الولايات المتحدة وأوروبا في أوكرانيا.. معادلة الخبز والطاقة والسلاح
الطاقة تمثّل مشكلة معقدة تجمع أوكرانيا بثاني أكبر داعميها، الاتحاد الأوروبي، الذي استنفذ نصف مخزونه من الغاز هذا الشتاء، في ظل إعلان ترامب أن "الولايات المتحدة لن تضخ المال بعد الآن بدون عائد على شعبها".
-
الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي
"أعلن الرئيس ترامب بوضوح أن الولايات المتحدة لن تضخ المال بعد الآن بدون عائد على الشعب الأميركي. إن مراجعة وضبط المساعدات الخارجية بالنيابة عن الكادحين دافعي الضرائب الأميركيين واجب أخلاقي". هكذا قالت وزارة الخارجية الأميركية في تصريح رسمي، بدا مقدمة لتخفيض كبير للإنفاق على صورة ونفوذ أميركا، وجبهات ونقاط تمثل القوة الناعمة ومِنح السلع الأساسية فيها ضرورة سياسية واستراتيجية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتشكّل النظام الدولي بهيئته الحديثة.
تُعد الولايات المتحدة أكبر مصادر "المساعدات الإنسانية" التي تتابعها الأمم المتحدة في العالم، أي 42% من إجماليها، ما بلغ حوالي 14 مليار دولار عام 2024، لذلك جاءت تداعيات قرار ترامب بقطع وتجميد مساعدات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID كارثية، خاصة في مناطق تمثل حلقات أضعف للنظام الدولي بفعل الصراعات والحروب.
نقص التمويل والطاقة
في مقدمة المتضررين أوكرانيا، التي تشهد اعتمادية اقتصادية على الغرب الجمعي منذ بدء الحرب، تشمل المجال الإغاثي والإنساني مثل العسكري، وحتى الرواتب الحكومية ومخصصات التقاعد، ما أطلق حالة تفكك وفوضى في صفوف منظماتها غير الحكومية المعنية برعاية ضحايا الصراع، التي تتلقى المئات منها الأموال من الوكالة الأميركية (بشكل أساسي)، باتساع تضاعف باستمرار الحرب وتفاقم تداعياتها الاقتصادية، ليشمل مجتمعات محلية عديدة ومجالات مثل الزراعة والرعاية الصحية والتعليم والطاقة. وقد قدمت الوكالة الأميركية منذ انطلاق العملية الروسية 30 مليار دولار إلى الموازنة الأوكرانية مباشرة، و5 مليارات بصفة مساعدات تنمية، و2.6 مليار مساعدات إنسانية.
لذلك شهدت الأيام الأخيرة موجة تسريحات واسعة في المنظمات والكيانات الشريكة للوكالة، واضطر بعضها لمنح الموظفين إجازة مفتوحة، والبعض الآخر لبيع أصول لسداد التزامات مالية، بعد أن مُنعت الوكالة من التواصل معها إلا لنقل نفس الرسالة: سيتوقف التمويل. وسادت حالة هلع في أوساط المنظمات غير الحكومية، وفق تصريح أحد مسئوليها لوكالة رويترز، وتعمل منظمته في مجال التعليم وتدريب الخريجين على التدريس، قال إن وراء كل منحة مجمدة موظفون كانوا يواجهون ظروفاً عصيبة بالفعل قبل قطع التمويل.
اللافت أن الرئيس الأوكراني أكد مؤخراً، تعليقاً على قرارات ترامب، أن المساعدات العسكرية لم تتأثر بخطة الأخير لخفض الإنفاق، مع كون أميركا مزودها الأكبر إلى أوكرانيا، لكنه أعرب عن قلق بشأن وقف تمويل مشروعات حيوية لدعم الاقتصاد، في مجالات البنية التحتية والطاقة والصحة. وفي الخلفية أزمة كشفها تسريب لمسؤول سابق في نقل وتوزيع الغاز الطبيعي عن انخفاض المتاح في المخزون إلى حوالي 10% من السعة الكاملة، ما يعني الحاجة إلى خفض الاستهلاك اليومي بقدر 60 مليون متر مكعب، وبالتالي العجز عن تلبية الطلب المحلي والاضطرار للاستيراد، وأن النسبة كانت حوالي 20% منذ عام وبلغت حوالي 23% عام 2023، وأن الصقيع في هكذا وضع قد يفرض الاستيراد بأي سعر.
تمثل الطاقة مشكلة معقدة تجمع أوكرانيا بثاني أكبر داعميها، الاتحاد الأوروبي، الذي استنفذ نصف مخزونه من الغاز هذا الشتاء، لينخفض بنسبة 25%، وهو أكبر انخفاض منذ عام 2018، وباتت احتياطياته أقل بنسبة 16% مقارنة بمطلع عام 2023. ليواجه المعضلة التي تواجهها أوكرانيا وذكرتها رئيسة أبحاث الغاز الطبيعى فى مجموعة جولدمان ساكس: كلما كان مستوى المخزون أقل بنهاية شهر آذار ـ مارس، كلما صعبت إعادة الملء قبل الشتاء المقبل. وبادرت أوكرانيا بتعقيد الموقف الأوروبي برفضها تمديد نقل الغاز الروسي عبر أراضيها، أول العام الحالي، ما بدا خطوة للضغط على روسيا بحرمانها من العائد، ولدفع الاتحاد إلى تصعيد وانخراط أكبر.
لكن الضغط لم يسهم في حل الأزمة المتشابكة، ورغم استمرار الصراع مع روسيا بلغت مشتريات الدول الأوروبية من الغاز الروسي المسال مستوى قياسيا في 2024، قدره 17.8 مليون طن، أعلى من مستوى عام 2023، وقدره 15.1 مليون طن، وعام 2022 وقدره 16.4 مليون طن، وفاقت الإمدادات الروسية لأوروبا عبر الأنابيب (قبل رفض كييف تجديد اتفاق نقل الغاز الروسي المنتهي آخر العام الماضي) إمدادات الغاز المسال عبر السفن. الخلاصة أن الاتحاد الأوروبي بات مضطراً للمساهمة في حل أزمة الاقتصاد الأوكراني بعد انسحاب أميركا، وفق مقتضيات إنسانية واستراتيجية واصطفافه الواضح ضد روسيا، لكن محصلة استهلاكه للطاقة وهذه الخطوة الأوكرانية استيراد الغاز "بأي ثمن".
الاستجابة الأوروبية على خطى ترامب
بموازاة اجتماعات رئيس المجلس الأوروبي، أنطونيو كوستا، "غير الرسمية" التي يجريها الأسبوع الحالي مع قادة أوروبيين، منهم سكرتير الناتو ورئيس الوزراء البريطاني، بشأن الاستثمار في مجال الدفاع تحديداً، تبدو المؤشرات والخطوات الأهم للاتحاد الأوروبي تجاه أزمة أوكرانيا الاقتصادية - حتى الآن - عسكرية، من دون مشاريع حلول اقتصادية مستدامة أبعد من المنح المالية الطارئة، مع هشاشة الوضع الاقتصادي، خاصة بعد انسحاب USAID وأثره المعيشي على الأوكرانيين.
قد يكون السبب رفض أميركا سابقاً السماح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ بعيدة المدى، وتعويض أثر تقتير أميركي نسبي في التسليح، كشفته رويترز مؤخراً في تقرير كشف تأجيل إدارة بايدن تسليم شحنات من المعدات والآليات خلال عام كامل، ما أضعف القوات الأوكرانية في الجبهات الأمامية، بموازاة انكسار توغلها داخل الأراضي الروسية، وتواصُل التقدم الروسي البطيء في جنوب شرقي البلاد.
تجلي ذلك في إعلان كوستا أن دول الناتو في الاتحاد (وعددها 23) رفعت إنفاقها على الدفاع المشترك بنسبة 30% منذ بدء الحرب، وأن قمة الناتو التي ستعقد في حزيران- يونيو القادم ستشهد قراراً برفع الإنفاق العسكري ليتجاوز الحالي، ونسبته 2% من الناتج الإجمالي. رفع يمثل استجابة أولية لأحد مطالب ترامب، أي وصول الإنفاق إلى 5%، الذي يصفه خبراء ومسئولون بالمستحيل، لاحتياجه فوائض مليارية لا يمكن تدبيرها.
لكن كوستا ترك الباب مفتوحاً وأكد أن النسبة قد تبلغ هذا الحد أو أقل، مرجحاً اتخاذ قرار الرفع بالمبدأ، ووصف روسيا بالتهديد الرئيسي للحلف، داعياً إلى إعطاء الأولوية لتحسين الدفاع الجوي ومنظومات الحرب الإلكترونية ومضادات الصواريخ. وقال إن الصناعات والتكنولوجيا العسكرية تدعم تنافسية اقتصاد الاتحاد الأوروبي، وتتطلب تمويلاً مشتركاً يجب على الدول الأعضاء مناقشته.
في آب- أغسطس الماضي، طلبت أوكرانيا إذن أميركا باستخدام صواريخ أتاكمز بعيدة المدى لاستهداف مواقع عسكرية روسية معروفة، وفق تقرير لمعهد دراسات الحرب في واشنطن، رصد إعادة تموضع أجرتها روسيا لطائرات ومعدّات أبعدتها عن خط المواجهة، شملت 16 قاعدة جوية، تحسّباً لضربة بعيدة المدى، وقال إن ذلك، مضافاً لمحدودية عدد صواريخ أتاكمز المزودة بها أوكرانيا، جعل الطلب الأوكراني بلا معنى. ومن ناحية أخرى يواجه استخدام صواريخ ستورم شادو معضلة سياسية، إذ طوّرته فرنسا وتشارك في تصنيعه إيطاليا، ويحوي مكوّنات أميركية، ما يجعل بريطانيا نفسها محتاجة لإذن أميركي قبل السماح لأوكرانيا باستخدامه، ويُكسب وعيد روسيا أنها تعتبر استخدام أسلحة غربية بعيدة المدى ضدها هجوماً من الناتو ثقلاً فارقاً.
ظل استخدام الصواريخ بعيدة المدى محل جدال أوروبي أميركي طويل، وانتظار أوكراني لم يلق موافقة من إدارة بايدن، رغم تشجيعها للتصعيد ضد روسيا. ويظهر أحد انعكاسات ذلك مؤخراً في أقوى حلقات الاتحاد الأوروبي، وقاطرته الاقتصادية الأكبر، ألمانيا، حين وافقت لجنة الموازنة في البرلمان على صرف معونة عسكرية لأوكرانيا، قدرها 3 مليار يورو، بعد 8 مليارات منحتهم الحكومة للأخيرة العام الماضي، ورغم غياب الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم عن التصويت. اتجاه يوافق رؤية ترامب برفع الإنفاق العسكري الأوروبي، رغم سعي إدارته إلى تحميل أوروبا كلفة أمنها الاستراتيجي بالكامل، وابتزازه لها بهذه الورقة في مجال الاقتصاد، لإضفاء مشروعية على إخضاع منتجاتها لتعريفة جمركية، بحجة أن أميركا تمنحها حماية عسكرية مجانية.