التمايز الأميركي الإسرائيلي.. أسبابه وحدوده
في الوقت الذي يتواصل فيه العدوان الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة، بدعمٍ أميركي تخرقه اعتراضات خجولة محكومة باعتباراتٍ مصلحية بحتة، هناك من ينشغل بتحميل هذا التمايز أكثر مما يحتمل. هذا المنطق تجلى في التعامل مع ردّ الإدارة الأميركية على تصريحات نتنياهو الأخيرة بتأكيدها الالتزام بـ"حل الدولتين".. فهل هذه رغبة أميركية حقيقية؟
يواصل رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، تصعيد مواقفه، في محاولةٍ لاستلحاق نفسه وإنقاذ شعبيته داخل الكيان. وفي هذا السياق، أعلن في مؤتمرٍ صحافي، الخميس، أنّ "إسرائيل تحتاج، في أي ترتيبٍ مستقبلي، إلى السيطرة على جميع الأراضي الواقعة غربي نهر الأردن"، وهو الأمر الذي يتعارض مع فكرة إقامة دولةٍ فلسطينية.
الإعلام الأميركي رأى في إعلان نتنياهو تسليطاً للضوء على "الانقسامات العميقة بين الحليفين المقربين، بعد ثلاثة أشهر من العدوان الإسرائيلي على غزة". حيث لفتت وكالة "أسوشيتد برس" إلى إعلان الولايات المتحدة في وقتٍ سابق أنّ "إقامة دولة فلسطينية يجب أن تكون جزءاً من اليوم التالي من الحرب".
وبالفعل، أعاد البيت الأبيض بعد التصريح، الإعلان بأنّه "ستكون هناك غزة ما بعد الصراع، ولن يُعاد احتلالها"، مضيفاً أنّ "أميركا لن تتوقف عن العمل على تحقيق حل الدولتين".
وقال الرئيس الأميركي، جو بايدن، إنّ "نتنياهو لا يعارض حل الدولتين"، بعد "نقاش" الأمر بينهما. قبل أن ينفي نتنياهو تقديمه أي تعهد لبايدن في هذا الشأن، مؤكداً على "موقفه الثابت منذ سنوات"، في إشارة إلى معارضته أقامة دولة فلسطينية.
كل هذا يبدو مفهوماً في سياقه، ومنسجماً مع تقديم الولايات المتحدة نفسها تاريخياً كـ"طرفٍ راعٍ للسلام، يرفض العنف من كلا الطرفين"، وإصرارها على الادعاء أنها "تضغط" على كيان الاحتلال لوقف عدوانه الحالي على غزة من دون تحقيق نتائج إيجابية حتى الآن.
ولكن هناك من انساق إلى ترويج الرواية الأميركية بشأن رغبة واشنطن بإنهاء الحرب وحرصها على أرواح الفلسطينيين، وحقهم في دولة مستقلة، وانزعاجها من أفعال نتنياهو ومن تصريحاته على السواء. هكذا، أخذ الحديث عن "انتقادات أميركية حادة" لـ "التصريح المفزع" و"الخطير" و"المتناقض مع السياسة الأميركية"، و"تعليق المساعدات"، و"القلق الأميركي بشأن أرواح الفلسطينيين" صدارة المشهد السياسي، ولكن، هل يتناقض تصريح نتنياهو فعلاً مع مسار السياسة الأميركية؟
العدوان على غزة.. والتمايز المزعوم
يرى الإعلام الإسرائيلي أن الأخبار حول قيام الولايات المتحدة بالضغط على "إسرائيل" لوقف القتال يجب التعامل معها بتشكيك كبير، فقد شدد الكاتب نحميا شترسلر، في مقالة له نشرتها صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية،في كانون الأول/ ديسمبر الفائت، أنها أخبار مزيفة ينشرها أولئك الذين يريدون الشر لـ"إسرائيل"، مضيفاً أن الرئيس الأميركي جو بايدن يعارض وقف النار.
وتابع أن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض ضد قرار في الأمم المتحدة لإنهاء الحرب، مؤكداً أنّ "القضاء على حماس"، هو أيضاً مصلحة أميركية واضحة.
ولكي يكون ممكناً التصديق أنّ الولايات المتحدة "منزعجة" من العدوان وآثاره، وأنّ لانزعاجها هذا أسباباً إنسانية وأخلاقية، ينبغي أولاً نسيان تاريخها الإجرامي، مباشرةً وبالواسطة، الممتد من فيتنام وكمبوديا إلى أفغانستان والعراق، وصولاً إلى اليمن وسوريا وغيرها.
بدايةً، لا يمكن النظر إلى تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن وأعضاء إدارته، التي تحاول أن تكون "معتدلة" و"متوازنة" في ما يخص العدوان على قطاع غزة، بمعزل عن الإرباك الذي سببته معركة "طوفان الأقصى" للأولويات الأميركية، وإجبارها للولايات المتحدة على التحرك بالمنطق الذي لا تريده، والتعاطي في آن واحد مع ثلاث جبهات مستنفرة ومتلهفة للمواجهة: محور المقاومة والصين وروسيا.
ولا يمكن النظر إليها كذلك، بمعزل عن محاولة استدراك ما يمكن استدراكه، مما فضحه الانتقال الأميركي المباغت، بفعل تسارع الأحداث، من الدفاع عن حقوق الإنسان في كييف إلى تشجيع الإبادة الجماعية في غزة.
وقبل كل شيء، لا يجوز إغفال أن الولايات المتحدة تدرك أكثر من الجميع، وفي طليعتهم "إسرائيل"، مدى خطورة توسع الحرب، ومدى عمق المستنقع الذي يحاول نتنياهو جرّها إليه، في ظل عدم استعدادها للدخول في حرب شاملة تخوضها إيران بكامل قوتها ومعها حزب الله وبقية أطراف محور المقاومة.
وفي هذا السياق، قال القنصل الإسرائيلي العام في نيويورك سابقاً، ألون بينكاس، في مقال نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في كانون الأول/ ديسمبر الفائت، إنّ المحيطين بالرئيس الأميركي جو بايدن يرون كيف يحاول رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو الربط بين مصيره ومصير "إسرائيل".
ورأى بينكاس أن نتنياهو يُحدث أزمة علنية مع الإدارة الأميركية من أجل تخليص نفسه من أزماته، معتبراً أنّ "اللحظة التي ينفد فيها صبر بايدن، وفيها يميز بشكل حاد بين دعمه لإسرائيل وسلوك نتنياهو، تقترب".
وإذا كانت مصالح نتنياهو السياسية الخاصّة قد تقاطعت مع المصلحة الأميركية مرحلياً، فليس شرطاً أن يستمر هذا التقاطع إلى الأبد، ومن البديهي أن المصلحة الأميركية تتقدّم على كل ما عداها، إلا إذا ركنّا إلى الفكرة التي تتحدث عن انخراط أميركي في المشروع الإسرائيلي، وهي فكرة يتم اجترارها منذ عقود رغم هشاشتها.
الولايات المتحدة و"إسرائيل".. مَن يتبع مَن؟
منذ عقود، يحاول أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، نسف فكرة عربية تقول إن الولايات المتحدة الأميركية وانتخابات الرئاسة فيها، وسياستها الخارجية، تدار بالكامل من قبل اللوبي الصهيوني، وإن كل رئيس جديد يجري اختياره على أساس مدى ولائه لإسرائيل وتبعيته لها. ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ "إسرائيل" تقود العالم كله من خلال قيادتها للولايات المتحدة.
ويكرر السيد نصر الله، وهو المعروف بسعة الاطلاع ورجاحة العقل والاحتكام إلى المنطق، أن إسرائيل ليست سوى أداة في يد الولايات المتحدة، وقاعدة متقدمة لها في بلادنا.
وانطلاقاً من هذا التوصيف، حمّل السيد نصر الله الولايات المتحدة المسؤولية الكاملة عن الحرب الدائرة في غزة، مجدداً اعتباره "إسرائيل" مجرد أداة تنفيذية.
ولعل أوجز ما يختصر هذه العلاقة قول الكاتب التركي أوتكو ريحان، إن "إسرائيل تحتاج الولايات المتحدة كي تبقى على قيد الحياة، بينما تحتاج الولايات المتحدة إلى إسرائيل كي تبقى في المنطقة".
لا يمكن تجاهل أنّ تأثير الجالية اليهودية داخل الولايات المتحدة يفوق تأثير غيرها من الجاليات، لأسباب تتعلق بالتفوق العددي والتعاطف التاريخي، وأنه يرمي بثقله على الحياة السياسية الأميركية، ويساهم في تشكيلها، ولكنه أمر يختلف تماماً عن قيادة "إسرائيل" للولايات المتحدة والتحكم في سياساتها.
وبالعودة إلى الموقف الأميركي "الحقيقي" من العدوان الحالي على قطاع غزة، ينبغي الوقوف أمام جملة من المعطيات التي تبدأ من حصول كيان الاحتلال على مساعدة سنوية ثابتة من الولايات المتحدة بقيمة 3.8 مليار دولار حتى عام 2028، ولا تنتهي بموافقة إدارة بايدن على مساعدة تتجاوز قيمتها 14 مليار دولار في 20 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، فضلاً عن الجسر الجوي الذي يعمل على تعبئة مخازن السلاح الإسرائيلي.
وكانت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، قد تحدثت عن تزويد الولايات المتحدة كيان الاحتلال بقنابل كبيرة خارقة للتحصينات، من بين عشرات الآلاف من الأسلحة الأخرى وقذائف المدفعية، خلال الحرب المستمرة على غزة. ونقلت عن مسؤولين أميركيين، قولهم إنّ "موجة الأسلحة، بما في ذلك ما يقرب من 15 ألف قنبلة و57 ألف قذيفة مدفعية، بدأت بعد وقت قصير من هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
وكان البيت الأبيض قد أعلن معارضته طلباً قدمه السيناتور الديمقراطي بيرني ساندرز يقضي بتجميد المساعدات الأمنية لـ"إسرائيل" ما لم تصدر وزارة الخارجية تقريراً خلال 30 يوماً لبحث "ما إذا كانت إسرائيل قد ارتكبت انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان في حربها على غزّة"، قبل أن يصوّت مجلس الشيوخ بالرفض على الطلب.
النفاق الأميركي.. و"حلّ الدولتَين"
الكلام الأميركي عن "حل الدولتين" بوصفه السبيل الوحيد لإنهاء الصراع، ليس جديداً، ولكنه لم يكن يوماً أولوية أميركية، ولا يعدو كونه مجرد خطاب إنشائي تردده الأوساط الرسمية منذ عقود، من دون سعي حقيقي لتنفيذه، ولو أرادت الولايات المتحدة ممارسة ضغط فعلي في هذا الاتجاه لقامت به في العقود السابقة.
ما تريده الولايات المتحدة الأميركية للفلسطينيين اليوم، لا يتجاوز ما أرادته لهم في أوسلو، وما يمثله نموذج سلطة التنسيق الأمني القائمة حالياً، والعاجزة حتى عن توجيه أي انتقاد لكيان الاحتلال.
الحد المسموح به أميركياً من "الاستقلال" و"الحكم الذاتي" للفلسطينيين، يختصره استشهاد الوزير الفلسطيني زياد أبو عين في العام 2014 بعد تعرضه للضرب من قبل جنود الاحتلال أثناء تظاهرة ضد الاستيطان، واكتفاء الرئيس الفلسطيني بإدانة جريمة القتل ووصفها بالبربرية، من دون أن يتمكن من فعل شيء إزاء إغلاق الاحتلال ملف التحقيق من دون استدعاء الجندي المتهم بقتل الوزير الفلسطيني.
الإجرام نهج إسرائيلي.. لا طباعاً فردية..
وليس بعيداً من اصطناع تمايز بين الولايات المتحدة الأميركية وأداتها العدوانية "إسرائيل"، يتسرّب إلى سرديتنا تمايز آخر مفتعل بين نتنياهو وسواه من الساسة في كيان الاحتلال.
ويوحي اقتطاع العدوان الإسرائيلي الحالي من سياقه التاريخي، وربط معاناة الفلسطينيين كلها بشخص نتنياهو، وطباعه، وتمرده على الإدارة الأميركية، بأن تاريخاً من الإنسانية والرحمة والرأفة بحق الفلسطينيين طبع فترات حكم أسلافه من بن غوريون إلى أولمرت. ويقود هذا الربط إلى تصور مضلل بأن نهاية مسيرة نتنياهو السياسية هي يوم الخلاص للفلسطينيين، وأن من سيأتي بعده من المرشحين المحتملين سيكون أقل إجراماً منه.
وفي الواقع، فإن العدوان الحالي والمستمر على قطاع غزة، ليس سوى امتداداً لسلسلة من الاعتداءات التي تلت تحرير القطاع، ففي العام 2008 شنت إسرائيل حرباً عدوانية على اقطاع أطلقت عليها "عملية الرصاص المسكوب".
وفي العام 2012 شنت عدواناً عسكرياً أسمته "عمود السحاب"، بدأته باغتيال رئيس الجناح العسكري لحركة حماس في غزة أحمد الجعبري، بغارة جوية.
وفي العام 2014 شنت "إسرائيل" عدواناً على غزة، أطلقت عليه "عملية الجرف الصامد"، وردت كتائب القسام بمعركة "العصف المأكول"، وكذلك ردت حركة الجهاد الإسلامي بعملية "البنيان المرصوص".
وفي العام 2021 أطلق كيان الاحتلال عدوانه الجديد "حارس الأسوار" لتردّ المقاومة بـ "سيف القدس".
وبين هذه المعارك الكبرى، لم يتوقف "جيش" الاحتلال عن ممارسة عدوانه على الغزيين، ولم يخلُ عامٌ واحد من سقوط شهداء وجرحى من المدنيين، ولم يغير في هذا الواقع وجود نتنياهو أو أولمرت أو سواهما على رأس السلطة السياسية في كيان الاحتلال.
تقزيم القضايا.. والحلول الوهمية
في الواقع، وقع الرأي العام العربي مراراً، في فخ "تقزيم القضايا"، وبأشكال مختلفة، منها التركيز سلوك عدواني بعينه، أو شخصية سياسية أو عسكرية بعينها، كما في حالة نتنياهو، أو حتى على معاناة شريحة معينة من الفلسطينيين في ظل الاحتلال، دون غيرها.
وباستثناء ما تفرضه الواقعية على الأسرى في سجون الاحتلال، من تجزئة نضالهم لانتزاع بعض الحقوق البديهية بالتدريج والتقسيط، ومن داخل السجون، فإن سياسة التجزئة في التعامل مع الاحتلال، لا تنفع، لا في المطالب، ولا من حيث المفاضلة بين حزب وآخر، أوبين مرشح وآخر لمنصب رئاسة الحكومة، كما لا يمكن افتراض التمايز بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" إلا بالمقدار الذي تفرضه مصلحة كل منهما.
وبصرف النظر عن مقدار النفاق في زعم الأميركيين رغبتهم في منح الفلسطينيين دولة مستقلة، فإنّ العنصر الأساسي الذي يحدّد مسار الأمور، هو موقف المقاومة الفلسطينية الثابت، ومن خلفها جبهة عريضة ومتماسكة، يجمعها تصور واحد لنهاية الصراع: فلسطين حرة من النهر إلى البحر، وزوال الاحتلال.
وهو موقف مبدئي للمقاومة يتأتى أولاً من النظرة إلى الصراع كصراع وجودي لا حدودي، ثم من ثقتها بقدراتها وإمكاناتها، التي تتعزز كلما خاضت حرباً جديدة في مواجهة الاحتلال وخرجت منتصرة، ثم من معاينة آثار تجربة أوسلو المريرة والاستفادة من الدروس والعبر التي انطوت عليها.