الإعلام الإسرائيلي في خدمة أجندات نتنياهو.. كيف يحصل ذلك؟

في العقدين الماضيين، شهد المشهد الإعلامي الإسرائيلي تغيرات جذرية. إذ تحولت المؤسسات الإعلامية من وسطية إلى حد كبير إلى أخرى أكثر استقطاباً وتطرفاً.

  • عن تحوّل الإعلام الإسرائيلي لليمين.. وتدريب الجيش للصحفيين وتبنيهم سردياته للحرب
    عن تحوّل الإعلام الإسرائيلي لليمين.. وتدريب الجيش للصحفيين وتبنيهم سردياته للحرب

من يتابع الإعلام الإسرائيلي هذه الأيام، تحديداً المرئي منه، وطريقة تغطيته لعملية الإبادة الجماعية الجارية في غزة، يدرك سريعاً حجم تبعيته للمستويات السياسية والأمنية الإسرائيلية، خصوصاً جيش الاحتلال، وانحداره السريع نحو اليمينية وجمهورها الواسع والمتشدد، والذي لا يزال عالقاً في تاريخ 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي.

إذ نادراً ما تقوم القنوات التلفزيونية بتحديث عدد الشهداء الفلسطينيين – الذي تجاوز 31 ألفاً – وتمتنع بالتالي عن الاعتراف أمام مشاهديها بالحقيقة الكارثية، وهي أن نحو 70% من ضحايا العدوان الإسرائيلي هم من النساء والأطفال.

دور نتنياهو في تحول القنوات الإسرائيلية

في العقدين الماضيين، شهد المشهد الإعلامي الإسرائيلي تغيرات جذرية. إذ تحولت المؤسسات الإعلامية من وسطية إلى حد كبير إلى أخرى أكثر استقطاباً وتطرفاً، بحيث استقر المشهد على اتجاهين: الأول يميني حاد بشكل علني، والآخر وسطي يتميز بخطاب تبريري دائم، ويخشى أن يُنظر إليه على أنه يساري أكثر مما ينبغي.

ولاحقاً، ومع وصول بنيامين نتنياهو إلى الحكم في أواخر تسعينيات القرن العشرين، قرر أن إعادة تشكيل وسائل الإعلام الإسرائيلية أمر ضروري للحصول على تغطية جذابة ومنحازة لتوجهاته السياسية، ولهذه الغاية أقنع شيلدون أديلسون (امبراطور القمار اليهودي) في عام 2007، بتأسيس صحيفة يومية مجانية، هي "اسرائيل هيوم"، ما لبثت أن أضحت تدريجياً الأكثر قراءة على نطاق واسع في "إسرائيل"، وقد تميزت بانحيازها الشديد لنتنياهو وسياسته.

أكثر من ذلك استغل نتنياهو سيطرة حزبه الليكود، على وزارة الاتصالات لإجراء تغييرات تنظيمية سمحت للقناة 14 بتحويل نفسها من "قناة تراثية" (مرخصة لبث برامج عن اليهودية) إلى وسيلة إخبارية كاملة، تغطي لساعات يومياً نشاطاته وتحركاته وتبث تصريحاته، فكانت أشبه بنسخة إسرائيلية من قناة "فوكس نيوز" الأميركية اليمينية المعروفة.

وعليه، ووسط الاستقطاب السياسي حول نتنياهو والإصلاح القضائي، نمت شعبية القناة 14، خاصة بين أنصاره، مما جعلها في المرتبة الثانية بعد القناة 12 من حيث نسبة المشاهدة.

تزامنت هذه التبدلات الهيكلية، مع تغير في تركيبة الصحفيين الإسرائيليين، حيث ارتفعت أعداد الصحفيين من المتدينين اليمينيين (والعديد منهم من المستوطنين) بشكل ملحوظ. وتعقيباً على ذلك قال أورين بيرسيكو، كاتب في The Seventh Eye (مجلة استقصائية مستقلة تركز على حرية التعبير في إسرائيل): "إن التصريحات التحريضية التي كانت تُقرأ في السابق فقط في المنشورات الأسبوعية للمعابد اليهودية الدينية، يمكن الآن سماعها من قبل المحررين والصحفيين البارزين".

القنوات الإسرائيلية والترويج لفظائع جيش الاحتلال

في الأشهر الخمسة الماضية، باتت وسائل الإعلام الإسرائيلية، جزءاً فعالاً من دورة أصبح فيها الإسرائيليون قوميين متعطشين بشكل متزايد للأخبار التي تحتفل بالحرب وتحجب بالمقابل أو تغفل حتى تغطية تكاليفها. ولهذا، لم يعد بالإمكان العثور في أي مكان على تغطية للدمار الذي تفتعله "إسرائيل" في غزة. والأسوأ أن بعض الصحفيين اعتبروا أن نشر قصص عن الحرب الدموية، قد تضر بالروح المعنوية الوطنية.

وبناء على ذلك، وبعد انطلاق المذابح الإسرائيلية بغزة، قادت القنوات الإخبارية التلفزيونية جهود الهاسبارا (الدعاية المؤيدة لإسرائيل) التي ظهرت في كل وسيلة إعلامية مرئية، من خلال تعديل شعار كل قناة ليشمل الآن علم الاحتلال الإسرائيلي، وشعار الحكومة "يحاد نيناتستش" ("معاً سننتصر").

وكجزء من هذه الهاسبارا، وبينما تصور كل شبكات الأخبار الرئيسية "إسرائيل" باعتبارها "الضحية النهائية"، تحرص بالمقابل على وصف حماس بـ "الوحش القاتل". كما تتعمّد القنوات التلفزيونية الإسرائيلية، عدم التطرق لمعاناة الفلسطينيين في غزة، والأنكى هو امتناعها عن تخصيص أي مساحة (حتى لثوان معدودة) لمستوى الأزمة الإنسانية التي يواجهونها. فقليلاً ما تعرض الفضائيات الإسرائيلية الرئيسية أي توثيق للأنقاض في غزة أو حجم التهجير والدمار هناك، وعندما تقرر ذلك، فإنها تتناوله من باب وضع اللوم على حركة حماس، وتحميلها مسؤولية كل ما يحدث في القطاع.

علاوة على ذلك يتم استهداف أي شخص يتحدى هذه الرواية. فعلى سبيل المثال، عندما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بعد إدانته صراحة هجوم حماس في 7 تشرين الأول الماضي إنه "لم يحدث من فراغ" ــ في إشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي الذي دام 56 عاماً باعتباره سياقاً بالغ الأهمية ــ انقضّت وسائل الإعلام الإسرائيلية على غوتيريش، حيث سأل موقع "واي نت" في مانشيت رئيسي: "لماذا يكره غوتيريس إسرائيل إلى هذا الحد؟" بالمقابل، وصفت القناة 12 تصريحاته بأنها "فاحشة".

 الإعلام الإسرائيلي في خدمة "الجيش"

عملياً، يؤدي التفاعل الوثيق بين وسائل الإعلام الإسرائيلية، وجيش الاحتلال، إلى تغييب للحقائق المهنية أثناء تغطيتها للحرب، لا سيما بعد مغادرة معظم الصحفيين الدوليين غزة، والاستهداف المستمر للصحفيين الفلسطينيين، وسماح جيش الاحتلال لبعض الصحفيين الإسرائيليين والدوليين على حد سواء بدخول القطاع، بشرط أن يكونوا برفقة ضباطه الذين لم يسمحوا لهؤلاء الصحافيين بإجراء مقابلات مباشرة مع الفلسطينيين أو الوصول بشكل مستقل إلى المواقع المدمرة. من هنا، أدى هذا المنع، إلى احتكار المتحدث باسم جيش الاحتلال دانييل هاغاري للمعلومات، خصوصاً وأن الجمهور الإسرائيلي ينظر إليه باعتباره مصدراً "موثوقاً" للأخبار، مع انعدام ثقتهم بالحكومة.

إلى جانب ذلك، لعبت تبعية المراسلين العسكريين "للـجيش" الإسرائيلي، واعتباره كمرجع رئيسي لهم، يشيدون باستمرار بأفعاله، دوراً كبيراً في تعويم سلطة الجيش. فهؤلاء المراسلين، لا يكتفون في كثير من الأحيان بنقل تصريحات الجيش حرفياً، دون الإشارة إلى أنه هو المصدر الوحيد للمعلومات بالنسبة لهم. لكنهم يعمدون أيضاً إلى تضخيم النجاحات المفترضة التي حققتها القوات الإسرائيلية في غزة ويدعون إلى مواصلة العملية.

عند البحث عن سرّ علاقة التبعية هذه، بين الصحفيين الإسرائيليين وجيش الاحتلال، نجد أنها نتيجة ثانوية لتلقي تعليمهم الصحفي من خلال "الجيش" الإسرائيلي نفسه.

فما لا يعرفه كثر، أن التدريب المعياري للعديد من الصحفيين في "إسرائيل" يتم في إذاعة "الجيش" (غالاتز)، وليس في الجامعات أو الصحف المحلية. ولذلك تختار الإذاعة العشرات من المجندين حديثاً للعمل في المحطة كجزء من خدمتهم الإلزامية. من هنا نفهم، أن أجيالاً من الصحفيين الإسرائيليين نشأت تحت هذه الإشراف العسكري، وتلقوا تدريباً مكثفاً على نشر ما يقرره الجيش فقط، وهو امر يتعارض مع أكذوبة "استقلال الصحافة الإسرائيلية".

الخروج عن القواعد المهنية

لم تكتف وسائل الإعلام الإسرائيلية، بضرب القواعد المهنية والأخلاقية، بل انخرطت في حفلة تزوير للحقائق على الأرض - القائمة منذ أشهر - لاسيما فيما يتعلق بمسألة شرعية حماس بين الفلسطينيين، والتي أصبحت بمثابة هاجس متكرر في وسائل الإعلام الإسرائيلية الرئيسية. فهذه الأخيرة تصور الوضع وكأن حماس على وشك فقدان كل مكانتها بين الفلسطينيين.

في هذا السياق بثت قنوات تلفزيونية إسرائيلية مقطع فيديو لآلاف الفلسطينيين الفارين من خان يونس عبر ممر إنساني وهم يهتفون: "الشعب يريد إسقاط حماس". والمخزي، أن أياً من هذا القنوات، لم يذكر أن هؤلاء الفلسطينين أجبروا على ذلك من قبل جنود الاحتلال من أجل السماح لهم بالعبور، وما يدعم هذه الحقيقة، أن أشرطة الفيديو التقطها الجنود، تؤكد أن الفلسطينيين كانوا تحت رحمة الجيش الإسرائيلي.

 ومن النماذج الأخرى، مسارعة القنوات الإخبارية إلى المبالغة بحقيقة أن "المئات من مقاتلي حماس يستسلمون في شمال غزة". غير أنه، بعد بضعة أيام، قدّر مسؤولو الأمن القومي أن هؤلاء كانوا من المدنيين العاديين الذين لم يهربوا إلى الجنوب، كما أمرهم الجيش بذلك.

 أما الفضيحة الكبرى للفضائيات الإسرائيلية، فقد وقعت في ديسمبر/كانون الأول، مع قيام أدفا دادون، الصحفية في القناة 12، ببث قصة بعنوان "في منزل السنوار"، توثق غارة إسرائيلية على ما قيل إنه أحد منازله. حتى أنها رفعت زوجاً من الأحذية من تحت الأنقاض وادعت أنه يخص السنوار – وهو تصريح تم فضحه بسرعة وأثار عاصفة واسعة من السخرية على وسائل التواصل الاجتماعي.

الإعلام الإسرائيلي وتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم

إضافة إلى ما تقدم كان من أهم وأبرز المخاطر التي يحملها السلوك الإعلامي الإسرائيلي، هي تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم. ولهذا روجت القناة 14 باستمرار لوجهات نظر بغيضة – مثل الدعوة إلى إبادة غزة، ووصف جميع سكان غزة بـ "الإرهابيين والأهداف المشروعة" – والتي يرددها كبار المذيعين والمراسلين. والمفارقة الإيجابية في هذا الإطار، أنه وبسبب هذه التصريحات المتكررة، تم الاستشهاد بالقناة 14 عدة مرات في شكوى جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية التي تتهم "إسرائيل" بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة. 

 زد على ذلك، ترفض وسائل الإعلام الرئيسية الإبلاغ عن عدد الضحايا الفلسطينيين، زاعمة أن أرقام وزارة الصحة "التي تديرها حماس لا يمكن الوثوق بها" - على الرغم من أنها كانت دقيقة تاريخياً، وأن "الجيش" الإسرائيلي نفسه يعتمد معلوماتها. والأهم، أن القناة 14، استخدمت الأرقام التي نشرتها وزارة الصحة، لكنها وصفت جميع آلاف الفلسطينيين الذين قتلوا بأنهم "إرهابيون".

في المحصلة، يصبّ تعاطي القنوات التلفزيونية مع المذبحة المفتوحة بغزة وحجبها للحقائق الدموية للحرب، في خدمة مصالحها التجارية الخاصة، والمصالح التي أعلنتها الحكومة والجيش الذي أضحى وصياً مطلقاً على الإعلام الإسرائيلي.

 

علي دربج - أستاذ جامعي.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.