علي المزروعي.. مفكر أفريقي فضح آثار الاستعمار الغربي على شعوب أفريقيا

الفكر السياسي للمزروعي تميّز بمزيج من القومية الأفريقية والتأثّر بالثقافة العربية والإسلامية، مع التشديد على مركزية مشروع الوحدة الأفريقية، وعلى أهمية الهوية الموحدة للشعب الأفريقي، وقد شكلت آراؤه انزعاجاً لدى أوساط الأكاديميا الغربية بسبب مواقفه من الغرب.

  • رحلة في فكر علي المزروعي: أدوات الاستغلال الغربي لأفريقيا وتاريخها الثلاثي
    رحلة في فكر علي المزروعي: أدوات الاستغلال الغربي لأفريقيا وتاريخها الثلاثي

"إن الأفارقة ليسوا بالضرورة أكثر الشعوب وحشية، ولكن من المؤكد أنهم الأكثر إذلالاً في التاريخ الحديث. إن أفريقيا ليست بأي حال من الأحوال أصغر القارات من الناحية المادية، ولكنها بالتأكيد الأكثر تجزئة من الناحية السياسية" – الحالة الأفريقية.

بهذه الكلمات المثقلة بمشاعر الغضب، يفتح المفكّر السياسي الكيني، البروفسور علي المزروعي، أبواب تحليل تاريخ أفريقيا السياسي على مصاريعها، مؤكداً أنّ البحث في ما جرى على القارة الأفريقية طيلة القرون الماضية، وكيف أثّر ذلك على واقعها السياسي والاقتصادي والثقافي، سيترك الباحث أمام احتمالات واسعة، وأجوبة لن تكون مرضيةً لكثير من مفكّري الغرب الحديث.

كان علي المزروعي بالفعل مفكّراً سياسياً أفريقياً بارزاً، معروفاً بمساهماته الكبيرة في فهم الوعي السياسي الأفريقي، فقد استكشف المزروعي على نطاق واسع، خلال مسيرة طويلة من البحث والإنتاج الأكاديمي والإعلامي، تأثير الاستعمار على أفريقيا وآثاره الدائمة على المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي للقارة. 

وقد أرّخ المزروعي، بشكل موثوق وبالمعايير الأكاديمية الأوروبية، للتأثير العميق للاستعمار على تشكيل الدول الأفريقية الحديثة وتحدياتها في حقبة ما بعد الاستعمار، مثل الصراعات العرقية وقضايا الحكم، وقدّم مادة علمية وبحثية، كانت نادرة في حينه، عن العلاقة الوثيقة بين أزمات أفريقيا الحديثة وحقبة الاستعمار الأوروبي.

المفكّر السياسي الكيني، الذي نشأ في وسط عائلة إقطاعية وذات امتيازات معنوية ومادية، حيث كان والده أحد أبرز القضاة في البلاد وينحدر من أسرة حكمت المنطقة خلال الفترة الاستعمارية، طوّر رأياً معقّداً بشأن العلاقة بين أفريقيا الحديثة والغرب. فلقد أدرك المظالم التاريخية للاستعمار والترابط المعاصر بين أفريقيا والعالم الغربي، ولكنه أعرب عن اعتقاده بأنّ أفريقيا بحاجة إلى التعامل مع الغرب بشكل عملي، والاعتراف بإرث الاستعمار الكارثي، مع السعي إلى التعاون متبادل المنفعة.

الفكر السياسي للمزروعي تميّز بمزيج من القومية الأفريقية والتأثّر بالثقافة العربية والإسلامية مع التشديد على مركزية مشروع الوحدة الأفريقية، وعلى أهمية الهوية الموحّدة للشعب الأفريقي.

وقد شكّلت آراء المزروعي حول مواضيع مثل إرث الاستعمار وتشكّل الثقافة في أفريقيا سبباً للبعض في الغرب في أن يهاجم انتقاداته للسياسات الغربية في أفريقيا، ويعتبرها منحازة ومبنية على رأي غير موضوعي. وقد اختلف صانعو الفكر والسياسات الغربيين مع تقييماته، ولكنّهم لم يستطيعوا تجاوز كونه صوتاً صعباً وفي الوقت نفسه ضرورياً في صناعة الخطاب حول أفريقيا. 

كيف ساهم المزروعي في تشكيل الوعي السياسي الأفريقي؟

قدّم علي المزروعي مساهمات كبيرة في الوعي السياسي الأفريقي من خلال تسليط الضوء على التأثير المستمر للاستعمار، ووصفه بأنّه "كانت له عواقب بعيدة المدى على النسيج السياسي والاجتماعي والثقافي للقارة الأفريقية". 

ومن خلال عمله، سلّط الضوء على كيفية استمرار الحدود الاستعمارية في أفريقيا، وهياكل الحكم التي صنعتها الدول الاستعمارية، في التأثير على الدول الأفريقية الحالية. كما شدّد المزروعي على أنّ "إرث الاستعمار يتجلى في الصراعات العرقية، وتحديات الحكم، والنضال من أجل هوية ما بعد الاستعمار". 

وقد شجّعت أبحاثه الأفارقة على إجراء تقييم نقدي للسياق التاريخي الذي ظهرت فيه دولهم، والتعقيدات التي واجهوها في حقبة ما بعد الاستعمار، وهو من المفكّرين والأكاديميين القلة الذين فاقت كمية الأبحاث التي استندت إلى إنتاجه البحثي الأكاديمي واعتمدت على مؤلفاته وكتاباته، خلال حياته، عدد ما ألّفه وكتبه هو، حيث وصلت إلى الآلاف.

سلط المزروعي الضوء على كيفية استمرار الحدود الاستعمارية في أفريقيا، وهياكل الحكم التي صنعتها الدول الاستعمارية، في التأثير على دول  القارة، وشدّد على أنّ "إرث الاستعمار يتجلى في الصراعات العرقية، وتحديات الحكم، والنضال من أجل الهوية". 

الأفريقيون وتاريخهم ثلاثي المباني

ولكن الإسهام الذي ترك الصدى الأكبر للمزروعي، كان دخوله المجال الإعلامي من باب السلسلة الوثائقية الأولى من نوعها بهذا المستوى وباللغة الإنكليزية، والتي أعدّها وقدّمها هو بإنتاج تولّته الـ "بي بي سي" البريطانية وشركة "ليتل وبراون" الأميركية، وحملت عنوان "الأفريقيون: تاريخ (تراث) ثلاثي"، ونشرت عام 1986 على 9 حلقات تلفزيونية.

وفي هذه السلسلة الوثائقية، تدور الأفكار والحجج الرئيسية للمزروعي حول تاريخ وثقافة وتحديات القارة الأفريقية، المعقّدة ومتعدّدة الأوجه، ففي "تراث أنماط الحياة"، القسم الأول منها، يستكشف المفكّر الكيني التراث الثقافي الغني والمتنوّع لأفريقيا، مع تركيزه على مساهمات القارة في الفن والدين والهياكل الاجتماعية. 

ويسلّط المزروعي الضوء فيها على حضارات أفريقيا ما قبل الاستعمار، مثل زيمبابوي العظمى، وتأثير التأثيرات الإسلامية والمسيحية على القارة.

وفي القسم الثاني منها، يتعمّق المزروعي في شرح تأثير انتشار الإسلام والمسيحية في أفريقيا، ويدرس كيفية تفاعل هذه الديانات مع الأنظمة العقائدية الأصلية، كما يناقش أيضاً تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، والشتات الأفريقي الناتج عنها.

وفي القسم الثالث، تناول التحديات والفرص التي تواجه أفريقيا في العصر الحديث، وناقش المزروعي تراث الاستعمار، والنضال من أجل الاستقلال، وتعقيدات السياسة الأفريقية ما بعد الاستعمار، إضافة إلى دور أفريقيا في الاقتصاد العالمي، وأفق تأكيد نفسها على المسرح العالمي.

ويمكن استنباط الأفكار الرئيسية التي عبّر عنها المزروعي من خلال هذه السلسلة التي لاقت رواجاً مذهلاً في الغرب والعالم، لأنها عرّفت أفريقيا المجهولة إلى بقية العالم، وتتلخّص بضرورة الاعتراف بالتراث الثقافي المتنوّع والغني لأفريقيا، والتركيز على تأثير القوى الخارجية، بما فيها الدين والاستعمار، على المجتمعات الأفريقية.

كما تطرّق المزروعي إلى التحديات المستمرة التي تواجهها أفريقيا في حقبة ما بعد الاستعمار، بما في ذلك التنمية الاقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي، والترابط العالمي، وقدّم مطالعته بشأن قدرة أفريقيا على تأكيد نفسها على الساحة العالمية، وأهمية أن تقوم بتأدية دور مهم في تشكيل مستقبل العالم.

وبشكل عام، قدّم المزروعي في سلسلة "أفريقيا: تراث ثلاثي"، نظرة شاملة لتاريخ أفريقيا وثقافتها والتحديات المعاصرة مع تسليط الضوء على مرونتها وإمكاناتها في المستقبل، بشكل أعطاه شهرة واسعة جداً في الغرب، وفي أفريقيا كذلك، بحسب ما يقول هو في إحدى مقابلاته، إذ يشكو من أنّ فقر المجتمعات الأفريقية يمنعها أصلاً من أن تكون قادرة على شراء كتبه المطبوعة في الغرب، ولكن الوثائقي وصل إليهم وشاهدوه وعرفوا المزروعي من خلاله.

 قدم المزروعي في سلسلة "أفريقيا: تراث ثلاثي"، نظرة شاملة لتاريخ أفريقيا وثقافتها والتحديات المعاصرة مع تسليط الضوء على مرونتها وإمكاناتها في المستقبل، بشكل أناله شهرة واسعة جداً في الغرب، وفي أفريقيا كذلك.

"أدوات الاستغلال الغربي"

وقد صوّر المفكّر الكيني العلاقة بين أفريقيا الحديثة والغرب، استناداً إلى التاريخ الاستعماري، إضافة إلى كتاباته المتخصصة، من خلال الحلقة بعنوان "أدوات الاستغلال"، ضمن الوثائقي الشهير.

إذ كان منظور علي المزروعي بشأن العلاقة بين أفريقيا الحديثة والغرب، يتضمن اعترافاً بالمظالم التاريخية للاستعمار، واعتبارها فترة استغلال واستعباد. ومع ذلك، أقرّ المزروعي أيضاً بالترابط المعاصر بين أفريقيا والعالم الغربي، وأعرب عن اعتقاده بأن "الدول الأفريقية بحاجة إلى التعامل مع الغرب بشكل عملي، مع الأخذ في الاعتبار الإرث التاريخي للاستعمار والفوائد المحتملة للتعاون". 

ويستكشف المزروعي، في حلقة "أدوات الاستغلال"، مواضيع أساسية لمقاربة العلاقة بين أوروبا وأفريقيا في الربع الأخير من القرن العشرين، أبرزها الاستغلال الاقتصادي، عبر استخراج القوى الغربية لموارد قيّمة من أفريقيا، مثل المعادن والمطاط والعاج، غالباً من خلال وسائل قسرية واستغلالية.

كذلك ركّز المزروعي على قضية تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي، وهي محور رئيسي للبحث يؤكد كيف تم أخذ ملايين الأفارقة قسراً من وطنهم وإخضاعهم للعبودية في الأميركيتين وأوروبا وبلدان أخرى.

وأبرز كذلك قضية التلاعب السياسي عبر دعم الدول الغربية لأنظمة استبدادية تخدم مصالحها، وعلى قضية التأثير الثقافي للإمبريالية الغربية، بما في ذلك تأكّل التقاليد الأفريقية وفرض القيم والأعراف الأوروبية في المجتمعات المستعمَرة.

وبطبيعة الحال، شكّلت تحديات ما بعد الاستعمار المشكلة الأبرز التي واجهتها الدول الأفريقية بعد حصولها على الاستقلال، بما في ذلك التبعية الاقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي، وإرث الاستعمار، إضافة إلى التحذير مما أسماه "الاستعمار الجديد"، والذي استمرّ عبر مواصلة الدول الغربية ممارسة نفوذها على الدول الأفريقية، من خلال الوسائل الاقتصادية والسياسية.

وبشكل عام، يسلّط العمل التلفزيوني الذي بدأه المزروعي الضوء على الطرق متعددة الأوجه التي استغلت بها القوى الغربية أفريقيا تاريخياً وراهناً، مما ترك أثراً دائماً على تنمية القارة والمشهد الاجتماعي والسياسي فيها وفيما يرتبط بها.

وتشكّل هذه السلسلة مفتاحاً أساسياً لفهم المقاربة السياسية للمزروعي، ويعتبرها بعض الباحثين في الدراسات الأفريقية مدخلاً أساسياً وضرورياً للعبور نحو فهم العقلية الأفريقية وكيف قاربت ما جرى عليها خلال القرون الماضية، وكيف أثّر ذلك على إرث عمره آلاف السنين من الثقافات والتقاليد الأفريقية.