "فرضية" تبنتها صحيفة "وول ستريت جورنال" باستخدام "إسرائيل" طائرات مقاتلة (8 طائرات F-15 و4 طائرات F-35) حلّقت فوق أجواء البحر الأحمر في محاولة منها لـ "تفادي اختراق المجال الجوي السعودي"، وبأنها أطلقت صواريخ باليستية من مسافة بعيدة (نحو 1800 كلم)، بيد أن عرض المنطقة من ميناء جدة إلى الدوحة يبلغ نحو 1،330 كيلومتراًجوياً.

وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال" قد أفادت باستخدام الطائرات المغيرة صواريخ باليستية أطلقت جواً (مثل نظام "ROCKS" أو "Golden Horizon") ما يسمح لمقاتلات بتجنب الأجواء العربية، إذ يمكن إطلاقها من مسافات بعيدة وتصحيح مسارها تلقائياً خلال العملية. ربما استندت الصحيفة إلى افتراض أن يكون المسار المزعوم (عبر الفضاء) ممكناً نظرياً وتقنياً، خاصة مع امتلاك الكيان صواريخ باليستية متطورة ذات مدى يصل إلى 2,000 كلم.

تجدر الإشارة إلى حقيقة القدرات الأميركية التقنية لمراقبة التحركات الإسرائيلية اللوجستية لشن الهجمات الجوية، وما علينا سوى العودة إلى تسريبات جاءت في تقرير استخباري أميركي حديث قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة وخلال عهد بايدن يكشف تلك التقنيات (سنوجز أهم محتوياته لاحقاً).

وإمعاناً في التضليل وصرف الأنظار عن المسؤول الحقيقي عن قرار العدوان، أعرب الرئيس دونالد ترامب عن "إحباطه العميق" لعدم معرفته بالأمر في محادثة هاتفية أجراها مع بنيامين نتنياهو (بحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، 9 أيلول/سبتمبر الجاري). وأشارت الناطقة باسم البيت الأبيض إلى منشور على منصة "تروث سوشال" لترامب، معتبراً "القصف أحادي الجانب على قطر، وهي دولة ذات سيادة وحليف وثيق للولايات المتحدة، لا يخدم أهداف إسرائيل أو أميركا" متعهداً بعدم تكرار هذا الأمر في المستقبل".

في الشق العملياتي الصرف، يؤكد خبراء عسكريون أنه "قد جرى التخطيط لهذه العملية منذ شهور عديدة، وكانت موضوع اجتماعات أسبوعية محدودة للغاية بين عدد من المسؤولين الأمنيين ورئيس الوزراء الإسرائيلي"، ما ينفي إمكانية عدم انخراط الإدارة الأميركية أو علمها بهذا المخطط.

وأضاف خبراء عسكريون أميركيون، رفضوا الإفصاح عن هويتهم، أنه "من المُستبعد جداً أن يكون هذا الهجوم ممكناً لولا موافقة دونالد ترامب عليه"، وخصوصاً توجيه الرئيس الأميركي قبل يومين من وقوعه "إنذاراً أخيراً لحماس، حثّها فيه على قبول اقتراحه"، موضحاً على منصته الإلكترونية: "لقد حذّرتُ حماس من عواقب الرفض، وهذا تحذيري الأخير، ولن يكون هناك غيره!".

في حين أشار موقع "ميدل إيست آي"، المقرّب من الاستخبارات البريطانية، إلى أن الغارات الجوية كانت "مُنسّقة مسبقاً مع الإدارة الأميركية". بينما قالت شبكة "CNN" الأميركية، نقلاً عن مسؤول إسرائيلي، إن الولايات المتحدة "أُبلِغَت قبل الضربة على قطر".

ترامب، كعادته الإفراط في الكلام، نشر على موقعه الإلكتروني "أن قرار تنفيذ الهجوم على قطر اتخذه رئيس الوزراء الإسرائيلي وليس هو"؛ وأن الولايات المتحدة "حذّرت قطر، لكن التحذير وصلهم للأسف متأخراً جداً لوقف الهجوم".

عضو المفاوضات الأميركي الأسبق، آرون ديفيد ميلر، والباحث في مؤسسة "كارنيغي للسلام الدولي" أوضح بخصوص الهجوم على الدوحة: "في هذه النقطة، أعتقد أن دونالد ترامب منزعج من تكتيكات بنيامين نتنياهو، لكنه يتفق غريزياً مع وجهة نظر نتنياهو القائلة بأنه لا يمكن تدمير حماس كمنظمة عسكرية فحسب، بل يجب إضعافها جذرياً".

بالعودة إلى التقرير الرسمي المشار إليه، والذي تضمن تفاصيل حساسة حول عملية "الأفق الذهبي" في التقييم الاستخباري الأميركي، نورد أبرز ما جاء فيه:

التسريبات الاستخبارية

وثائق استخبارية أميركية مسرّبة (من الوكالة الوطنية للاستخبارات الجغرافية المكانية - NGA) في أكتوبر 2024 كشفت عن خطط إسرائيلية لضربات "انتقامية" ضد إيران.

ذكرت الوثائق نظامين إسرائيليين للصواريخ الباليستية المحمولة جواً (ALBM): "الأفق الذهبي" (Golden Horizon) و "روكس" (ROCKS).
 

طبيعة  "الأفق الذهبي" ونطاقه

يُعتقد أن "الأفق الذهبي" يشير إلى نظام الصواريخ "بلو سبارو" (Blue Sparrow)، وهو صاروخ باليستي يُطلق من الجو بطول 6.5 أمتار ومدى يُقدّر بـ2,000 كم (1,240 ميلاً).

صُمّم أصلاً كصاروخ هدف إلى محاكاة الصواريخ الإيرانية (مثل شهاب 3) لاختبار نظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي (سهم)، لكنه جُهّز للهجمات الهجومية.

يسمح للطائرات الإسرائيلية بالإطلاق من مسافات بعيدة (خارج المجال الجوي الإيراني)، متجنّبةً الأجواء المعادية.
الاستعدادات والخطط الإسرائيلية:

رصدت الوثائق استعدادات إسرائيلية في قواعد جوية (مثل قاعدة حاتزاريم ورامون الجوية) لتجهيز الصواريخ منذ 8 أكتوبر 2024.

خططت "إسرائيل" لضربات "موسعة بشكل كبير" تستهدف مواقع عسكرية إيرانية (مثل دفاعات جوية ومنشآت صواريخ).

تداعيات التسريب

كشف التسريب عن مراقبة الولايات المتحدة التحضيرات الإسرائيلية عبر صور الأقمار الصناعية، ما أثر على العلاقات الأميركية- الإسرائيلية وأخّر الضربات المحتملة.

كشف أيضاً عن وجود أسلحة نووية إسرائيلية لأول مرة بشكل رسمي في وثائق استخبارية أميركية.

الاستخدام السابق:

استخدمت "إسرائيل" صواريخ مشابهة (مثل بلو سبارو) في ضربة محدودة ضد رادار إيراني قرب أصفهان في نيسان/أبريل 2024.

خلفية التسريب

في 18 تشرين الأول/أكتوبر 2024، تم تسريب وثيقتين سريتين للغاية تابعتين للولايات المتحدة على تطبيق Telegram عبر قناة تسمى "Middle East Spectator" ذات صلات بإيران.

· الوثائق صادرة عن الوكالة الوطنية للاستخبارات الجغرافية المكانية (NGA) والوكالة الأمنية الوطنية (NSA)، وتتضمن تحليلاً لصور الأقمار الصناعية وخطط تحضيرات إسرائيلية لضربة انتقامية ضد إيران.

محتويات الوثائق المسربة:

كشفت الوثائق عن تحضيرات إسرائيلية تشمل:

· إعادة ترتيب ونقل الذخائر المتقدمة والأصول العسكرية اللازمة للضربة.

· خططاً مفصلة لمسارات الطائرات المسيرة الإسرائيلية وضرباتها ضد أهداف إيرانية.

· تدريبات كبيرة للقوات الجوية الإسرائيلية تشمل طائرات مقاتلة وطائرات استخبارات وصواريخ جو-أرض.

· ذكرت الوثائق أيضًا أن "إسرائيل" كانت تعد صواريخ باليستية محمولة جواً (ALBMs) مثل "Golden Horizon" و"ROCKS" في قاعدة "حاتزاريم" الجوية منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2024.

·  أشارت إحدى الوثائق إلى امتلاك "إسرائيل" أسلحة نووية، وهي المرة الأولى التي تعترف فيها وثيقة أميركية رسمية بهذه القدرة.

التحقيق والاعتقال

بدأت السلطات الأميركية تحقيقًا فوريًا بعد التسريب، وتم تحديد المتهم باسم آصف ويليام رحمان (مواليد 1990)، وهو محلل في CIA يحمل تصريحًا سريًا للغاية.

تم اعتقال رحمان من قبل الـ FBI في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2024 عند وصوله إلى العمل في كمبوديا، ثم نُقل إلى غوام للمحاكمة.
في 17 كانون الثاني/ يناير 2025، أدلى رحمان باعتراف بالذنب في محكمة فيدرالية في فرجينيا بتهمتين تتعلقان بالاحتفاظ غير القانوني ونقل معلومات دفاعية سرية.

تداعيات التسريب:

وصف مسؤولون أميركيون التسريب بأنه "مثير للقلق بشدة" ومخاطرة أمنية وطنية، بينما أقرت السلطات الإسرائيلية بخطورة التسريب.

حذر المحللون من توتر العلاقات الأميركية- الإسرائيلية بسبب المخاطر على أطر تبادل الاستخبارات.
كشف التسريب أيضًا عن التعاون الوثيق بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" في المراقبة عبر الأقمار الصناعية، ما أثار إحراجًا دبلوماسيًا.

أسئلة تحتاج إلى إجابات من واشنطن والدوحة وآخرين:

هل فعلاً لم تكن القيادة المركزية الأميركية بكامل إمكانياتها الاستطلاعية والاستخبارية على علم مسبق بالتحضيرات الإسرائيلية للعدوان على الدوحة؟ هل يمكن للطائرات الإسرائيلية أن تحلق في فضاء مسرح عمليات القيادة المركزية الأميركية من دون إخطار مسبق وتنسيق لمساراتها؟

لماذا لم يتم تفعيل الدفاعات الجوية الأميركية أو القطرية التي تؤمن الحماية لقاعدة العيديد؟ هل تم اختراق وانتهاك المجال الجوي السعودي، ولماذا لم يتم اكتشاف الانتهاك؟ ماذا يفعل ضابط الارتباط الإسرائيلي المفرز في القيادة المركزية في قاعدة العيديد؟

ماذا يفعل مكتب الموساد في الدوحة (وفقاً لواشنطن بوست بتاريخ 12 أيلول/سبتمبر إذ أفادت بوجوده، وبأن الموساد لم يوافق على تنفيذ عملية اغتيال قادة حماس بعملية سرية في الدوحة).

كيف تفسر الدول الخليجية العربية المعتمدة على الحماية الأميركية غياب هذه الحماية عندما يتعلق الأمر بعدوان إسرائيلي عليها؟

عدم الرضى الأميركي عن الإجراء الإسرائيلي الأحادي، كما تزعم إدارة ترامب، هل سيغيّر من موقفها بعدم الضغط على نتنياهو إذ طالما صرّح روبيو بضرورة العفو عما حدث، وأن العلاقات بين واشنطن و"تل أبيب" لن تتأثر، وذلك عشية زيارته الكيان.