حارس البوابة المخادع.. الإعلام الأميركي والتستر على جريمة معتقل "سدي تيمان"

حين يتعلق الأمر بـ"إسرائيل"، تتحول الصحافة الأميركية إلى شاهد زور همّه الوحيد التستر على جرائم الاحتلال وأفعاله البربرية والوحشية، وإن تطلب الأمر القفز فوق القواعد المهنية.

  • حارس البوابة المخادع.. الإعلام الأميركي والتستر على جريمة معتقل
    حارس البوابة المخادع.. الإعلام الأميركي والتستر على جريمة معتقل "سدي تيمان"

لطالما خُدع العالم بالإعلام الأميركي وشعاراته الزائفة وصورته الوردية التي تخفي وراءها حقيقة "حارس البوابة" البعيد كل البعد عن الأمانة والصدق والموضوعية، والذي لا يتردد في خلع ثوب النزاهة والأخلاق عندما يصل الأمر إلى كيان الاحتلال الإسرائيلي.

هنا، سرعان ما تتحول الصحافة الأميركية إلى شاهد زور همّه الوحيد التستر على جرائم الاحتلال وأفعاله البربرية والوحشية، وإن تطلب الأمر القفز فوق القواعد المهنية، وفي مقدمتها الحياد وعدم الانحياز، وضرب عرض الحائط بهما، كما حصل غداة فضيحة "معتقل سدي تيمان" المروعة، عندما أقدم جنود الاحتلال على اغتصاب سجين فلسطيني، ما أدى إلى تضرر أعضائه الداخلية واستدعى إجراء جراحة لإنقاذ حياته.

تغطية الإعلام الأميركي لفضيحة اغتصاب الأسرى الفلسطينيين

إذا كنت من قراء صحيفة "نيويورك تايمز" المخلصين، فمن المحتمل أنك لم تعرف أي شيء تقريباً عن هذه الأحداث، فهذه الصحيفة ذات السجل الحافل بالانتقادات بسبب الشوائب والأخطاء التي وقعت فيها أثناء تغطيتها الحرب على غزة، بالكاد غطت الفضيحة وأضاءت على تفاصيلها. وعندما فعلت ذلك، عمدت إلى دفن أحداثها الفظيعة بعيداً عن صفحتها الأولى، كي لا تحظى بالمتابعة والقراءة، كما يحصل عادةً مع قصص مروعة كهذه.

غطت "نيويورك تايمز" قضية الاغتصاب هذه في 29 تموز، وهو اليوم الذي تم فيه اعتقال جنود الاحتياط الإسرائيليين المدانين، فكتبت تقريراً بعنوان "الجنود الإسرائيليون قيد الاحتجاز للاستجواب في تحقيق في إساءة معاملة السجناء". واللافت أن التقرير كان يتمحور حول التداعيات السياسية لاعتقال الجنود المدانين، وليس عرض تفاصيل هذه الجريمة الموثقة.

وعلى الرغم من أهمية هذه القصة المأساوية، فمن غير المرجح أن يكون الكثير من القراء قد شاهدوها على الإطلاق، والسبب أن نشرها تم لفترة وجيزة فقط على الصفحة الأولى من النسخة الإلكترونية للصحيفة مساء يوم 29 تموز/يوليو الماضي، إذ جرى وضعها عمداً (وبطريقة يصعب العثور عليها بسهولة) تحت مواضيع مختلفة، مثل: مكائد السباق الرئاسي، والانتخابات الفنزويلية، وأخبار الألعاب الأولمبية، وقصة رجل خسر مدخراته التقاعدية بسبب المحتالين عبر الإنترنت.

وفي أعقاب عرضها تحت خانة "أزمة الشرق الأوسط"، احتلت المرتبة الثانية بعد تقرير عن موافقة الحكومة الإسرائيلية على الرد على مقتل أطفال الجولان المحتل. وبحلول صباح اليوم التالي، اختفت مرة أخرى.

وبما أن الغالبية العظمى من الأميركيين يحصلون على أخبارهم من الأجهزة الرقمية والمواقع الإلكترونية والتطبيقات، على الأقل لبعض الوقت، فإن الصورة لم تكن أفضل في النسخة المطبوعة من الصحيفة، فقد نُشرت القصة في الصفحة A5 من عدد 30 تموز/يوليو، ولم تُعرض على الصفحة الأولى، كما لم تكن مدرجة في قائمة القصص التي يجب متابعتها في الصفحات التالية.

كما أن "نيويورك تايمز" لم تتطرق إلى الفضيحة مجدداً: لا عندما أصدرت "بتسيلم" (منظمة حقوقية إسرائيلية تهدف إلى توثيق انتهاكات حقوق الإنسان في فلسطين) تقريرها وكشفت فيه للمجتمع الدولي أهوال التعذيب والانتهاكات الحاصلة في السجون الإسرائيلية، ولا حينما كشف الطبيب الإسرائيلي الذي أبلغ عن تلك المأساة عن تفاصيل إضافية مثيرة للاشمئزاز حول ما فعله الجنود بالسجين، ولا حتى بعد نشر اللقطات لفيديو الاغتصاب.

ماذا عن الصحف الأميركية الأخرى؟

لم تكن تغطية حادثة الاغتصاب هذه وحوادث التعذيب في السجن الإسرائيلي أفضل حالاً في بعض الصحف الأميركية الكبرى، فضلاً عن المواقع الإخبارية، إذ تم تجاهلها تماماً أو إخفاؤها عن أعين معظم القراء.

وبناء عليه، كان تعامل صحيفة "واشنطن بوست" مع الفضيحة أفضل بشكل طفيف جداً، إذ عرضتها بإيجاز (دون الغوص في التفاصيل المروعة) كجزء من تقرير عن سوء معاملة السجناء الفلسطينيين على نطاق أوسع. وقد ظهر في صفحتها الأولى في 29 تموز/يوليو، ثم نقلته في نهاية المطاف إلى صفحات أخرى تتطلب جهداً ووقتاً أكبر للعثور عليه.

علاوة على ذلك، امتنعت الصحيفة عن تغطية تقرير "بتسيلم" (على الرغم من ذكره لفترة وجيزة في مقال افتتاحي للصحيفة الأسبوع الماضي)، لكنها نشرت تقريراً عن الفيديو المسرب.

في المقابل، فإن أداء صحيفة "وول ستريت جورنال" ذات الميول اليمينية جاء أفضل قليلاً من منافستيها السابقتين، إذ قامت بتغطية القصة ثلاث مرات خلال الأسبوعين الماضيين. ومع أن هذه التقارير ظهرت على الصفحة الأولى مرتين فقط، ففي إحدى هاتين المرتين، كانت القصة مدرجة بعيداً جداً تحت قسم "العالم" في الصباح التالي لنشر القصة في 29 تموز/يوليو الفائت، ثم اختفت بحلول ظهر اليوم التالي.

يشار إلى أن "وول ستريت جورنال" تطرقت بشكل غير مباشر إلى تقرير "بتسيلم" في مقال لاحق تحدث عن قيام الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان بجمع شهادات عن الاغتصاب، وأبرزته على صفحتها الأولى في ذلك اليوم، مع وصف أوضح لما كانت عليه الفضيحة مقارنة بأي صحيفة كبرى أخرى.

بدورها، تباينت تغطية صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" للفضيحة، فقد نشرت 4 قصص تتعلق بواقعة الاغتصاب، جميعها منقولة من وكالة "أسوشيتد برس" في 29 و30 تموز/يوليو الفائت، وفي 7 و 12 آب الجاري. وانتهت قصتان فقط منها، على الصفحة الأولى للصحيفة، وكلاهما كان بعيداً في قسم "المزيد من الأخبار".

قصة 29 تموز/يوليو افتقرت إلى تفاصيل التعذيب باستثناء وصفها بأنها "إساءة كبيرة". والغريب أنها اختفت بحلول فترة بعد الظهر. أما قصة 12 آب، فكانت عبارة عن تقرير أكثر عمومية تناول إساءة معاملة السجناء الفلسطينيين التي ظهرت على الصفحة الأولى في ذلك اليوم. صحيح أن "لوس أنجلوس تايمز" تحدثت عن مضمون الفيديو، لكنها لم تتحدث عن تقرير "بتسيلم".

أما تعامل صحيفة "يو إس إيه توداي"، التي تُعد من كبريات الصحف الأميركية من حيث التوزيع وقراءة المحتوى عبر الإنترنت، فكان فضائحياً بامتياز، نظراً إلى امتناعها عن نشر قصة واحدة حول هذه الواقعة التي تهز السياسة والمجتمع الإسرائيلي حالياً.

تعاطي الصحف الأميركية مع مزاعم اعتداءات حماس على الأسرى الإسرائيليين

بخلاف خطها التحريري الخجول والمجتزأ في تغطية كارثة معتقل "سدي تيمان"، تعاطت الصحف أعلاه بسياسة المعايير المزدوجة الصارخة، وانحازت إلى "إسرائيل"، وتبنت روايتها "بارتكاب حماس جرائم جنسية بحق الأسرى الإسرائيليين في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، رغم عدم وجود أدلة وبراهين تؤكد ادعاءاتها الكاذبة.

من هنا، كان أول المحرضين هي "نيويورك تايمز"، التي جعلت من تقريرها الإشكالي بعنوان "صرخات بلا كلمات" القصة الرئيسية على الصفحة الأولى من نسختها المطبوعة في 31 كانون الأول/ديسمبر. وكانت أيضاً ثاني أبرز قصة على الصفحة الأولى من طبعتها في شبكة الإنترنت في 29 الشهر ذاته، أي اليوم التالي لنشرها رسمياً على موقع الصحيفة، إذ إن تغطيتها تلك افتقدت المصداقية والمهنية بعدمت وجد عدد من الصحافيين المستقلين مشكلات خطيرة في مصادرها ودقتها.

بدورها، خرجت "لوس أنجلوس تايمز" عن توزانها، فجاءت تغطيتها لقضية "اتهام حماس بالاغتصاب" أكثر برزواً مقارنة بتعاملها مع حادثة "سدي تيمان" الموثّقة إسرائيلياً، وبالتالي لم تراعِ قواعد الدقة وتقديم البراهين في ما يتعلق بالاتهامات للحركة.

كذلك، جعلت صحيفة "واشنطن بوست" قصتها حول انتهاكات حماس الجنسية المزعومة ثاني أعلى قصة على صفحتها الأولى، واحتفظت بها حتى وقت متأخر من مساء 4 آذار/مارس الماضي.

وبالمثل، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" تقريرها الخاص حول الموضوع نفسه تحت عنوان "السبت الأسود لإسرائيل: القتل والعنف الجنسي والتعذيب في 7 أكتوبر". لذا، يمكن القول إن تلك المقالة كانت أبرز قصة في صفحتها الأولى في 31 كانون الأول/ديسمبر الماضي.

أيضاً، أبرزت صحيفة "يو إس أيه توداي" الحادثة المزعومة لاغتصاب الإسرائيليين لعدة أيام في تقريرها الصادر في 20 كانون الأول/ديمسبر الماضي. واللافت أن تلك القصة بقيت ضمن "أهم العناوين الرئيسية" في اليوم التالي، واستمرت في أسفل الصفحة الأولى حتى اليوم التاسع والعشرين من الشهر ذاته.

هل حال وسائل الإعلام المرئية أفضل من المكتوبة؟

ما ورد أعلاه قد يكون قابلاً للهضم أمام سوداوية المشهد في منافذ الأخبار الأميركية عبر "الكابل"، والتي يعتمد عليها ويثق بها معظم الجمهور الأميركي للحصول على أخبارهم، فشبكتا الكابل الرئيسيتان الأكثر حزبية، MSNBC وFox News، لم تغطيا فضيحة جيش الاحتلال الجنسية، مع أنهما أفردتا ساعات عدة لتشويه صورة حماس ولصق تهمة الاغتصاب بعناصرها.

الاستثناء الوحيد كان CNN التي تحدثت عن قصة "سدي تيمان"، وإن عمدت إلى تخبئتها بعيداً في أسفل الصفحة الرئيسية لموقعها الإلكتروني في اليوم الذي انفجرت فيه الفضيحة، إضافة إلى تفصيلها محتوى الفيديو، فضلاً عن نشرها تقريراً يتناول تعذيب الاحتلال للأسرى الفلسطينيين.

في المحصلة، انضم الإعلام الأميركي إلى قائمة المؤسسات الأميركية، السياسية والدبلوماسية والتعليمية، التي سقطت بشكل مدوٍّ في امتحان الأخلاق والإنسانية والحياد والنزاهة والموضوعية الذي تمنح غزة وحدها علامات النجاح والرسوب فيه.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.